“الزانية” .. ليست رواية عن الخيانة ولكنها عن الملل!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قرأت الترجمة العربية لرواية ( ADULTERY ) لباولو كويللو (ترجمة رنا الصيفى .. شركة المطبوعات للتوزيع والنشر)، اختارو لها عنوانا هو "الزانية" بدلا من عنوانها الأصلى "الزنا"، رأيى أن الرواية جيدة بشكل عام باستثناء بعض التأملات المباشرة، رأيى أيضا أنها ليست رواية عن الخيانة، ولا حتى عن الجنس، ولكنها عن الوحدة والملل والرتابة والحضارة الحديثة التى لم تستطع أن تغيّر كثيرا من تناقضات البشر، وصراعاتهم الداخلية، بل ربما زادتها تعقيدا، هناك دراسة نفسية رائعة لشخصية البطلة ليندا، قد تكون هناك فرصة لمقارنة حالتها مع بطلات روايات تعرضن لنفس المأزق لأسباب أخرى مختلفة كما فى "عشيق ليدى تشاترلى " لديفيد لورانس و"مدام بوفارى" لفلوبير و"آنا كارينينا " لتولستوى، أتحدث عن المغزى الإجتماعى  للرواية وشخصيتها المحورية، وليس عن قيمة الرواية من الناحية الفنية، روايات كويلو ليست بالتأكيد فى مستوى تلك الأعمال العظيمة من الناحية الفنية، ولكنى أراها دالة جدا على عصرها وزمنها، فى "ليدى تشاترلى" كان التركيز  على التفاوت الطبقى بين الطرفين، بدا كما لو الجنس وسيلة عابرة للطبقات من اجل التواصل، فى "مدام بوفارى" هناك مسحة رومانتيكية واضحة، رغم واقعية الحدث وتفاصيله، وفى "آنا كارينينا" امرأة تبحث عن ذاتها، وليس عن عشيق فقط، ليندا أبسط من ذلك نوعا ما، إنها ضحية الملل والمدينة معا، مدينة جينيف، سويسرا بأكملها تكاد تتحول هنا الى سجن نفسى مزعج، عشر سنوات من الزواج، وحضارة وفرت لها كل شىء، ولكن ذلك لم يمنع خوض مغامرة بحثا عن شغف الحياة المفقود، للمدينة وللمكان هنا دور البطولة، وللمكان فى نهاية الرواية دور فى الخروج من المعاناة، الطبيعة تعيدنا أكثر بساطة، تبدو الحكاية بأكملها سردية فى مدح البساطة والحياة بلا تعقيدات وضغوط، و هجائية عنيفة لحضارة تهتم بكل ما هو متعلق بالظاهر، ولا تستطيع أن تكتشف أو تعالج جرحى الأرواح، نظرة رومانتيكية بالأساس، وقبل كل شىء.

لا نسمع فى الرواية سوى صوتا واحدا هو ليندا، امرأة الثلاثينات التى تزوجت من رجل أعمال ناجح، لديها طفلان، ومنزل فاخر، وتعمل صحفية، هى التى تتحدث طوال الوقت عن مشاعرها المركبة بعد أن قابلت كاتبا لإجراء مقابلة، قال لها عبارة غيرت حياتها: ” لا أبالى ولو مقدار ذرة بأن أكون سعيدا، أفضل أن أعيش حياتى بشغف، وهذا خطير، لأنك لا تعلمين البتّة ما قد يحدث تاليا”، ذات صباح تتأمل ليندا حياتها الفخمة، تتساءل : “أهذه هى الحياة؟”، تبدأ الحياة بسؤال، يتدخل كويلو فى أوقات كثيرة لنسمع صوته على لسان بطلته، ليته لم يفعل، ليته تركها تعبر فى حيرة عما تريد، عشر سنوات فترت فيها الرغبة الجنسية مثلمعظم الزيجات، ولكن مشكلة ليندا أعمق من ذلك، مشكلتها نفسية بالأساس: خوف من أن تضيع حياة ثرية مرفهة، وخوف من مجهول يدفعها الى مغامرة لا تعرفها، دافعها للمغامرة ليس اكتشاف أبعاد أخرى للجنس واللذة، ولكن معالجة مخاوف معقدة، تهرب من الخوف الى خوف أكبر، تكتشف وحشا فى داخلها، تماما مثل دكتور فرانكشتين الذى صنع وحشا فلم يستطع أن يسيطر عليه، أو مثل الطبيب الذى ازدوجت حياته بين دكتور جيكل ومستر هايد، فلا يستطيع أن يتحكم فى تجربته، أزمة ليندا نفسية بامتياز، تلتبس مع حالات الإكتئاب من حيث فقدان الشغف بالحياة، أو بمعنى أدق فقدان طعم الأشياء، كما تتلامس مع حالات الإضطراب الوجدانى ثنائى القطب فى توالى الفرح والحزن بشكل مزعج، ولكن ليندا لن يفيدها العلاج، ولن تلجأ الى العقاقير التى تتعاطاها صديقتها ضد الإكتئاب، ولن تسمع نصيحة زوجها باللجوء الى إخصائى الإستشارات الزوجية، حالتها لا ينفعها سوى أن تخوض تجربة المغامرة، هربا من مخاوف أورثتها التوتر، وبحثا عن شغف مفقود فى حياة تخلو من المشاكل المادية، ولكنها مليئة بالمشكلات النفسية.

علاقة ليندا مع جاكوب، حبيب المراهقة العابر، تبدو منذ البداية معروفة النهايات، وتواصلهما الجسدى لن يزيدها إلا تشوشا، حتى عندما تجرب معه ألوانا لم تعرفها من اللذة، فإن المغامرة ستنتهى الى طريق مسدود، لن تكون للمغامرة من فائدة سوى أنها ستكتشف جوانب مظلمة من ذاتها، كانت قد وصلت من قبل الى حد التفكير فى دس الكوكايين  لزوجة جاكوب المتعالية، من أجل أن تنتقم منها، جاكوب أيضا يبحث عن مغامرة تكسر حياة محسوبة يعيشها كسياسى ناجح، يرغب فى إرضاء الآخرين، إرضاء والده، وزوجته، وليس إرضاء نفسه، فى هذا الشبع ما يؤدى الى العكس تماما، الى الجوع، وكأن المشكلة داخل الإنسان، وليست فى خارجه، هناك آفة تجعله دوما يتوقف لكى يسأل نفسه عن معنى حياته، وهل يستطيع أن يواصلها على هذا النحو أم لا؟

يمكن لشخصية مثل ليندا أن تنزلق بسهولة الى الإكتئاب، تنشطر حياتها الى عالمين، لاتستطيع أن تقنع بإحداهما، فتنتحر مثلا،  لكن كويلو يجعل لها زوجا عاشقا، يساندها رغم أنه تقريبا  يعرف تفاصيل بحث زوجته عن رجل آخر، عندما تحلّق ليندا مع زوجها فوق الجبال، عندما تقلد الطيور، وتسمعها، تكتشف الحب من جديد، حب الذات والكون، نهاية مثالية رومانتيكية ترضى القارىء، ولكنى لا أظن أنها يمكن أن تحل مأزق امرأة تعيش فى هذه المدينة المسترخية، ستعود ليندا الى أسرتها، ستحتفل معهم بسنة جديدة، مواساة صفحات الرواية الأخيرة، لن تبدد قلق معظم صفحاتها، ما وراء المغامرة كان أمرا لا يمكن الخروج منه بمثل هذه السهولة، النهايات الأخلاقية لا تليق بتلك الأعمال الى ترصد نفوسا مضطربة، لا أعتقد أن شخصية مثل ليندا، كما رسم كويلو معاناتها الداخلية، يمكن أن تغلق أقواسها بمثل هذه السهولة.

فى كل الأحوال، فإن الشخصية تترك انطباعا قويا عند قارئها، ذلك لأنه كويلو ربطها بعصرها وبمدينتها التى يرتزق فيها الآلاف من رجال التحرى، لأن الأزواج يشكون فى خيانة زوجاتهم، كل شىء يجرى بدقة ساعة سويسرية صارمة، كل شىء متقن وأقرب الى الكمال، كتالوج الإنسان أبعد ما يكون عن ذلك، من هنا تنشأ الأزمة، حتى الأخلاق التقليدية يعاد تعريفها من جديد، زوجة جاكوب لاتمانع أن يمارس زوجها الجنس مع امرأة أخرى بلا حب، تعرف أن زوجها يخونها، ولكن كل شىء لابد أن يسير بطريقة محسوبة أمام الناس، حتى يستكمل زوجها مسيرته السياسية، الطبيعة أيضا جمالها خارق، مكتمل، وكأنها جنة على الأرض، جبال الألب، بحيرة ليمان، الإنسان ليس كذلك، لأنه يمتلك قلبا وعاطفة وعقلا، وكلها أشياء متقلبة ومتغيرة، لن تستطيع ليندا أن تطير فى الهواء الى الأبد، ولن تتمكن من الإستماع الى النسر دائما، ستعود حتما الى الأرض بكل تناقضاتها الدخلية،  ربما يكون أفضل ما فى الرواية أنها طرحت سؤال الملل والوحدة من جديد، جعلته يخرج من قلب الرفاهية والإكتفاء، جعلت الشغف هدفا وليس فقط مجرد أن نحيا، هدف مثل هذا لايمكن الإجابة عنه فى نهاية محلّقة فوق جبال الألب، لأنه أقرب الى الحلم السرمدى، الذى تريده البشرية لتحقيق سلام بعيد وصعب، روايتنا كانت تستحق اسما أشمل، لأن خيانة ليندا مجرد وسيلة للكشف عن أزمة أعمق، وعن سؤال أخطر حول سعادة مراوغة لا سبيل الى الإمساك بها. 

مقالات من نفس القسم