السيرة البندارية (9)

موقع الكتابة الثقافي art 29
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

وحضر الشيخ البنداري ،لتفقد أولاده، برفقة أولاد أخيه صلاح وصالح وابنه مصلح وقد بلغ العاشرة من عمره، وقد بلغ الشيخ من النحافة مبلغًا شديدًا، يتقوت بالضئيل الغير مذكور من الطعام. ولولا مجاراة الأسباب مَا ذَاقَ طَعَامًا أَوْ مَسَّ شَرَابًا، وقد بلغ من النورانية منزلة ملائكية، يذكرك بسمته، وإشاراته، وكلماته بأجيال سبقت نطالع سيرهم بين صفحات الكتب. 

ليقابلهم الشيخ العيساوي بين أبنائه من جيلين للبندارية. وتولى سيدي الشيخ أبو جمالة تربية جيل مزهر من حفظة القرآن الكريم، وهؤلاء قد سادوا عالم القراءة علمًا، وَأَدَاء وحفظًا، كلهم كانوا في استقباله. فرح سيدي محمود البنداري بثمار بذرته التي ألقاها بطيات تلك الأرض الطيبة.

 وهم يسيرون في موكبهم قابلهم موكب السادة الرفاعية، يمارسون طقسًا يسمونه”الدوسة” وهي أن يستلقي الرفاعية على ظهورهم ليمر شيخهم عليهم بحصانه، إلا أن صالحا قد أصابه حال غريب دفعه لأن يسبق شيخهم ويمر عليهم بحصانه، كرر فعل المرور أكثر من مرة، على عادته في امتطاء الخيول بلا سرج أو لجام، وبدون أن يصاب أحد ممن مر عليهم بحصانه من أذى، ليكبر الرفاعية، منتبهين لوجود الشيخ محمود البنداري، فيرحب به شيخ الرفاعية ويحتفي بهم أشد احتفاء ممكن. يعاتب الشيخ محمود البنداري صَالِحًا، ويردد أكثر من مرة ” أفشيت السر ياولدي، أفشيت السر ياولدي..” إلا أن صَالِحًا، قد غاب ثانية في عالمه.

اجتمع الشيخ البنداري مع ولده الشيخ العيساوي، فشعر الأخير بشئ غريب مختلف في هيئته، فقد صغرت عمامته  البنداري عما كانت. فيجهش العيساوي بكاء، فيبادره البنداري قَائِلًا” لن نفترق، عهدنا أن لا يفارق أحدنا الآخر حتى ولو فرقتنا العوالم.”

لم يكن صالح في حال يسمح بمشيخة الطريقة، وكذلك صلاح، أما مصلح فمازال صغيرًا، فانتقلت المشيخة من أبناء الصلب لأبناء العهد، وأصبح ولي الله العيساوي شيخ الطريقة البندارية بأمر شيخه محمود البنداري وهو بعد على عين حياته.

ليظل التساؤل من كان يطلب من؟ ومن كان يبحث عن الآخر؟.

وها هو الشيخ محمود البنداري يخطو خطواته الأولى نحو خلوته حيث كانت البدايات، وما استقرت عليه دائما مآلات الأمور والأحوال.

***

وبلغ سيدي محمود أبو جمالة الولاية من سبيل الله ونوره القرآن الكريم، فمنذ أعطاه شيخه محمود البنداري ورده الذي لم يجاوز تلاوة القرآن إلا وفتحت له من أبواب الخير، وكما مَنَّ الله عليه بتعلم القرآن، كان حَتْمًا أن يؤدي زكاته وهي تعليم غيره.

وكان سيدي محمود أبو جمالة خواصًا، يستيقظ  مبكرًا يصلي الفجر، ليقوم ولده عتمان بجمع خوص النخيل، ويصنفه لخوص دقيق وآخر خشن، الأول لمنتجات الخوص الدقيقة كالمفارش، وحصير الصلاة، والآخر الخشن للسلال الكبيرة وما تحتاجه البيوت من سلال متفاوتة الأحجام لحفظ الغلال والخبز، ثم يقوم بغلي الخوص في برميل ضخم، وحينما ينتهي أبو جمالة من صلاته وترديد أوراده، يكون عتمان قد انتهى من إعداد ما سوف يستخدمونه من الخوص الطري المعد للجدل ومن ثم صناعة ما تم الاتفاق  على تصنيعه.

وكان جلال الابن الثاني لأبي جمالة قد حذق الخياطة في القاهرة، وكان من أوائل من قام بذلك في البلدة، بعدما كان أهل البلدة يعتمدون على محلات الحياكة بالمدن المحيطة كالشهداء ومنوف. 

وحينما يفرغ الأب وولداه من أعمالهم، كانوا يشرعون في قراءة القرآن، ومراجعة حفظهم على يد أبيهم، ثم يتوافد الصبيان ومن أراد حفظ ومراجعة القرآن. 

حتى أتم الشيخ عتمان  حفظ القرآن مع أخيه جلال، وكان لجلال وعتمان أصوات شجية جميلة، بارعة في الانشاد ومدح النبي وآل بيته وكم أحيوا الليالي والمناسبات بشهر ميلاد النبي وموالد الأولياء والصالحين. وكان الشيخ عتمان يقوم بخطبة الجمعة بجامع البلدة الشرقي.

كانت عائلة أبي جمالة نفحة ربانية تهب الخير كله، تنفع الناس، وتبذل كل ما يحتاجه الناس، وكان لسيدي أبي جمالة خدمة قوامها الخبز والسلاطة فقط، ما ذاقها مريض إلا وعافاه الله، أو مكروب إلا وفرج الله عنه. 

كان تلامذة البنداري كالمصابيح المنيرة حيث حلوا، وأي كانت أعمالهم ومهامهم. كانوا من بركة شيخهم، وثمرات إخلاصه، وإخلاص من أخذ عنهم، وكانوا كرامة شيخهم الأكبر السيد البدوي.

***

تضاعفت المسئولية على سيدي السيد العيساوي خاصة وقد لازم ولي الله العيساوي خلوته ولم يعد يخرج منها إلا نادرا جدا. فكان سيدي السيد قائما بكل مهام شيخ البندارية بالإضافة لمهام تعليم الناس الخير، فكان سيدي عتمان أبو جمالة، وسيدي عبد الحليم بمثابة فريق المعاونة الخاص بسيدي السيد العيساوي.

ومن طول ملازمة سيدي عتمان لسيدي السيد وسيدي عبد الحليم طولان تفقه فقها متينا، وتمكن من الخطابة، خاصة وقد قوم القرآن لسانه، فتولى خطبة الجمعة بجانب قيامه بفلاحة أرضهم ضئيلة المساحة.

***

طالت مسيرة العشق، وامتدت رحلة السنين الطوال، وكان عَمْرًا فوق عمرك أيامه المحبة، وساعاته الصلاة بأنوار  شمس الطريق، وكفالة المحبين، فهل لك من فسحة عيش، أو أمل بقاء، وكنت البكري له، وهو قد رحل لعالم جديد، لن تره في عالمك ثانية، إلا رؤية في منام مؤرق، فتسعد الروح بلقائه، وتظن أنه قد عاد، وحينما تصحو عيناك، لاتلمح سوى الفناء، فيرتد بصرك لعالمك وهو حسير.

لم يعد لسيدي حلمي البكري،  بعد شيخه البنداري غير اجترار الذكرى، وتفاصيل هذه الليلة؛ ليلة اللقاء لا تبارحه، يبحث عن أثره في عيون إخوانه، ويتنسم  ضوع عطره في أنفاسهم يطوف على إخوانه مَنْزِلًا مَنْزِلًا؛ العيساوي، السيد، البسيوني، وأبي جمالة، كلهم في لوعته وشوقه، كلهم من مدد عهد البنداري يتقوى على لوعة فقده، ولكنك لم تعد كما كنت، 

-ياسيدي هبني لقَاء وَاحِدًا…

-ها قد أتيتك يابكري …

-ولكنك ياسيدي تسارع في الرحيل، ولا يبق لي غير الشوق  وتباريحه، وما عدت أقوى على ألم الفراق.

– وهل افترقنا يابكري؟ كنت معك في كل صلاة على النبي أردد بلسانك، وأقيم بقلبك، ألم تشعر باختلاط أنفاسي بأنفاسك، واختلاج نبضات قلبي بقلبك…ألم تشعر …؟

-بلى شعرت، ومازادني ذلك إلا لوعة. ولكن ياسيدي لا تتركني، فلا عيش لي بعدك…

يترجل محمود البنداري مفارقا صهوة جواد غريب الهيئة بخمسة أجنحة، يتنفس فيستحيل زفيره ياسمين وبنفسج تكتظ بضوعهما طرقات القرية. يمد البنداري يده، فيتلقفها البكري مُسْرِعًا بعين سرعة تلقفه العهد ليلتها، وينهض شَابًّا فَتيًا لا أثر لشيب، ولا وهن، وتتبدل عبراته فَرحًا…ويهل موكب البندارية سيدي عطية الكبير رديف سيدي أحمد البدوي على حصان أبيض مطهم، لاتلمس قوائمه الأرض، وسيدي جاب الله، وسيدي علي وسيدي عطية الأزهري والحسن السيد البنداري..وتقام الحضرة الأحمدية البندارية..ويلتحق البكري بديوان القرب الليلة.

يفزع سيدي العيساوي من خلوته، وهل يُقَام  لي ظهر بعدك يابكري، ذهب طيب الدنيا بذهابك يارفيق الطريق الطويل، تستيقظ البلدة على الخبر، ويهل صالح وصلاح ومصلح ويسرع على زهران والأحباب كلهم على غير موعد، أو سابق علم بالخبر…

وكأن وريد  قلب العيساوي قد انفصم، لتسيل دموعه مجرى دمه وريد يسلم وريدا، ويعاتب القلبُ القلبَ…

-ألم نكن سَوِيًّا في كل وقت، فلم سبقتني رَاحِلًا؟

-ألا تذكر ليلة العهد…لم أعاتبك حينما سبقتني بمعرفته، وحينما اختلط قلبك بمحبته قبلي، أحببته لحبك، وأحببني بحبك…

– ولكنك قد كنت البكري وكنت أنا الثاني، سبقتني للحياة بثوانٍ، كل ثانية بأعمار طويلة تحت سماء العشق…لم رحلت، وتركت روحي تتلمس الطريق وحيدة موحشة بالغربة بعدك…؟

– يدك يا عيساوي لا تحزن، فلا حزن بعد اليوم …

– ولكن لن نفترق ثانية…؟

– لا فراق بعد اليوم…

ولاحت رايات موكب الأفراح ثانية، وكان مجلس العيساوي على يمين البكري بمجلس الديوان الذي ترأسته المشيرة، وكذلك تجاور البرزخان..ولقب العيساوي في الغيهب بأبي المعارف.

كان الفقد شديد على القرية الطيبة، لم يفصل رحيل الحبيبين سوى شهور عدة، وأرخت لذلك القرية، فسمت العام عام الحزن.

واجتمع بندارية المشرق والمغرب، واختاروا للطريقة شيخها. وكان سيدي محمود أبوجمالة من توحدت كلمة البندارية وقبلهم الديوان على اسمه.

لتضرب البندارية المثل الأعلى في السماحة ونبذ العصبية، وتنتقل المشيخة للأصلح لا للأقرب دَمًا، فلا فرق بين بنداري وآخر كلهم إخوة عهد، لتغلب أخوة العهد أخوة الدم.

ويكون ذلك الانتقال الثالث للمشيخة من بيت البندارية لبيت العيساوية وتستقر لحين ببيت أبي جمالة القرآن.

لتنساب السطور عِطرًا بمنظومة البندارية تتغنى بسيرة الوليين العيساوي وأبي جمالة..

وَبِالعِيسَوِي امْنَحْنَا لَطَائِفَ حُكْمِهِ

هُوَ البَحْرُ فِي التَّحْقِيقِ وَ الشَّرْعِ مُتْقِنَا

وَلَمْ يَخْشَ دُونَ اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ

لَقَدْ أُعْطِيَ العِلْمَ اللَّدُنِّي وَ أَعْلَنَا 

كَذَا بِأَبِي جَمَالَةٍ  رَقِىَ الْعُلَا   

بِما قَرَاَ الْقُرْآنَ سِرًّا وً مُعْلَنَا 

فَيَا ذَا العُلَا نَدْعُوكَ أَكْرِمْ نُزُولَهُ

وَبَلِّغْهُ مَا يَرْجُوهُ مِنْكَ وَ عُمَّنَا…

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون