الزمن والكينونة: الفنتازيا والغرائبية في “زمن عبد الحليم” لمحمد أنقار

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

800x600

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif";}

د. محمد المسعودي

تشكل قراءة المجاميع القصصية إشكالات متباينة للدارس والناقد تنبعث من طبيعة القصص التي تختلف في البنية والرؤية، وفي توظيف الإمكانات والأساليب الجمالية. وهذا الاختلاف يدفع القارئ إلى التساؤل عن الكيفية التي يمكن من خلالها الإمساك بالخصائص الفنية والكشف عن الأبعاد الدلالية للخطاب القصصي. ولعل هذه التساؤلات -وما يدور في مدارها- هي التي حفزتنا على تناول المجموعة القصصية الأولى لمحمد أنقار:"زمن عبد الحليم"(*) انطلاقا من تقصي بعض خصائصها الجمالية وتلمس أشكال ظهورها وتجليها من خلال قراءة داخلية فاحصة تسعى إلى ضبط المشترك بين القصص من الناحية الفنية، ومن حيث توظيف الثيمات والإمكانات البلاغية الأخرى. ولعل أول عتبة ينبغي الوقوف عندها في هذه المجموعة هي العنوان بوصفه علامة دالة تجمل المدارات الدلالية والأبعاد الرمزية التي تحفل بها بنية النصوص. فالمتأمل فيه يلفيه مركبا من اسمين جامدين: زمن/عبد الحليم، يحيل الأول على شئ ذي طابع تجريدي يشكل بالنسبة إلى الإنسان عالما يلفه الغموض وينغمس في المجهول مما يفضي بالإنسان إلى حالات وجودية متباينة تسمها المفارقة غالبا.وشخصيات قصص المجموعة يمسها الغموض ويطحنها المجهول. أما الاسم الثاني في العنوان فيشير إلى شخصية محددة هي عبد الحليم. فمن هي هذه الشخصية؟ إن اسمها لا يرد بين دفتي الكتاب لأنه فضل الوقوف عند عتبة المجموعة؛ ومن ثم يكتسي هذا الاسم طابعا تجريديا كلفظة الزمن تماما. وغياب حضور هذه الشخصية بالاسم نفسه داخل نسيج القصص هو ما يدفعنا إلى التساؤل: هل عبد الحليم هو الراوي أم المراد به عبد الحليم حافظ المطرب المصري المعروف؟ ولماذا اقترن الزمن بهذا الاسم؟ وإذا افترضنا أن المراد هو المطرب المصري، فما هي سمات زمنه وما هي ملامحها؟

والعنوان بما أنه يشير إلى الزمن من جهة وإلى الشخصية من جهة ثانية يوحي بطبيعة نصوص المجموعة التي تدور حول إشكال الزمن في ارتباطه بالشخصيات وتشكيله لمصائرها وإمكاناتها الوجودية. وبما أن الوجود لا ينفصل عن الزمن في التصور الفلسفي، فإن وجود الشخصيات وإشكالاتها النفسية والفكرية ترتبط أساسا بدوران الزمن وتقلباته. ومن هنا ف”زمن عبد الحليم” هو زمن الشخصيات التي تزخر بها المجموعة، إنه زمن الفيل في قصة “الفيل والنملة”، وزمن الفيل مراد في قصة “مقبرة الفيلة”، وزمن الراوي في قصة “صبي الرمانة”…

          إذن ما هي تجليات الزمان في نصوص المجموعة، وما هي أبرز قسماته؟ ثم ما هي أشكال تمظهرات الشخصيات وطبيعة إشكالاتها الوجودية؟

1/الزمان.

   بما أن القص لحظة تأمل في الوجود وتتبع لحركاته وتغيراته، نلفي التأمل في الزمن باعتباره ألصق بالوجود، فهو ميسمه ومداره، حاضرا بأشكال متنوعة بين ثنايا القصص بوصفه حركة ترتبط بأحداث القصة الواحدة وبتتاليها واسترسالها. والزمن الذي يعنينا في هذه القراءة، هو الزمن باعتباره إمكانية أو ثيمة تشكل عمق كينونة الشخصيات وترسم معالمها النفسية والفكرية. وأول ما يلاحظ في تتبع تشكلات الزمن في القصص، وفي وعي الشخصيات وتعاملها معه، هو الإحساس بالقهر الذي يرجع إلى دوران عجلة الزمن. فالفيل مراد طحنه الماضي وجعل منه حطاما موزعا بين الحيرة والتطلع إلى “السعادة” في سكون المقبرة. وهذه الشخصية في نظرتها إلى مشتتة بين رفض الماضي والتوق إلى المستقبل(الراحة)، ولكن ذكريات الماضي وهواجسه تظل مسيطرة على وعيها مما يسم هذه الشخصية بالتشاؤم. وعلى النقيض من ذلك نجد “الفيل اليافع” في نظرته إلى الزمن ينطلق من حاضره الذي يعده لحظة حبور واكتشاف لأسرار الحياة. ولعل هذا التضاد بين الشخصيتين هو الذي يعكس الاختلاف في البنية النفسية والذهنية لدى كل منهما، كما يجلي طبيعة الإشكالات الوجودية التي يتخبط فيها كل واحد منهما على حدة. وهذا التباين بين الشخصيتين يجعل الزمن في رؤية الراوي عصيا على الإمساك. يقول:« وحقيقة الزمن تربك الذهن، وتلمع وتختفي مثل طائر حر يستعصي على الوقوع في الفخ»/ص.76  

          والزمن سؤال نابع من حالة الشخصية وهواجسها لأنه مرتبط بدواخلها وقلقها وحيرتها أمام تقلبات الحياة وتبدلاتها. يقول “الفيل اليافع”:«هل الزمن يفصل بالفعل في مصيرنا بهذه الدرجة الحاسمة بينما الدنيا لا تزال تمدنا بالتجارب حتى ونحن سائرون في طريق مقبرتنا؟»/ص.76  

          ولا يتمظهر الزمن في القصص عبر السؤال وحده، وإنما يرتبط أيضا بآليات أخرى كالحوار المتناسل بين الشخصيات، وفي هذه الحالة يعمل على تجلية أثر الزمن في نفسية الشخصية، وبذلك الزمن شعورا داخليا تفصح عنه التساؤلات والمحاورات، أكثر مما يفصح عنه السرد عن طريق رصد آثاره على الهيئة الخارجية للشخصية القصصية. وكمثال يقول “الفيل مراد”: « إن الطريق-يا عزيزي- يحفر في القلب بإدمان المشي وتجرم الأعوام، وهيهات أن يمحو الزمن ما حفره بنفسه في شغاف القلب وثنايا المخ»/76  

          ولعل هذا الإحساس بوطأة الزمن وثقله،مع انغماس الشخصيتين في أتون الترقب وانعدام الثقة رغم الفارق بينهما، هو الذي جعل السير نحو طريق المقبرة يمر بلحظات يسربلها لبوس الثقل والبطء وتضمخها الحيرة والخوف والتوجس. وهذه الثيمات التي تترجم مشاعر الفيلين ألقت بظلالها على الأحداث فاتسمت بالتوتر الدرامي المتنامي من خلال الغوص في أحاسيس الشخصيتين وعبر نمو إيقاع زمن القصة نموا متهاديا رفيقا أيضا.

    ونظرا إلى أن الزمن يشكل بالنسبة إلى الشخصية نسغا للوجود والكينونة نرى بطل قصة “عودة الحبيب” يقول:

  «ولم يرحم التاجر شدة اضطرابي وسقوطي في الهاوية فذبحني بسؤال قاطع: تبيع هذه الساعة؟ هاأنذا أتكهرب. درجة حرارتي تعلو، ويبلغ ارتفاع الضغط أقصى مداه. وتمنيت من كل كياني لو كنت قويا ضخم الجثة فأنقض على الرجل وأعصره جيدا مثلما يعصر الغسيل، أو أن أجعل دمه يفور فأشربه في جرعة واحدة حتى أتركه خرقة مجففة..»/62

          إن السعي إلى تجريد الشخصية من ساعتها يؤدي إلى الشعور بالذبح والتكهرب وارتفاع الحرارة والضغط.وهي حالات وجودية/شعورية تبين إحساس الفتى بالقهر ووطأة العسف والضعف. وفي هذه اللحظة يصبح توق الشخصية يتجسد في إبداء الرغبة في ممارسة العنف كرد فعل، فكأن تجريد الإنسان من زمنه يدفع به نحو هاوية ممارسة العنف لتأكيد الكينونة والحفاظ على البقاء والدفاع عن النفس. ولتجاوز الإحساس بالقهر والحيرة أمام فعل الزمن،تعمل الشخصية على خلق عوالم خاصة بها عبر الأحلام وانهمار ينابيع اللاشعور قصد مواجهة الزمن وآلياته بما فيها الآخر(الشخصية النقيضة). وإذا كان بطل قصة”عودة الحبيب” قد تمنى الانقضاض على التاجر لعصره وشرب دمه، فإن “رحمة” بطلة قصة “المشي على أربع” حينما وقعت تحت سطوة الزمن المجسد في شخصية البائع الذي سطا على مكانها بعد تأخرها في سوق بيع الخضر بالجملة، انفلتت من الواقع المادي المتردي لتغوص في هواجس الذات وعوالمها الجوانية، إذ أصبح الحلم “نيرفانا” تقيها شر العالم. فالعنف الذي مورس عليها أدى بها إلى الحلم بالطيران، والإحساس براحة “المشي على أربع”، والتوق إلى الوقوف والاستواء. والراوي في قصة “العسل المر” يسعى إلى الهرب من وطأة الزمن عن طريق الذوبان في الزحام، واستيعاب الصور والوجوه العتيقة والجديدة بغية استعادة الألفة القديمة، لكن الزمن الحاضر يجعل هذا الحلم ينسرب من بين يديها كانثيال الماء من فروج الأصابع. يقول راوي القصة:

          «غير أن الاكتظاظ الخانق للأنفاس، وكثرة الباعة، واشتداد الصخب كاد يوئسني من القدرة على استعادة الألفة القديمة»/47.

          ومن خلال ما تقدم يمكن القول إن الزمن في “زمن عبد الحليم” له ظهورات مختلفة لكن قسماته تتضح من خلال إشكالات الشخصيات والإمكانات والثيمات التي ترتبط بها. وهو زمن يحيل دائما على الحيرة والذهول أمام “الواقع” وآثاره لدى الشخصيات التي تبحث عن الخلاص وعن تحقيق الذات في بحر الوجود.

2/الشخصية.

          إذا كان بطل قصة “العسل المر” يبحث عن الألفة القديمة والشعور بالطمأنينة، فإن هذا التوق هاجس تنبض به دواخل جل شخصيات المجموعة القصصية. ومن ثم يصير هذا البحث سمة توحد الشخصيات إلى جانب تطلعات أخرى كالسعي إلى الخلاص من الحيرة والرغبة في الاستواء والوقوف. وإذا كانت هذه الثيمات الثلاث تعد مفتاحا أساس للولوج إلى أعماق كينونة أبطال هذه القصص، فإنها تتشابك وتتصل بثيمات أخرى تفصح عنها الإشكالات الوجودية للشخصيات مثل الفراغ والغشاوة والقلق والعجز والإرغام والوحشة والغربة والرهبة والتوجس والرغبة المحبطة والعنف وحب المعرفة والاكتشاف. ونحن في سعينا للكشف عن جوانية هذه الشخصيات القصصية سوف نقف عند بعض هذه الثيمات قصد الإمساك بقسمات وملامح تشكلها وتشكيلها للشخصية معا. ولعل السعي إلى المعرفة والاكتشاف هو أول علامة بارزة تسم الشخصيات. إن الراوي في قصة “القطتان والطفل” يتطلع إلى الأحداث الخارجية بغية الكشف عما يجري:

          «وعدت ليلا من عملي منهكا مقطع الأوصال، لا أكاد أجد القوة والرغبة في تمعن الأشياء أو اختبار التفاصيل. ومع ذلك أسرعت نحو النافذة بمجرد أن أقفلت علي غرفتي لأستطلع خبر قطة الإفريز، فإذا بموائها يسبق منظرها ويجرح ظلام الليل وبياض القلب»(ص.15).

          إن المتأمل في هذه الثيمة يلفي التطلع إلى الاكتشاف والمعرفة يرجع على الشخصيات بخيبة الأمل أو الضرر أو النكوص إلى عوالم كابوسية. فنهم راوي/بطل القصة المشار إليها- أعلاه- إلى معرفة أحوال القطة التي كانت تموء على إفريز العمارة المقابلة، وتذكره القطة الأخرى التي تسلقت عمود الكهرباء، يؤدي به إلى معايشة لحظة مترعة بالرؤى الكابوسية، تتشكل من خلال الفنتازيا إذ يتسلق طفله الذي لا يتجاوز الثلاث سنوات إفريز النافذة في شقته التي تتومقع في الدور الرابع، ويعاني البطل المر من صعوبة إنقاذ الطفل إلى أن يفلح في النهاية، وكأن الحلم يعكس شعور البطل بالذنب نظرا إلى عدم قدرته على الفعل: مساعدة قطة الإفريز والاكتفاء بدلا من ذلك بالفرجة والوقوف عند عتبة حب الاستطلاع والاكتشاف. والملاحظ أن هذا التطلع يرتبط أيضا بالوقوع في حالات الخوف ومظاهر الرعب والعنف، ولهذا كان السؤال الذي ختمت به القصة له ما يبرره، إذ ينطبع بمشاعر الحيرة والانكسار:«يا إلهي.. كيف حدث كل هذا؟». إن السعي إلى الاكتشاف مرتبط أبدا بالحيرة، كما أنه متصل بالرغبة في الخروج من الفراغ وولوج عالم الامتلاء/الإشباع، فالراوي في قصة “صبي الرمانة” في خروجه من جحيم الفرن اكتفى بمراقبة ومشاهدة ما يدور في ساحة السوق. إن هروب الشخصيات من انزوائها وفراغها هو هروب من أزماتها وتوق إلى الاندماج في المجموع ولو عبر الفرجة والمشاهدة. يقول الراوي في قصة “العسل المر”:

          «أتوقف طويلا عند حانوتي وبي رغبة جامحة إلى أن أستوعب بعيني صور أكبر قدر ممكن من الوجوه العتيقة أو الطارئة التي تدفقت على المدينة في السنين الأخيرة، وأستمع إلى شتى أصناف الأخبار»(46-47). تبحث الشخصية، عن طريق مراقبتها وخروجها لمشاهدة الحركة الخارجية واكتشاف الوجوه العتيقة ومحاولة النفاذ إلى دواخل الناس، عن معنى مفتقد لحياتها، وهو غالبا ما يتعلق (المعنى) بالإحساس بالألفة والانسجام مع الآخرين. يقول السارد عن رحمة في قصة “المشي على أربع”:

          «وتخيلت نفسها بلا بقعة للبيع وقد طلع النهار، بلا ملاذ ولا حمى أليف، وبلا دراهم في يدها ساعة الغروب، وكم أحست آنذاك بتفاهتها وضعفها على الرغم من جثثها العالية. وكم شعرت بهشاشة الألفة التي ربطتها منذ أعوام بالبقعة الضيقة المنحشرة بين حانوت حلاق ومطعم شعبي»(70).

          هكذا تصبح الزوايا والأركان حمى أليفا للبشر وملاذا من بشاعة العالم.وحينما تعز هذه الأركان وتمتلك القوة من طرف الآخر لنزعها، تسقط الشخصية في هوة الشعور بالضياع وهشاشة الكينونة. وقصد الدفاع عن وجودها تسعى إلى المواجهة وممارسة حقها في استرجاع حقها: مكان ألفتها، أو تتشبث بأشيائها الأليفة، كما يفعل بطل قصة “عودة الحبيب”:

          «ولما لفني فضاء الطريق العريض رفعت العود نحو عيني فبدا لي إلفا عزيزا وقد عاد إلي من سفر ناء، ففرحت به كأنما أراه لأول مرة»(63).

          وإذا كانت بعض شخصيات المجموعة القصصية تسعى إلى التآلف والإحساس بالاطمئنان في ارتباطها بالآخر، فإن بعضها الآخر يصدم في علاقته بالآخرين مما يجعله يقع فريسة الحيرة والرعب والشعور بالإحباط وإهدار الكرامة تحت نير العنف والقسوة وانعدام التواصل. فالرغبة، كما يقول “بيير ماشري” ل«بشكلها الأكثر ذاتية،مسكونة بالخارجانية والغيرية اللتين تصطدم بهما باستمرار. رغبة الذات هي أولا رغبة الآخر الذي هو كذلك ذات، ومن حيث هو ذات فهو في أناه ضد الأنا»(**). من هنا كان الصراع مظهرا بارزا من مظاهر تشكل الرغبات والتطلعات عند الشخصيات، ومن ثم تكون ملامحها الوجودية. هذه التمظهرات التي يصورها السارد عبر تتبع مسار الشخصية في خضم الأحداث، أو عبر الغوص في لاوعيها لإبراز طبيعة معاناتها وصراعها. ومن ثم ركز على آليات تصويرية عدة لتجسيد حالات شخصياته النفسية والفكرية،خاصة الحلم وتوظيف الفنتازيا والعجائبية.

3-السمات التصويرية.

          كما تتجلى حقيقة الشخصية في أفعالها وأقوالها،  تتضح، أيضا، من خلال أحلامها وكوابيسها. ومن هنا يشكل الحلم جزءا هاما من إمكانات الكتابة القصصية لدى محمد أنقار لأنه إمكانية تتصل بكينونة الشخصيات. والملاحظ أن الحلم يتحد بالواقع ويتماهى به ليصبح امتدادا له، وأداة لبلورة مجرياته وتطوراته، إذ لا يحدث بينهما ذلك التواجه الذي يؤدي إلى التضاد والمفارقة إلا لماما. ففي قصة “كلمات الليل” نلفي الحلم يشكل أغلب لحظات الحكي ويهيمن على حركاتها إذا قورنت بلحظات “الأحداث الواقعية” حيث يعمد السارد إلى تفتيت الواقع عبر توظيف الحلم الذي يرتبط بالزوج، إذ يرى فيما يرى النائم، الحروف والكلمات تغادر المخطوطات والكتب لتجول وتصول في ساحة المطبعة، وعند انبلاج الفجر تسرع عائدة إلى أماكنها. إن الإحساس بالملل والثقل الذي لف الزوجين في طياته وجعل لحظات وجودهما تحفل بالتوتر جعل رؤى الزوج، الذي يعمل في إحدى المطابع، تتمحور حول تمدد الحروف والكلمات وخروجها عن المألوف لتنفض عنها غبار الأيام والأسر بين الرفوف. ومن ثم يتحول الحلم إلى دعوة مضمرة موجهة للزوج كي يلقي عنه القيود التي كبل بها ليواجه واقعه ويخرج من ملله وثقله.وفي قصة “المشي على أربع” لم تتجسد معاناة “رحمة” إلا من خلال توظيف الحلم والرؤيا التي ولجت فضاءاتهما في غيبوبتها إثر لكمة البائع التي تلقتها في وجهها، إذ تشعر براحة المشي على أربع بصفتها حالة تعبر عن الارتداد إلى الطفولة المغصوبة والبراءة المنهوبة، وفي نفس الوقت تتطلع “رحمة” إلى الوقوف مع الواقفين والاستواء على قدمين ثابتتين تماما كالجموع التي تسبب الزعيق والضوضاء (أصحاب السيارات الأغنياء). وبذلك تعد هذه المشاهد الحلمية، في القصة، تشكيل آخر للواقع اليومي في متخيل المرأة ولا شعورها يفصح عن عمق كينونتها وعن تطلعاتها إلى التغيير أو الاستواء بدل المشي على أربع!

          ولا تنفصل مشاهد الحلم في القصص عن الرؤى الفنتازية والعجائبية لأن هذه الصور المتخيلة هي الدعامة المركزية لانبناء حالات الشخصيات النفسية والجوانية وتجليها. والملاحظ أن هذه المشاهد لا يرام بها تكسير حدة الواقعي فقط، وإنما تسعى إلى توسيع مجال الدلالة وتفتيت إيقاع السرد الذي يتقصى التفاصيل والوقائع بوساطة هذه الأبعاد بغية كسر رتابته. إن تجاور الواقعي والمتخيل في القصص يتغيا النقد والتشريح من خلال استثمار إمكانات الرؤى والمشاهد الطريفة، وبذلك تخلق المفارقة مؤشراتها العميقة فتضع المجهر على معينة قصد فضحها،ومن ثم تتواشج هذه الصور مع سيرورة الأحداث لتكملها وتصير امتدادا لها.

          إن القصة عند محمد أنقار لا يمكن الكشف عن أبعادها الدلالية إلا عبر تجميع خيوطها وإعادة ترتيب تفاصيلها المختلفة في ضوء القراءة المتأملة في المكونات والسمات الجمالية التي يتوسل بها لإيصال خطابه القصصي، وعلى رأس هذه المكونات تأتي الصورة القصصية التي تتشكل من خلال أدوات فنية لغوية وأسلوبية متنوعة، فإذا كانت الصورة تتشكل عن طريق السرد أو من خلال الأدوات البلاغية كالاستعارات والتشبيهات، فإنها تصنع تفاصيلها أيضا عبر تقصي أحلام الشخصيات الفنتازية والعجائبية. وقد تصبح القصة لوحة فنتازية من ألفها إلى يائها تصب صورها في المنحى الغرائبي المتسم بالكابوسية والذعر كما هو الحال في قصة”القطتان والطفل”. والملاحظ أن الصور الفنتازية والعجائبية غالبا ما ترتبط بأحلام الشخصيات التي تترجم عبر الحوار الداخلي (المونولوج) أو عبر التداعي والحوار المباشر. إن الراوي في قصة “القطتان والطفل” يروي حكايته ويشخص مشاهده عن طريق السرد المتتبع للأفعال والوقائع:

          «وصلت إلى غرفة الضيوف في مثل لمح البرق. ولما فتحتها فوجئت بمشهد رهيب كاد ينفطر له قلبي: على الإفريز الخارجي للنافذة المغلقة من داخل الغرفة، كان يجلس طفلي وهو ينتحب وينظر إلى الداخل من خلال الزجاج، طفلي الذي لم يتجاوز سنته الثالثة،يقتعد إفريزا ضيقا جدا لنافذة محكمة الإغلاق من الداخل، تعلو عن أرض الشارع بأربعة طوابق!! من ذا الذي وضعه هناك؟ وكيف لي بفتح النافذة دون أن يسقط إلى الأسفل؟ تسمرت في موضعي مبتهلا الصبر ورباطة الجأش، ورسمت على شفتي ابتسامة كاذبة ومددت يدي جهة النافذة»(21-22).

          هكذا تخضع المشاهد الفنتازية في تشكلها إلى التتابع المنطقي والتراتب التقليدي لسيرورة الأحداث وفق خطة كرونولوجية تراعي قواعد القصة “الموباسانية” غالبا إذ ترد في خضم السرد المتتالي، ولا تخرج عن هذه الترسيمة سوى صور قصة “كلمات الليل” التي تخضع للتراسل الحواري عبر تداعيات الزوجين، وبذلك تتقطع أوصال الحكي الواقعي عبر انبثاق المشاهد الحلمية.

          وما يمكن أن نختم به هو التأكيد أن القدرة التخييلية عند الكاتب تكمن في هذه الصور الفنتازية والعجائبية، وهي مشاهد تنبع في نهاية المطاف من عمق كينونة شخصياته القصصية لتضئ جوانب من إشكالاتها الوجودية وتقربها إلى ذهنية المتلقي. وتنطبع هذه الصور بالحس الإنساني العميق لأن القاص محمد أنقار وإن كان يقف موقف الحياد ليعبر عن معاناة شخصياته وتطلعاتها، فإن تصويره لا يفتقد إلى اللمسات الإنسانية التي تجسد اللحظات الدرامية والمأساوية في حياة الإنسان المعاصر.

 

هوامش ومراجع:

*/ محمد أنقار،زمن عبد الحليم،منشورات جمعية الأعمال الاجتماعية والثقافية لكلية الآداب بتطوان،1991.

**/ بيير ماشري،العرب والفكر العالمي،ع.15/16،بيروت،1991،ص.114.

 

مقالات من نفس القسم