الشاعر الذي سرقَني وقتل حبيبتي.. قراءة في ديوان إسلام نوار “كارمينا بورانا في إذاعة مترو القاهرة”

كارمينا بورانا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ياسر جمعة

أقرأ” كارمينا بورانا في إذاعة مترو القاهرة” للمرة الثانية وأذهب إلى حبيبتي، أذهب إليها وكأنها وطني، وكأنها أمي، أذهب إليها وأنا غاضبٌ ومنهزمٌ وحزينٌ-أم كنتُ سعيدًا؟ – حيث كانت أسباب الخصام التي جعلتنا نهجر بعضنا لشهورٍ ماثلةٍ في خيالي، بجوار صوت الشاعر الذي تسلَّل إليَّ، بجوار رغبتي فيها التي تفجَّرت فجأةً، لذا ما إن تفتح بابها متفاجئةً أودُّ أن أبادرها: اشتقتُ لكِ، أودُّ أن أعتذر عن الخصام والبعد، وأجدني أقول:

“هل دخل الجيش إلى هذه المدينة كميليشيا،

أم دخل الجيش إليها كمرتزَقة؟”*

بصوتٍ ليس لي، فيتبدَّلُ الجفاء في وجهها لاندهاشٍ، وتهزُّ رأسها متسائلةً: إيه؟ أقول:

“لا شيء في الشارع غير قمامتهم،

لا أحد في الشارع غير المجاذيب”*

هل رأت الجنون في وجهي؟ هل رأت الوَهَن؟ هل قالت: مالك؟ بلهفة أُمٍ، أم قالت: ماذا بك؟ كأنها شخصيِّةٌ في قصةٍ رديئةٍ وسمجةّ؟ لا أذكر غير أني أواصل كمن يخرج منه الكلام رغم إرادته:

“أنا أيضًا لي مدرَّعةٌ عليها رأسي المنحوتة، وعليها رؤوس الأطفال الآخرين الحقيقيين، وعليها الرؤوس المزيَّفة التي نُحِتَت مصادفةً”*

فتجذبُني إلى حضنها وهي تسألني: مالك؟ وتغلق الباب، أهمس:

“أنا أَقْتُلُ”*

تُبعدني لتنظر في عينيَّ، هل كنت أبكي وأنا أردِّد:

“المدينة تملأ أشباحها بالضحكات التي تشوِّش نظري”*

تضمُّني مرةً أخرى وتشاركني البكاء، فتحضرني بعض لحظاتنا، تلك التي كانت تغسل الروح تحديدًا، أستنشق عنقها مغمض العينين، ولكني أجدني في حاجةٍ للنظر في عينيها، لذا أرفع رأسي، وما إن تنظر إليَّ أقول:

 “عن أيِّ شيء كانوا يدافعون هؤلاء الموتى الممتلئة وجوههم بالندوب إن لم تكن هناك حربٌ قد حدثت؟”*

– إهدأ.

تقولها وهي تجذب رأسي إلى ثديها، وقد قادتني إلى فراشها، فرحتُ أقبِّلهُ، من فوق الثياب قبل أن أجرِّدها منها، ثم أبدأ في رسم بلادٍ وأنهارٍ وسماءٍ عليه وأنا أهمهم: “كيف خرج الطفل من مدرسته ليُحكِمَ نصب المشنقة أمام مقبرته؟ كيف نظر هذا الطفل للحبل الملفوف حول عنقه؟ كيف نظر إلى يدَيه التي لفِّت الحبل؟ كيف نظر للعالم؟”*

تُغمض عينيها مستَثارةً، وتتخلَّل أصابعها شعري الأبيض، أقول في نفسي:

“هذا الصوت القبيح الذي صنعتْه لي هذه الأرض، لا يقول كم أنت رائعةٌ، وكم أنا مثيرٌ للشفقة”*

تتململ وتنظر بجفون مثقلَةٍ وهي تجذب وجهي كي أقبِّل شفتَيها، أو كي لا أصمت، فأقبِّلها وأنا أتمتم:

“سأتفاوض مع الرأس المنحوتة على سقف المدرَّعة أن يأتي الموت في المرة القادمة مجانيًا خاليًا تمامًا من الضرائب والاستقطاعات”*

هنا تتأوَّه، خفيفًا، وتهمس: وحشتني، وترفع ثديها الأيمن، أود أن أخبرها كم أنا مشتاقٌ إليها أيضًا، لكنني أقول:

“سيعود غشاء البكارة كلما فُضَّ، مساويًا المارشات العسكريَّة بغناء الطبيعة بهتافات الثورة، سأغني لمسار تطوٍّري الذي جعلني معيب الصنع لهذا الحدِّ، سأغني للطريقة التي أتناسل بها، سأغني معلنًا سيادة الدم”*

بعدها أصرخ بما يملؤني وأنا أطوف بشفتيَّ على جسدها، غير أنَّ صراخي يضيع في تأوهها اللاهث، ولكن عندما أدخلها، وتتعانق ساقيها حول وسطي، يتَّضحُ الصوت الذي ليس لي مرةً أخرى:

“سيتحدَّث عن الحرب أصحاب الياقات البيضاء، سيتحدَّث عن الجوع المقيمون في الفنادق الفايف ستارز، سيكتبون كلامًا حقيقيًا جدًا ومؤثِّرًا، سيكتبون الكلام الأكثر حقيقةً وتأثيرًا، لأن الموتى كتَّابٌ سيِّئُون”*

فتتوهَّج، تتوهُّج تمامًا، فأتشامخ، وأنا فيها، كشاعرٍ قد حوَّل كلَّ شيءٍ: الدين والوطن والعالم والأفكار السميكة، إلى كرةٍ من الثلج، ثم أَطلقَ حريق روحه عليها، بعدها تخلى عن كلِّ شيء.. كل شيء إلا جنونه، جنونه الرحيم وأمه، أمه التي سيتحدَّث إليها عمَّا رأى، عمَّا عاش- هل عاش فعلًا، أم هو ذاته مجرَّد فكرة في رأسٍ تهذي؟!- وعمَّا يرفض، شاعر سيحتفظ بأمه فقط ليتحدَّث إليها وهو يبكي، يبكي ويشكو إليها الظلم والتجبُّر والموت، يشكو إليها الله وما يتساقط من خياله المريض، يشكو إليها إهماله وساديَّته، ويشكو إليها الحياة، ويبكي، وقبل أن يجفِّف دموعه، سيسبُّها ويسبُّ الله والحياة ونفسه، بعدها سيذهب إلى حبيبته، وكلِّ حبيبةٍ، كقصيدةٍ تسعى كي تكتمل، كقصيدةٍ لا تكتمل إلا بقتل من تحب، لذا ملتُ على حبيبتي، بعد أن أهرقتْ كلَّ بحرها، بعد أن استرختْ، وسحبتُ سكِّينًا، ظننُّته في البداية من مجاز الكلام، وغرستُه في قلبها، وهي تنظر ممتنَّةً وتبتسم، تنظر لي وتضحك، لأقوم عنها وعلى صدري العاري دمًّ، وفي روحي قصيدةٌ لا تشبه إلا نفسها، تحتلّني كلُّ تفاصيلها كلعنةٍ، ويحتلُّني صوت شاعرها الذي راح يُردِّد:

“أَجري لأنجو معكِ

بين السعداء

أنا لست صغيرًا

أنا أكبر من الله الضائع

سأترك الغناء تحت تماثيل الميادين

وبكاء الخائبين بعد سكرهم”*

وما لبث أن مال وخضب أصابعه بدم حبيبتي، وبدأ يرسم على كلِّ الجدران بلاداً وأنهاراً وسماءً، وهو يبكي ويضحك ويتقافز، ثم خرج وتركني في بلاده وسمائه الدامية أقول بصوتٍ ليس لي:

“سيصحو مليون قتيلٍ في رقصةٍ أوبراليةٍ في ميدانٍ فارغً.”*

…………………..

*مقاطع من ديوان كارمينا بورانا في إذاعة مترو القاهرة

مقالات من نفس القسم