السادسة بتوقيت إيطاليا

موقع الكتابة الثقافي art 27
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد سامي

صوت موسيقى متقطع، يبدو أن صاحبه مازال يستعد، يزداد الصوت وضوحا تدريجيا، أسمع من شرفة مجاورة من يهتف مشجعا لصاحب الموسيقى، لا تلتقط أذني جيدا كل ما قاله لكني أفهم ما يريد قوله:

ـ ستمر، كل شيء سيمر بسلام.

يتحمس صاحب الموسيقى وقد انتهى من تجهيز كل شيء ثم يشغل أغنيته الأولى عبر مكبر للصوت: بيلا تشاو بيلا تشاو.

يشعر الجميع بالحرارة ويتفاعلون معها، أنا أيضا وقفت أدندن معهم، فأنا لا أحفظ الكلمات. دقت الساعة السادسة وامتلأت الشرفات بالجيران، تلوح لي سيدة لا أعرفها فأجيبها مبتسما بإيماءة من رأسي. بعد قليل تخرج أمي تنظر للشارع وللشرفات وتبتسم بتهكم ثم تحاول إدخالي، أخبرها أني أريد البقاء فتصرخ في وجهي غاضبة.

في الداخل كان جدي وجدتي يتابعان الأخبار، حصيلة اليوم من الموتى ثقيلة؛ تقترب من الألف. جدي كان أكثرنا قلقا وحزنا، لا أفهم ماذا يحدث ولكنه يخاف أن يموت، لم أعد أذهب إلى المدرسة ولم أعد أنزل نركب سويا دراجتي، الجميع خائف حتى جدتي التي تسخر من كل شيء كانت أيضا خائفة.

ـ كورونا فيروس خطير يا صغيرتي.

تجيبني أمي دائما عندما أطلب منها أن أذهب للعب مع صديقتي بيانكا، أو حتى حين أطلب من جدي أن نخرج إلى المنتزه القريب فيرفض. لا أعرف معنى فيروس، أعتقد أنه وحش شرير يأكل هؤلاء الذين يتصرفون بشكل سيء، أخبرتني جدتي كي لا أقلق أن هذا الفيروس يصيب الكبار فقط ثم احتضنتني، ماذا فعل الكبار خطئا كي تقتلهم كورونا، لا أعرف. 

(2)

في الصباح تغطي الشمس الشرفة، زقزقة العصافير أعلى اليوم، الجو صاف والصمت يخيم على كل التفاصيل الأخرى، تحضر أمي الفطار وجدي هناك مازال يشاهد التلفاز، تصرخ جدتي في وجهه وتطالبه بغلق هذا الملعون، فيصرخ بدوره ويطالبها بأن تتركه وشأنه. في الشارع تمشي امرأة مع كلبها، أمي تقول إن هؤلاء سيقتلوننا إن لم يجلسوا ببيوتهم، أحيانا تصرخ فيهم غاضبة:

ـ اجلسوا في بيوتكم يا أوساخ، نموت بسببكم.

أمي دائما غاضبة، حتى وهي تمارس الرياضة، تجري على المشاية بغضب، ترفع الثقل بغضب، تمسح عرقها بغضب، أمي طيبة لكنها عندما تكون غاضبة لا تشرح لي جيدا، فأنا لم أفهم لماذا امرأة تمشي مع كلبها الصغير قد تقتلنا، هذه المرأة الطيبة ليست شريرة، وكذلك كلبها الصغير الذي يجري فرحا في سلام. أنا أكره كورونا إنها تحوّل كل الطيبين إلى أشرار، كل شيء قبلها كان جميلا، لكن الآن لا أفهم ماذا حدث، جدتي تحذرني دائما بألا أقبّل أحدا، سألتها حتى بيانكا، قالت حتى بيانكا. فنظرت إلى الأرض صامتة قليلا، هل علي أن أبتعد عن كل من أحبهم؟!

ـ وأنت يا جدتي، هل أقبلك؟!

ضحكت وأجلستني في حجرها ثم قبلتني، عندما أبدأ في السعال يا صغيرتي ابتعدي عني، أو لا تقلقي إن أصابتني الكورونا فسيأتي من يأخذني بعيدا.

ـ سأزورك أنا وجدي وأمي.

ـ جدك سيذهب قبلي!

انتفض جدي من مجلسه كالملسوع، ورسم الصليب في وجه جدتي غاضبا، ضحكت جدتي طويلا ولكني لم أضحك.

(3)

اليوم بداية الربيع، أعرف ذلك لأنه عيد ميلادي أيضا، لم نقم حفلة ولم ندع أحدا، كل أصدقائي اتصلوا بي عبر الفيديو؛ بيانكا، زينب، أناليزا، دييجو، جبريل، كريم، حتى أبي كلمني أيضا، ينقطع الاتصال معه كثيرا، لا أفهمه عندما نتكلم، يتحدث لغة اسمها العربية، تقول أمي إنني سأتعلمها يوما، لكني لا أريد، أحيانا أسمع كريم في المدرسة يتكلم مثل أبي مع أمه، وأنا لا أحب كريم. لا أرى أبي كثيرا، يعمل دائما في بلده البعيد، ويتكلم دائما هذه العربية معي، اسمه أحمد، أنطق اسمه جيدا لكن بيانكا لا تعرف كيف تنطق اسمه، تقول إن اسمه غريب، أنا أحب أبي لكن لا نعرف كيف نتكلم، أحيانا تترجم أمي لي وله، ولكن أحيانا تتركني معه وحيدة وترحل. جلست اليوم طويلا أمام الكمبيوتر، لذلك تركت أبي يتكلم العربية وقمت، نادتني أمي كي أجلس ولكني أردت الذهاب للشرفة، أكملت معه الحديث قليلا ثم أغلقت الكمبيوتر. سألتها جدتي عن الأحوال فأخبرتها أن الكورونا ظهرت عندهم، وبصوت خافت قالت أمي أن زوجته حامل.

تدق الساعة السادسة، أزهار قليلة بدأت تتفتح على الشجر أمامي، لم يعد هناك موسيقى من الشرفات، جدي كان سعيدا عندما توقف الناس عن الغناء، قال إنهم لا يحترمون الموتى، علينا الآن أن نصلي أكثر، وأن نصمت أكثر، لكني أحب الموسيقى أكثر من الصمت والصلاة، أقول ذلك لجدتي فتضحك، صارت كل يوم عندما تدق السادسة تترك جدي وأمي يتابعان أخبار الموتي والمصابين التي تعلن عنها الحكومة في ذلك الوقت ونذهب سويا إلى الشرفة نغني ونرقص حتى تنتهي الأخبار.

(4)

أقف بالشرفة وحدي، تدق السادسة وجدتي ليست معي، أنظر عاليا نحو السماء، أعرف أن الله هناك، هكذا أخبرتني أمي،  لم أر جدتي منذ أن بدأ السعال، جدي أصابه الهلع عندما ارتفعت حرارتهما، لكن جدتي ابتسمت لي من خلف كمامتها وهما يرحلان في سيارة الإسعاف، وضعوا عصا في حلقي وأنفي وكذلك فعلوا مع أمي، ثم طلبوا منا البقاء بالمنزل، صارت أمي أكثر صمتا، تمارس الرياضة بغضب كعادتها، ولكن مع بعض الدموع.

ـ هل سنموت يا أمي؟

ـ الفيروس لا يصيب الصغار.

صار أبي يتصل مرتين بنا، ينقطع الاتصال دائما، ولم تعد أمي تترجم لي. أخبرونا اليوم أن جدتي تتحسن ولكن صحة جدي تتدهور، لو كان صغيرا مثلي أو ربما لو أحب الموسيقى كجدتي لنجا. كان يخاف دائما، لا يفارق التلفاز ويطلب منا أن نصلي جميعا كي ينتهي الوباء. أمي كانت مثله لا تريد سماع الغناء من الشرفات، لكنها كانت تحب الموسيقى. تدق السادسة والتلفاز مغلق، لم تعد تريد سماع حصيلة الموتى والمصابين، أنظر من الشرفة للزهور الكثيرة التي تتفتح، أدير برأسي نحو الشرفات المغلقة والشوارع الخالية، ثم أنظر عاليا نحو السماء، وبصوت عال أبدأ بالغناء: بيلا تشاو، بيلا تشاو.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون