الرئيس والمختال

جمال أزروفي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جمال أزروفي

تناول حلوة اللوز المعسل بيدين خشنتين، وكأنه يقبض على فاكهة التين الشوكي. تفتتت الحلوى بين أصابعه قبل أن تصل إلى فمه، فاتسخ قميصه الأسود دون أن يكترث. حين حرك ذراعه من جديد  لالتقاط قطعة أخرى، لاحظت بطاقة عالقة على الكم الأيسر لمعطفه، مكتوب عليها “مصبنة النظافة العصرية” يبدو أنه نسي التخلص منها قبل المجيء بينما كان منشغلا بتناول نوع آخر من الحلوى وكأنه يخاف أن تنفذ من الصحن المعروض بسخاء على المائدة.

استقر بعض الفتات فوق سروال جاره على اليمين، نفضها الأخير وهو ينظر مندهشا  دون أن ينبس بكلمة. هذه الأعراس تشبه الحفلات التنكرية، تجهل تماما أي طاولة ستحتضنك،  ولا أي نوع من البشر سيشكل دائرتك الضيقة، فقد يرمي بك حظك البئيس مع أقذر شخص تمنيت ألا تجالسه طوال حياتك. عشرة ضيوف تلاصقت أفخاذهم حول كل المائدة  لضبط الأمور وتفادي مفاجآت اللحظات الأخيرة.

جمع فتات الحلوى الساقطة على المائدة في راحة يده اليمنى ورمى بها في فمه ضاربا كفا بكف في حركة بهلوانية. إرتشف من شايه بصوت مسموع، وأفرغ كأسا من الماء المعدني في جوفه محدثا خريرا جعل المحيطين بالطاولة ينتبهون إليه باستغراب. حمدت الله أنني لم استمر في تحمل خريره لأن الأوركسترا كان قد شرع في العزف.

تخيلته مع زوجته .. طار عقلي إلى مهرجانات تلاقح الحمير في السوق الأسبوعي والقناعة التي تكتسبها -وانت تحضر المشهد – بأن الإنسان كائن اجتماعي وإن لم يستطع يوما أن يكون كذلك فثمة خلل سيبدو جليا للجميع.

وضع كأس شاي آخر أمامه، وقدح قهوة بالحليب. ابتسم في وجه صاحبه قائلا:

ـ يجب ان تكون ذكيا …الشاي سينقضي سريعا والقهوة للاحتياط. الحلوى تحتاج الى سائل لابتلاعها..وهنا ببروكسيل يتأخرون كثيرا عن تقديم وجبة العشاء. سنجوع قبل الأوان.

صاحبه معجب به يضحك ببلادة وينافسه في  التهام  الحلوى قطعة تلو الاخرى: جرب هذه انها باللوز وهذه بالكوكو، وهذه غروبية مسكرة وهذه محشوة بالتمر…

صديقنا يلتفت يمينا ويسارا دون توقف، يشير الى كل من دخل الى القاعة ليلتحق به، ثم يسأل سؤاله الوحيد:

 -أين ركنت سيارتك؟

وحين يجيبه الضيف أو قبل ان يسمع الإجابة، يرد  واصفا بدقة المكان الجميل الذي استطاع الحصول عليه بذكائه ..مبتسما  لأنه ليس ببعيد عن قاعة الافراح فلا يعقل أن يركن سيارته المرسيديس ذات المحرك الأسود بعيدا في هذا المولنبيك الممتلئ عن آخره  بلصوص السيارات خصوصا وان سيارته من أكثر السيارات عرضة للسرقة لأنها المانية الصنع وأن الجمارك في معبر بني نصار أثناء عودته إلى أوروبا عاملوه بجفاء وفظاظة تنم عن حسدهم لامتلاكه سيارة مرسيديس، لذلك اصطنعوا له مشاكل واهية وأفرغوا كل ما في جوف السيارة لتفتيشه بدقة متناهية. لم يفعلوا ذلك مع سيارات أخرى ك”رونو” او “بوجو” فقط لأنه يقود مرسيديس.

 –  اعتقدوا أنني تاجر مخدرات…أغبياء وحساد هؤلاء الجمارك أبناء العاهرات. لكنهم لم يجدوا إلا كيس الحلزونات والتين الهندي.

استمر في القاء  محاضرته عن ميكانيك سيارته وقطع الغيار التي استبدلها وغلاء ثمنها ولمعان طلائها …حتى بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه لأن الضيوف المحيطين بالطاولة كانوا قد اهتدوا الى تكوين مجموعات صغيرة يتجاذبون اطراف الحديث تجنبا لسماعه.

 ساد الصمت لهنيهة وجال بطرف عينيه حول المائدة، لمح بلجيكيا يتحدث مع جاره كان يشاركنا المائدة، أغلب الظن جار العريس او احد اصدقاء العائلة، طاولة أخرى كانت عن بعد تحوي عائلة بلجيكية بأكملها.

خاطب صاحبه بصوت مسموع:

  • لماذا أجلسوا هذا اليهودي معنا؟ لماذا لم يذهب الى بني جلدته هناك؟

رد البلجيكي: انا لست يهوديا انا ريفي. يبدو أنك لست على ما يرام. تسب الناس في وجوههم. وتدور حول نفسك كالكلب المسعور منذ دخلت الى هذه القاعة.

فاجأه “البلجيكي” حين تحدث بنفس لغته  فامتقع لونه  لكنه اصر على التعقيب:

– تبدو وكأنك نصرانيا، لون شعرك اشقر. لكن مادمت مسلما فاستعرض علي سورة “الحند”.

امتعض الأشقر من رد صاحبنا، سحب الكرسي الى الوراء وغادر الدائرة وهو يكرر

– من اي زريبة فر هذا الكائن؟ اوثقوه كي لا يحدث كارثة.

لم يبالي بما احدثه من امتعاض حوله، بل وجه انتباهه الى ايقاع الموسيقى وشرع يرتج فوق الكرسي في شبه رقصة، لكنه توقف على الفور وصاح في وجه المغني:

 -اثمازيغت ثمازيغت. كعكع ازوبيدة أصاحبي.

التفت باقي الضيوف الى طاولتنا، بينما استمر الأوركسترا في الغناء دون أن  يوليه أدنى اهتمام.

لمح صاحب العرس قادما من بعيد  وهو يوجه بعض  ضيوفه إلى الموائد الفارغة في اقصى القاعة. أشار إليه بأنه حان وقت الأكل بينما اكتفى الأول بالإشارة الى ساعته على ان الوقت لازال باكرا.

التفت الى جاري الذي كان جالسا على اليسار والذي لم أكن بدوري أعرفه البتة، لكنه يبدو مهذبا وأنيقا في بدلته الرمادية ثم سألني بصوت منخفض

 -من يكون هذا الشخص؟ هل تعرفه؟ إنه شخصية…

 أجبته بدوري بصوت منخفض وكأنني أفشي له سرا وأتحاشى أن يسمعه غيره:

 -إنه المدير العام للجمارك ببني انصار بالمغرب وقد جاء ليحضر عرس حفيدته.

 -زعما رئيس الديوانة …أيفهم الريفية؟

-نعم …إنه ريفي.

شعرت به وقد تغير مزاجه وخفت حماسه. ظل صامتا لفترة قصيرة ينظر إلى صاحبه ويفتح عينيه نحو الأعلى مفرزا جبهته المجعدة بكثافة وكأنه يستنجد به.

انتفض من مكانه، واتجه إلى أقصى القاعة وجلس إلى طاولة فارغة بمفرده يرسل نظراته المتوجسة إلينا بين الفينة والأخرى، تاركا صاحبه مستغربا تصرفه لكنه لم يلحق به لأن طبق الحلوى لم يكن قد انتهى بعد فيما كانت المائدة الأخرى  فارغة إلا من قنينة الماء المعدني،  ففضل أن  يلوح له عن بعد ويحثه على العودة إلى مكانه بينما صاحبه يبدو منكمشا على نفسه وكأن لفحة برد أصابته. فجأة انتفض من مكانه أخرج شيئا من جيبه تكهنت انه ورقة نقدية…اتجه نحو الاوركسترا. منح المغني الورقة وطفق يهمس له في أذنه لبعض الثواني، ظل واقفا جنب المغني حين اخذ الاخير الميكرو المعلق وسمعته يردد:

“هادي تبريحة من السي ميمون فخاطر الرئيس ديال الديوانة دبني نصار”

سألني صاحب البدلة الرمادية الذي يفترض ان يكون الشخص المعني عمن يكون رئيس الديوانة هذا..

اشرت الى صاحبنا الثاني الذي كان لازال منهمكا بالتهام الحلوى وقلت

– هذا هو الرئيس .

……………

  فرنسا: 06 مارس 2020

مقالات من نفس القسم