السماعة البلوتوث

السماعة البلوتوث
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

1 ـ بمناسبة الفراغ

اشعر بوحدة غريبة .. غير مبررة ..

اشعر بانني اشبه طفلا متوجا على الفراغ لا يدري ما الجهات وما الوقت وما السكون .

تذكرت السماعة التي اعطيتني اياها قبل سفري بدقائق..حاولت ان اضعها لكنني اكتشفت انكِ نسيتي ان تحضري لي أهم ما يخص وضعها في أذني، الحامل البيلاستيكي الصغير.

ضحكت ولوهلة شككت في نفسي بأنني اضعت الحامل الصغير بينما انقل السماعة من الحقيبة الرومانسية التي وضعتها بها إلى حقيبتي الخشنة ذات الجلد الميت.

وضعت السماعة في اذني محاولا تثبيتها بشكل أو باخر عندما انطلقت منها فجأة أصوات هامسة كثيرة !!

فاجاتني الاصوات بل أنها ربما دفعت السماعة إلى أن تسقط من أذني !

نظرت إليها متعجبا..امسكتها ثانية كانت دافئة ناعمة، بل لنقل لينة رغم غرابة ذلك!

ماذا كنت انتظر حتى اضعها ثانية في أذني..شعرت أنني متوجس غير مؤهل لهذا!

هل هي الوحدة؟ هل هو الفراغ الذي اجلس على عرشه مثل ملك صغير على وشك أن يتخلص منه اتباعه رغم انه تنازل لهم عن السلطة !

وضعت السماعة في أذني مرة أخرى فانطلقت الهمسات ثانية متداخلة مهومة متشابهة..

فيها نداء وموسيقى وصمت.. فيها شعر وحروف وماء..فيها هندسة وسينما وغابات.

لوهلة سمعت أصوتها تأتي من سقف الغرفة..رفعت رأسي فإذ بالسهم الذي يشير إلى اتجاه القبلة يتحرك ببطء شديد كأنما ثمة مغناطيس يجذبه مغيرا اتجاهه..تعجبت بشدة..اهذا يحدث بالفعل أم هو سحر ما القته في رأسي تلك الهمسات المموهة التي تأتي من داخل سماعة بلوتوث عادية جدا ومستعملة.

الجو يبدو باردا  وثمة اضواء تضع البحر في حيرة من مصدرها رغم انها تطفو فوقه !

عدت للهمسات التي لم تتوقف وقررت أن اتخلص من تلك الهلوسات التي تصاحبها ..

احدهم يطرق باب غرفه اخرى..

لماذا لا يطرق احد باب غرفتي..

ألانه لا أحد يعرفني هنا

ام لانني لا أريد !!

وضعت السماعة جانبا، ربما فيما بعد سوف أجلس إليها كثيرا وأستمع إلى تلك الأسرار المخبأة في داخلها.

اشعر بأن لدي القدرة هنا والان على كتابة رواية طويلة، هل هو السفر؟ هل هو الماء الذي يصعد إلى غرفتي عبر النظر إليه ؟؟ هل هي السماء التي تتنفس ضوءا شفافا يشبه قبلات مفتوحة لشبق لا ينتهي!

في الغد سوف ارسل لكِ”هذا”الذي لا ادري ما اسمه، في الغد سوف انشغل وربما لن افكر فيكِ لكنني حتما سوف اعود إلى الغرفة في المساء لاضع السماعة في أذني وامتص بعضا من همساتها.

في الغرفة شاشتين بلازما إحدهما امام الفراش والاخرى إلى جانبها فوق المكتب. لم اجرب من قبل مشاهدة شاشتين تعرضان نفس المادة في نفس الوقت. هل حقا لا يوجد بينهم اختلاف حتى لو كانتا تعرضان نفس الفيلم! اشعر أنه امر يستحق التأمل، فلندعه إلى الرسائل التالية، لا شك انني يمكنني ان اكتب فصلا كاملا في تلك الرواية المأمولة عن هواجسي فيما يخص مشاهدة نفس الفيلم على شاشتين متطابقتين متجاورتين.

ما يهمني في الامر الأن هو الفيلم”فيكي كريستينا برشلونة”لوودي آلان.

شاهدت هذا الفيلم من قبل في القاهرة، لكنني هنا والآن تستوقفني تلك الجملة

(يحتاج كل رجل مبدع إلى أن يعيش مع امرأه )

يا لها من جملة عبقرية ومتوحشة،يالهذا الفراغ الذي تبعثه في الرئة.

الفراغ ثانية يا ربي.. ما هذه المملكة التي لست ادري كيف اتخلى عن عرشها !!

بمناسبة الفراغ..

(ما رأيك في هذا التعبير، ألا يصلح كعنوان لمجموعة قصصية أو ديوان شعر لن يكتب ابدا”بمناسبة الفراغ”، رائع وفخيم لكنه الأن يبدو مجرد تعبير إداري للأنتقال من هاجس لأخر في هذا الحديث الأحمق الذي ادونه لكِ دون غاية محددة، اللعنة! كم نبدد من طاقات لغوية في محاولاتنا الأنتقال من فقرة إلى أخرى، نحن صم حقا وفي احدقنا تراب وصدأ)

لاحظت انني في كل الغرف التي اسافر إليها لا أنام أبدا في منتصف الفراش، دائما ما أختار جهة ما وانام فيها، تاركا الجهة الأخرى خالية بل ربما دون أن انكش الغطاء من عليها.

دائما ما أترك تلك المساحة التي من المفترض أن تحتلها امرأة وودي آلان

(في حال كوني انا رجل وودي آلان المبدع !)

عندما كنت في وهران كنت انام في نفس الجهة التي انام فيها هنا في الدوحة، وفي دبي كنت انام في الجهة الاخرى. اكتشفت انني اختار دوما الجهة القريبة من النافذة، لست أدري لماذا رغم انني انزل تلك الستائر الثقيلة التي تمنع نفاذ الضوء وموسيقى النهار.

اريد ان انام، أشعر بالتعب وبالبرد وبالهواء الجاف يتحسس ساقي من اجل اشعاري بمزيد من الوحدة، الهواء البارد عادة ما يهاجم المستوحدين ويخشى الاقتراب من الثنائيات، انه اشبه بالذئب الذي يتصيد الخراف الشاردة (هل التعب يعني ان أبدأ في كتابة تشبيهات نمطية ماتت في اللغة)

أنا حمل شارد ووحيد اخشى الذئاب رغم أنني ابحث عن احد الجزارين ليريحني بسكينه من ذلك العناء الغامض.

الساعة تقترب من منتصف الليل هنا، يجب ان انام، لا يجب ان اترك نفسي متاحا لما أدونه لكِ. سوف اقراءه في الصباح وربما لا ارسله على الأطلاق في النهاية، من يدري!!

انني اشرع في الكتابة كأنني أكتب رسالة إلى أحدهم أو مقال عابر سوف ينشر في موقع الكتروني بلا مقابل لكنني في النهاية أجدني أمام شئ ما يستحق القراءة..

ثم الحذف فورا دون ندم.

هناك اصوات في الخارج، اشعر أن احدهم سوف يقتحم علي الغرفة 

اتمنى ان يقتحم أحدهم علي الغرفة !!

دعيني اتوقف هنا الليلة عند تلك الامنية، واترك نفسي قليلا لأصمت.

انتهى فيلم وودي آلان على الشاشتين، وقبل التيترات مد كل ممثل يده من شاشة ليصافح نفسه في الشاشة الأخرى مهنئا ذاته بما أنجزه من هلاوس لهذا الشاب الجالس فندق بعيد بمدينة خليجية يزورها للمرة الأولى حاملا سماعة بلوتوث مستعملة اهدته اياها فتاة تحبه في مطار القاهرة كي تتحدث إلى روحه.

تتأرجح رغبتي في أن يقتحم على احدهم الغرفة وأنا ارى سكارليت جونسون من أحدى الشاشات تصافح بينلوبي كروز في الشاشة الأخرى، ككاتب رخيص يمكن أن انساق وراء هلاوس جنسية لكن فراشي الشاغر غير مؤهل وجدانيا لذلك، فأنا لا ابحث عن حكاية يا عزيزتي إنما هو الهمس الذي ورائها والصدى الذي ارجوه…

هل تعرفين ما هو اروع من الحكاية يا عزيزتي

 أنه صدى الحكاية

أجل أنه صدى الحكاية…….

 أمسكت السماعة مرة أخرى ووضعتها في أذني

وأطفئت الليل ثم غادرت الفراش إلى البحر بينما همسات السماعة تعلو وتعلو وتعلو

كما لقطة ثابتة لأفق سحري في نهاية فيلم الخليقة.

 

2- بمناسبة ساقيها..

 

لم اتناول العشاء الليلة، فاتني للأسف الشديد.

كنت اشاهد فيلما مدته 90 دقيقة، مما ادي بي إلى التأخر على العشاء الخاص بضيوف المهرجان.

اشعر بجوع بائس وحتى مطعم الاوتيل اغلق ابوابه.

صعدت إلى الغرفة وانا احس بالضيق، لم يكن الجوع هو السبب، اتصور انه الأخلاص !

اجل، احس بالضيق من اخلاصي الغريب  في مشاهدة الأفلام رغم أنني مدعو لهذا المهرجان كضيف وليس كصحفي او ناقد، أي ان الأمر يحتمل قدرا من الرفاهية في التلقي.

كنت اتمنى ان اتناول عشاء دسما ثم اخلد للفراش محملا بكل الأفلام التي رأيتها اليوم كمخزون هائل من مادة الأحلام النووية (والسينما هي مادة الأحلام النووية كما تعلمين يا عزيزتي بالطبع)  

التقيت اليوم بفتاة تدعى سول كرواس، صحفية المانية مقيمة بلندن وبالصدفة كانت تقضى اجازتها بالدوحة وقرأت عن بدء فعاليات المهرجان فجاءت لتشاهد بعض الأفلام.

( أنظري إلى مكري في الكتابة، لا تتعجلي الانتقال من فقرة لأخرى، القارئ الشاطر هو الذي يتوقف أمام جمل بعينها تبدو عادية جدا ويتساءل هل الكاتب نيته صافية في ادراج هذه الجملة ام انه يخبئ شيئا ما، هل الكاتب برئ – وفاشل- أم حويط ولديه براءة مصطنعة لكن وجهه الشرير الممتع سوف يظهر بعد قليل)

كنت اجلس في قاعة العرض المظلمة على الطرف من الجهة اليمنى، لاحت مني نظرة إلى الجالسة على يساري في منتصف القاعة، لم اتبين ملامحها، كان انعكاس الشاشة يبديها شقراء اوروبية، ترتدي فستانا قصيرا ربما عند الركبة وكانت ساقيها تشعان ضوءا طوال مدة العرض كأنما تنتجان ضوءا خاصا بها، لست ادري لماذا لاحت مني اكثر من نظرة إلى ساقيها، لاشك أنها كانت احدى اسباب سوء المشاهدة، يجب أن تمنع صاحبات السيقان الجميلة من دخول العروض السينمائية مرتديات جيبات قصيرة لأن الضوء الذي يشع من سيقانهن لاشك يؤثر على كفاءة الشاشة وظلامية القاعة المطلوبة للمشاهدة.

بمجرد نهاية الفيلم الذي كنا نشاهده وربما قبل نهايته بقليل قامت واتجهت للخارج، حسنا جدا أخيرا سوف أتمكن من مشاهدة الفيلم في ظروف عرض طبيعية.

ذهبت بعد الفيلم لتناول الغداء بمفردي وكنت انوي استكمال مشاهدتي للعروض بالفندق ثم ركوب الباص الخاص بالأنتقال للذهاب إلى السوق الشعبي للمدينة حيث تقام بعض العروض هناك في الهواء الطلق وحيث من الصعب أن تؤثر سيقان الجميلات على كفاءة الشاشة ولا ألوان الأفلام.

عدت للقاعة مرة اخرى وبينما اجتاز الردهة الواسعة باتجاه الباب اخذني ذلك الضوء الأبيض الذي ينبعث من ساقي الفتاة التي تقف عند احد الاستاندات البعيدة.

تجاهلته ومضيت إلى القاعة، لا يمكن أن نتوقف أمام كل سيقان جميلة متألقة وإلا تحولنا إلى مرضى بالنور.

 جلست لدقائق مستغرقا في الظلام ومندسا في تفاصيل الفيلم الصيني المعروض، كان الفيلم يتحدث عن تعليم الاولاد المبصرين الكتابة والقراءة بطريقة برايل الخاصة بفاقدي البصر، وكان باب القاعة يفتح ويغلق كل بضع دقائق اثناء دخول وخروج المتفرجين سواء الفضولي او المصاب بالسأم، وفي كل مرة كان ذلك الضوء الغامض المنبعث من ساقي الفتاة يقتحم اللغة الصينية ويزعج الأطفال المكفوفين الذي لم يقل لهم احد أنه يمكن أن يرى حروف الكتابة المثقوبة بطريقة برايل على ضوء يأتي من سيقان فتاة تجلس خارج قاعة العرض.

اغمضت عيني محاولا قراءة الفيلم صوتيا لأنشغل عن التفكير في ساقيها.

كيف للمبصر أن يدرك باللمس ما لا يمكن ادراكه بالبصر؟ اللمس هو أول ابجديات اللغة الانسانية وأخرها، الحاسة التي لاتتعطل ابدا حتى في أشد الكهوف الروحية إظلاما.

شعرت بنفسي رخيصا في تأملاتي ونمطيا وساذجا ومدعيا وأحمق.

الفعل التالي كان هو النهوض والخروج من القاعة، وكانت لا تزال هناك، إنهما إذن ساقيكِ يابنت كراوس التي ازعجتني أنا والأطفال الصينين المكفوفين، اقتربت منها ووقفت امامها على الأستاند الطويل، رحت اتصفح الكتالوج واراقبها من زاوية كاميرا موبيل لمتحرش نبيل، وكما توقعت كانت تحاول البحث عن فيلم جيد لتشاهده ثم Cut..

نسير سويا بأتجاه احد قاعات العرض، كانت تسير بخطوات سريعة شبه هيستيرية بينما كنت اخطو انا ببطء وتؤده، منتشيا بما انجزته من تعارف وابهار لها بمهنتي واسلوبي في التفكير وتحليل الأفلام.

شاهدنا معا فيلمين ثم توقفنا لنلتقط انفاسنا، لا لا فلاش باك وتصويب، شاهدت هي فيلمين وكتبت أنا نصا طويلا على ضوء ساقيها في قاعة العرض. ثم فجأة دون مقدمات تمهيدية كجملة حوار على سبيل المثال أو لقطة رمزية لصورة عاشقين متعانقين مثلا تحرك مشاعر الشخصيات في المشهد أو تؤهل المتفرج أن الحوار القادم سوف يتخلله كلام عن الحب و”السهوكة” فجأة قالت سول في صوت حاد تعمد معه مهندس الميكساج الكوني أن يبدو أعلى من الأصوات الطبيعية المحيطة بنا قالت أنها جاءت إلى الدوحة للقاء حبيبها الذي يعمل هنا في أحدى الشركات..

(كادر ثابت لثوان مع صمت تام)

وأنها غادرت إلى سوريا لاربعة ايام وعادت مرة اخرى لقضاء بقية الوقت معه

(معلومة متأخرة جدا يا بنت ال…)

ثم وكأنه كان ينتظر أن تذكر اسمه حتى يدخل إلى المشهد  وهو ما نطلق عليه دراميا لفظ (الكيو)

اي الكلمة التي تقولها احد الشخصيات الواقفة على خشبة المسرح لتدخل على أثرها شخصية اخرى(سعيدة) من الكواليس. رن هاتفها المحمول برنة عادية جدا لكن المتصل كان حبيبها.

لم اسألها عن اسمه، كنت انظر إلى عينيها وهي تتحدث معه، وللمرة الأولى منذ لقائنا قبل ساعات كانت سعيدة ومنتشية، أول لقطة لها منذ بداية فيلم التعارف القصير تبدو فيها ملامحها وهي تلين تدريجيا وتنتشي مصحوبة بموسيقى غريبة تنبعث من احدى اكشاك سوق الفيلم التسجيلي الذي يعرض أفلاما متنوعة على شاشات عديدة لتسويقها إلى القنوات التليفزيونية..والحياة. 

أن بنت كراوس بقدر ما تملك عينين ضاحكتين إلا انها لم ترطب شفتيها بالأبتسام سوى الأن فقط.

اريد ان انام، لقد اكلت ثلاثة قطع من الشوكولاته لكي اسد جوعي واتمكن من حشو الفراش بالأسى الأنيق للخيبة.

امسكت السماعة البلوتوث ولكنني لم اضعها في أذني الليلة، اخذتها بالقرب من فمي ورحت اهمس إليها مضيفا إلى الهمسات التي تحملها أسرارا جديدة.

في الغد ربما اكتب إليكِ مرة أخرى، سوف احاول أن انام الان..

ااااه طويلة شوية

 لماذا لا يأتي النوم كل ليلة إلا مصحوبا بألم ؟!

ــــــــــــــــــــــ

*مقاطع من رواية “زي حكاية الأحبة” تحت الطبع

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون