السهو والخطأ

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

صُوَرُنا في المرآة ليست متطابقة تمامًا،  عندما نصافح الآخرين، على سبيل المثال.  يبدو كما لو أن العالم انقلب، اليمين يصبح يسارًا، واليسار يمينًا، نحن في المرآة نُمثل أنفسنا، ولكن من زاوية مقلوبة. أفكر في هذا كلما جاءت تارا أخت زوجتي فيفيان لزيارتنا. حينما تقف تارا أمام فيفيان لتصافحها تبدوان كما لو أن إحداهما أمام مرآة، ولكنها حين تحتضنها يبدو كما لو أن هناك خللًا ما في الصورة. نفس الشعر البني، والتصفيفة القصيرة، نفس العيون الزرقاء، والطول المتوسط، والجسد الرشيق. ليس هنالك حاجب أكثر كثافة من حاجب، ليست هنالك ندبة مميزة، أو شامة في المناطق المكشوفة، أو جرام واحد زائد في أي مكان يمكن أن يُنبئ عن فارق بينهما. الصوت أيضًا واحد، في بعض الأوقات أستطيع تمييزه قليلًا وبصعوبة، الضحكة واحدة، كأن إحداهن مستنسخة من أخرى. حينما تقدمتُ لخطبة فيفيان شعُرت بالصدمة. كانت تحكي عن توأمها المتطابق كثيرًا، ولكنني لم أتخيل أن يصل التشابه إلى ذلك الحد. حتى في مزاجهما، كانتا ميالتين إلى الهدوء. لديهما رابط مقدس، تنجزان أعمالهما حتى تقضيا عطلة نهاية الأسبوع معًا. كانتا تكرهان الخروج كثيرًا، وتُفضلان البقاء في المنزل، ووجد هذا صدىً في نفسي، فقد كنت ميالًا بدوري للبيت، وأعتبر يوميّ العطلة فرصة للتخفف قليلًا من الصور التي تعلق في جسدي خلال أيام العمل.

 

رحل أبوهما، وتبعته أمهما. وهكذا قررنا أن نفتح الشقتين المتقابلتين على بعضهما. تارا قررت أن تكتفي بالعائد من وديعتها في البنك للصرف على نفسها، كما قررت أنها لن تتزوج أبدًا. كان كثيرون يأتون إلينا لخطبتها، ولكنها لم تكن تُكلف نفسها حتى عناء مقابلتهم، وبمرور الوقت تسرب إليّ شعور بأنها صارت جزءًا من حياتي. في السابق كنت متحمسًا لإقناعها بأنها لا بد أن تقابل هؤلاء الأشخاص فربما تجد من يُقنعها، ولكنها كانت تقول دائمًا إنها تكره الارتباط، وتذكر أمورًا كثيرًا عن القيود والعبودية وما إلى ذلك، وبمرور الوقت قَلَّت حماستي لهؤلاء الشبان المكتنزين أبناء الطبقة المتوسطة الذين يطرقون بابنا أو ينتظرونني في الشارع أو يأتون إليّ في مكان العمل، ومن فرط تكرار الجملة التي أنهي بها الحوارات معهم صرت أنطقها بدون أن أفكر “تارا مرتبطة بأحد أقربائنا في أمريكا، وسيأتي قريبًا لاصطحابها إلى هناك”. كانت فيفيان تتسلل أحيانًا من السرير وتذهب إلى غرفة تارا، ولا تعود إلَّا في الصباح، ومع تكرار الأمر صرت أقف أمام غرفة تارا وأحاول أن ألتقط أي صوت، ولكن كان الصمت يلفني كأن هناك من قام بطلائي بمادة عازلة للصوت. في الأغلب كانتا نائمتين. أقول لنفسي محاولًا طرد الهواجس التي تنتابني بين الحين والآخر.

ذات مرة وبدون مناسبة أحضرتُ تمثالًا من محل أنتيكات بوسط البلد لفيفيان، وحينما فتحت باب الشقة وجدتهما تقفان أمامي، ترتديان قميصي نوم متطابقين، يُظهر جزءًا من صدريهما، وأيضًا يسرح مع وقفتهما المتمايلة إلى ما فوق ركبتيهما. كانتا تبتسمان، وتتطلعان إليّ، وفهمتُ اللعبة فورًا. كانتا تختبران قوة ملاحظتي، وأنا استهوتنى  اللعبة، فألقيت التمثال على أقرب كرسي، وبدأت أدور حولهما. أثناء توقفي للحظات خلفهما كنت أتطلع إلى مؤخرتيهما الجميلتين، وأشعر أنني محظوظ جدًّا بأنني أمتلك نسختين من المرأة التي أحبها. كانت الرغبة تتطاير مني كما تتطاير مئات الشرارات من مجموعة أحطاب مشتعلة، لدرجة أنني خفت أن تمسك بقميصيّ النوم. كنت أريد تقبيل إحداهما في عنقها كما يروق لفيفيان، ولكنني كنت أخشى من ردة فعلهما. فيفيان لم تنتبه أبدًا لنظراتي التي تتفحص جسد تارا في جلسات السهر التي كانت تجمعنا في البلكونة صيفًا وفي الصالة شتاءً، أو كانت تنتبه ولا تلقي بالًا لها، ولكن تارا على وجه التحديد كانت تقبض على نظراتي بالضبط عند مُقَدَّم نهديها، أو في ثنيات أثوابها بعد الخصر، كانت تقبض عليها وتثبتها، ولكن لا يمكن أبدًا بدون نصف زجاجة ويسكي على الأقل أن أُقبل على هذا التصرف. وأخيرًا قررت أن أطبع قبلة على خد الصورة اليمني، بالقرب من الفم، فارتعشت قليلًا، بينما ضحكت الثانية هاتفة: خطأ.. أنا فيفيان!

وضعتُ يدى على شفتي، وربما كانتا تتخيلان أنني محرج، لأنهما كانتا تضحكان وتشيران إليّ، كان الضحك يسيطر عليهما، وكانتا تتعكزان على بعضهما، وهما تقتربان مني، بينما كنت أتلمس طعم القبلة، وأقبض عليها كأنني أخشى من تطايرها. احتضنتاني من الجانبين، وكنتُ أشعر في تلك اللحظة كما لو أنني محاط بجنة أثداء، وكنتُ أخشى من انتصاب سيكون مفضوحًا خصوصًا مع سقوط الضوء علينا من أباجورتي هالوجين متماثلتين ومتقابلتين في الصالة.

أمسكت فيفيان التمثال، ثم قالت ضاحكة إنها لا تقبل هدية إلَّا لو أحضرت مثلها لتارا، وهكذا على مدار الشهور المقبلة ستمتلئ الشقة بعدد هائل من الأزواج المتماثلة لتماثيل، وفازات، وكتب، وفساتين، وعطور. حتى تلك اللوحة التي أحبها لمار جرجس وهو يقتل الوحش صار لدينا منها اثنتان، إحداهما في مقدمة صالتي، أنا وفيفيان، والأخرى في امتدادها الذي كانت تمثله شقة تارا. أحضرتُ تلك اللوحة حتى يمكنني رؤيتها لو قررنا أن نجلس في الركن الأقصى البعيد الذي أحاول أن أتفهم أنه صار جزءًا من حياتنا. فيفيان كانت صيدلانية. صيدليتها أسفل العمارة بالضبط، وكانت تارا تنزل معها أحيانًا، وتعلمت بمرور الوقت أسماء الأدوية وأماكنها، وكان الزبائن يصابون بشيء من الدهشة حينما يشاهدونهما تقفان متجاورتين. إحدى العجائز قالت إنها كانت تظن أنهما شخص واحد، وإن هناك مرآة تفصلهما، كما أخبرتنى فيفيان.

كانت الرغبة تسيطر عليَّ ليلًا. أريد أن أنهض لأطرق باب تارا، وتفتح لي وتستقبلني عارية تمامًا، لا ننتظر حتى نصل إلى السرير، ونتداخل بكل هذا الاشتياق الطويل الذي أعرفه في نفسي وأراه في عينيها، نصطدم بدولابها، وربما بكرسي الفوتيه، أو نُسقط أدوات زينتها، ولا نشعر بأنفسنا، حتى لو جاءت فيفيان، يمكنها أن تتداخل معنا، لنصير ثلاثة في جسد واحد، ولكن فيفيان التي أشعر أنها تخترق عقلي وتقرأ أفكاري تنهض دون حتى أن تنظر إليّ لتكتشف إن كنت نائمًا أم لا، وتغادر، وأظل أتقلب. أحيانًا كنتُ أغادر خلفها، وأتنصت إلى الأصوات التي يمكن أن تصدر من غرفة تارا، وأحيانًا كنت أسترسل في الأفكار إلى ما لا نهاية لأستيقظ على يد فيفيان التي تضعها على خدي، بينما تقف تارا خلفها، وهي تصيح: “استيقظ يا كسلان”. لم يكن التمارض حجة مفيدة لأن الاثنتين تغادران معًا وتعودان معًا.

في تلك الليلة أيضًا عادتا للعب مجددًا، كانتا ترتديان بلوزتين وتنورتين قصيرتين، وأعطتني إحداهما ورقة بها جملة واحدة “لا تَقُل رأيك قبل أن نسكر”. كانتا تتمايلان أمامي وهما تحضران الأكواب وزجاجة الويسكي، بينما قررتُ لف مجموعة من سجائر الحشيش، كنتُ أتحدث بمفردي في كل شيء وكانتا تضحكان فقط، وحاولتُ جاهدًا تمييز صوت تارا على وجه التحديد، كنتُ أشعر بأنني أريد تركيز نظري إليها فقط، ولكن في كل مرة أمسك بخيط كان يرتد إلىَّ كـ”أستك” ويلسعني في وجهي، كنتُ أشعر بأنهما تستخدمانني، كأنهما تشحذان طاقتهما لسهرة تخصهما، كانتا تضحكان بقوة وتتحركان كثيرًا فوق كرسيهما، كنتُ أحاول رؤية ملابسهما الداخلية، كأنني سأستطيع من خلالها تحديد هويتهما، وخُيل إلىَّ بعد فترة أنهما لا ترتديان شيئًا. ماذا تنتظران لتبدآ حفلة جماعية محمومة. شغلتُ الموسيقى وبدأتُ الرقص فبدأتا في التمايل حولي والاحتكاك بي، إحداهما قالت لي فجأة “لا تتحرك”، ثم همست في أذن الأخرى. بدأتا تستخدمانني كعمود الاستربتيز، راقت لي الفكرة وبدأتُ في تسمير نفسي، ولكنهما كانت قويتين لدرجة أنني انهرت فجأة وتكومت على الأرض، وغرقنا في موجات متلاحقة من الضحك. في اليوم التالي استيقظت على صداع مؤلم، كأن هناك من يطرق على رأسي وبعد لحظات تأكدتُ أن الطرق كان على الباب، إحداهما كانت تقف في مواجهتي الآن. قالت لي إنها فيفيان، وإن تارا ذهبت إلى البنك، قفزتُ من السرير قفزًا، وانتبهتُ إلى أنني لا أرتدي شيئًا. اتجهتُ إلى الصالة وهي في إثري. صببت لنفسي كأسًا، فقالت مندهشة: “على الصبح؟!”.

 

 

الآن أشعر أنها لعبة جديدة منهما. ربما تكون هذه تارا وتحاول إقناعي بأنها فيفيان. إذا كانت فيفيان لماذا لم تضع يدها على خدي، لماذا كانت تطرق الباب على هذا النحو؟! أيضًا لو أنهما اتفقتا كان يمكن لتارا أن تنام بجواري، ليست لديهما مشكلة أبدًا طالما أن الحدود مرسومة ولو من بعيد، ماذا أقول؟! الصداع كان يعميني عن التفكير بهدوء. الأفكار كانت بطيئة وغريبة ومشوشة كأنها هي الأخرى تعاني من “الهانج أوفر”. صببت لها كأسًا، ولكنها رفضت بهزة خافتة من رأسها لا تخلو من ابتسامة. بعد قليل مددتُ يدي بسيجارة حشيش فأخذتها. سألتها إن كانت ستفتح الصيدلية اليوم فهزت رأسها نافية، حرصها على عدم الكلام كان يؤكد لي الهاجس الذي يكبر بداخلي. هذه ليست فيفيان، كان من الجيد أنهما اختارتا شخصية فيفيان لا تارا، وكان من الجيد أيضًا إقبالها على السجائر الواحدة تلو الأخرى، اقتربتُ منها وبدأتُ اللعب بشعرها، وكان جسدها يزداد ثقلًا، باتجاهي، كأنني صرت مركز الجاذبية. ثم بدأت يدي تسرح في صدرها، لم تكن تقاوم، وكان هذا مدهشًا ومثيرًا بالنسبة إليّ. فكرة أنها تارا أزالت كل الصداع دفعة واحدة، أعرف أنني نحيته جانبًا ليراقب ثم يعود لمهاجمتي في وقت لاحق، لا مشكلة، وحينما نظرت في عينيها كانتا دامعتين ولكنهما تنطقان بالرغبة، أمسكتُ بنهديها، كأنني أكور عجينتين قبل تشكيلهما، ثم صدمتني تلك الشامة بينهما. لم ألحظها سابقًا.. لا.. هذه ليست لفيفيان. إنها تارا. ربما لفيفيان ولكنني لم ألحظها سابقًا لأنها تميل إلى إغلاق الإضاءة في كل المرات التي نمارس فيها الجنس. لماذا تفعلان بي هذا، ولماذا لا تعترفان لنفسهما بأنهما تحبانني بهذا القدر؟! أقصد لماذا لا تعترفان أمامي؟! بالتأكيد يتحدثان عني، وهل وصلت درجة حبهما لبعضهما البعض إلى حد اقتسامي بينهما؟! كان هنالك شيء جديد يحدث أمامي، حركة جسدها كانت مختلفة، تأوهاتها كانت مختلفة أيضًا، ولكن ماذا لو كانت فيفيان تمثل أنها تارا. صرت فريسة للأفكار، ولكنها أوقفت تلك الأفكار بنهوضها فجأة، وهي تنظر إليّ بدهشة شديدة، قبل أن تنفجر في الضحك: “مالك يا مجنون؟!”. قفزتُ باتجاهها مرة أخرى، قبل أن يقفز الصداع باتجاهي. فيفيان، تارا.. تارا، فيفيان، فيفيان.. تارا.. ربما يكون هناك نوع من الخطأ، ولكن تلك اللحظة لم تكن بحاجة إلى خطأ، كان السهو فقط يكفي، والرغبة وحدها تكفي، والرغبة أكبر من الاثنين معًا. كانت الأفكار تتحرك ولكنها لم تعق جسدي أبدًا عن العمل، ولا نظراتي إلى الشامة التي كانت تكبر وتحاول التهامي

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون