الدنيا الواسعة

الدنيا الواسعة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

* الاســــم *

... وكان أكثر ما أحزن قريبي الميت ، أن الأمطار تنزل على المقبرة وتمسح اسمه الذي أنفق ساعات في حفر حروفه ودهانها . في البداية لم أعده بحلٍ يمنع القطرات الظالمة من ملاحقة الاسم اليتيم أو حتى جعل الحروف تغور في الحَجر كلما تبللت .. كيف أنجح في هذا وأنا الذي بليت بضعف النظر حتى أنني أتعثر في شواهد القبور ولا ألحظها إلا عندما أستنشق عبير الموت ويضربني في سلسلة ظهري الحساسة حقاً ؟ رغم هذا لم يكن هناك بُدٌ من أن أطيِّب خاطره وأريحه – هو الضيف العزيز – لذلك تجاهلت اللهفة في وجهه لعدة دقائق متيحاً لنفسي فرصة تنشيط منابع الكذب الممزوج بالشفقة داخلي، ثم ربتُّ على كتفه وابتسامتي تتسع ورشقت عيني في عينيه التي تتخايل فيها الدموع وقلت بكل يقين " كلما سمعت صوت الطبول ، اعلم أنني قابع إلى جوار اسمك الموسيقي ، وأنا مسلح بكل الأسلحة التي ستخيف الأمطار وتلقيها بعيداً ، اطمئن تماماً ونم في هدوء كما كنت... " .. أما لماذا اخترت الطبول.. فلأنني أسمع الآن صوت قلبه ، يدق بعمقٍ .. وصدق .. 

* العمــــق *

فقدتُ بصري بالأمس . وكما سأضطر إلى حفظ تاريخ ذلك اليوم ” الخامس من مايو ” ونعته باليوم المشئوم ، فسأضطر كذلك إلى كراهية صديقي الذي أشار عليَّ بهذه التجربة التي انتهت هذه النهاية. قال ابحث عن أقوى مصباح وشغله على القوة الأعلى والصقه بعينيك لتقبض على عمق النور وبذرته المخفية. في الصباح مرَّ الأمر على خير، أما بعد الظهر فقد افتقدت الأَلق لأن الدوار أصابني وأنا على وشك الوصول ، ثم تشاغلت بكل توافه حياتي وأنا أفرك عيوني كل دقيقة حتى جاء الليل وصرت وحدي تحت الغطاء وتمت التجربة وطالت وطالت وتوحدت أنا والسر ، تسلل النور إلى روحي وهدهد أعضائي المنكفئة ، روى البساتين وحقن دماء المتصارعين ، داعبني وشق بحراً وصرخ النور – الذي لا يكذب – وقال مسست عمقه فهل أتركه وأغيب ؟! .. وهكذا أغلقنا على أنفسنا الحدقتين وصرنا نلهو ونلهو ، حتى أننا طرنا في مرة… كل ما في الأمر أنني أشتاق أحياناً للظلام الجميل، لكي أنام.. ولو حتى تحت هذه الجملة المنيرة هناك..

* عـــــواء *

طول الوقت أحلم بالحيوانات ، الضخمة منها والكبيرة أولا ً، حيث أرى باباً مترامياً يدقون عليه ثم يقتحمونه تسبقهم قرونهم وحوافرهم، أقفز للخلف وألتصق بالحائط بينما يبتسمون هم بسخرية.. تأتي اللحظة الجميلة التي تتسلل فيها من أسفلهم الزواحف الطيبة ويشغلون باقي الفراغ ، وهكذا تزدحم السماوات بالضجيج الممزوج بالطمأنينة التي تملأ القلب . أحب فيهم أسلوبهم في الالتصاق والاهتمام، لزوجتهم ولعابهم وهم يصيغون لون جلدي وشكل نظراتي ، بينما الكبار الضخام ، لا يلتفون أبداً لمشاعري وأحاسيسي، لا أنتظر منهم أن يربتوا على ظهري أو يمسحوا الدموع التي تغزوني مع عواء الذئب المجاور لنا في الحقل يوم اجتماعنا لجلب القمر من الترعة القديمة.. فقط أقول لهم أرضعوني محبتكم وأنا أرضى…. مرة تسربوا إلى خارج الحلم ووجدتهم جواري في السرير وعلى أرضية الغرفة وعلى الحوائط قرب السقف، سددت أذني وأغمضت عيني ومددت يدي المرتعشة وقلت لهم “كفى” فصمتوا جميعاً ونظروا للأرض وضاعت رائحتهم فجأة ثم انسحبوا واحداً تلو الآخر.. من يومها والحيوانات غادرت أحلامي وتركتني وحيداً ، في هذه الدنيا الواسعة….

* النجمـــة *

الولد البدوي لحقنا بالماء بعد أن كدنا نهلك ، وقبل أن يختفي لف رأسه وضحك وقال ” الماء عطن ولا يشرب منه إلا الإبل ” ، فزع الجميع لثوان ثم أخذوا يضحكون ويتندرون بي ، أنا الذي مَلأت وجهي صفرة الموت وألقيت بنفسي على الأرض لأتقيأ. استمرت ضحكاتهم تملأ المكان وأنا أرتعش وأنز عرقاً وأكاد أفقد الوعي حتى مَلّوا مني وابتعدوا قائلين “سنسبقك” . أغمضت عيني بارتياح وهدأت قليلاً ثم نظرت بحزن إلى القيء الذي لوث المكان لكنني وجدت في وسطه شيئاً يلمع ، التقطُّهُ بسرعة فإذا به جوهرة. هرعت إليهم وأنا أكاد أسقط بين كل خطوة وأخرى وصرخت “لم يكن الولد كاذباً ، لقد وجدتها ، وجدت النجمة التي تستدل بها الإبل طوال هذه السنوات” . قلتُ هذا وعدتُ أغمض عيني وأتنفس  بصعوبة ….

* سماوات القتل *

كنت واثقاً ، موقناً ، في مدى تلك الثواني ، أن حبيبتي ستدفعني إلى الماء الآسن . خفت منها وشل الرعب أعضائي وهَطَلت مسامي كل مخزونها التاريخي من العَرَق ، توقف تفكيري فيما عدا منطقة حضور الفكرة، الجزء الذي يتعامل مع الأمر من زاوية وقوعه لا محالة بل والدخول في ارتعاش تخيل القهر الذي سيتخلق من الاختناق تحت هذا العطن . مؤكد ، جانب مهم من أسباب عدم المقاومة وأنا في الماء ، سينبع من التقزز ، ثم إن التسليم الغبي الذي هو ابن شرعي للجبن والرعب المزمن ، سينهي الأمر بنجاح حقيقي مخلفاً ضحكة متشفية تخرجها حبيبتي لتملأ بها الكون. كنت قد جاهدت طول الأسابيع الماضية لاقتناص فرصة أن أكون معها بمفردنا ، ليلاً ، وفي طريق صامت ، أمسكت يدها وقبلتها وضحكنا وبدأت أندمج في فكرة إقصاء ” الماحول ” لنكون بؤرة المشهد وخلفيته ، مستدعين الطقوس الرومانتيكية العتيقة التي ستظل مطروقة ، إرضاء لجيناتٍ لا تنسى . فجأة عندما مررنا بهذا الجرف ، وقبل أن أقول    لنفسي : هذا المكان يسهل الإنزلاق منه، كانت روحي قد امتلأت بالرعب واليقين أن الحركة القادمة،  القريبة، التي ستكون سريعة جداً ومباغته من يد حبيبتي، هي دفعي وليس أي أمر آخر… ثوانٍ طويلة وسميكة جداً كرهت فيها حبيبتي ، القاسية، التي رتبت قتلي ترتيباً متقناً مررته بكل براعة عبري، أنا الغافل الغبي ، الذي تنطبق عليه مقاسات الضحية .المنطق ، منطقي أنا ، هو الهروب.. الاختفاء ، التلاشي فوراً .. لكن الأزمة الطاحنة ما زالت تكمن في أعماق الرعب .. في عمق الأعماق.. إنها الموافقة والانقياد لحكم القدر، الآخرين ، الظروف ، التاريخ أو قل إنها الرغبة المضمرة، القديمة، في الانتحار.. طول السنوات الماضية أكبس الستائر فوقها حتى نجحتُ في توهم أنها لن تطلع أبداً.. لماذا لا أكون أنا الذي رتب كل هذا، فقط لأعطي لها الفرصة في الظهور وممارسة حقها في قليل من المظهرية ، لماذا تظل رغبة مسحوقة تحت جبروت التهميش المتعمد؟ هي الأخرى تمتلك بذور المقاومة وألعاب المراوغة ، مثلها مثل باقي الرغبات.. محتمل جداً أنني من رتب الأمر هكذا، أو هي ، الرغبة، رتبت الأمر من خلالي.. مخدوعٌ مرةً أخرى .. وبذلك تتفجر رغبة حبيبتي ، المخبوءة دوماً، في قتلي وكذلك ، رغبتي في الانتحار ورغبة المكان في حدث يقلب سكونه الممض ورغبة الأسماك الصغيرة في وليمة سمينة ورغبة العطن في ضم أشلاء متميزة ورغبة التاريخ ورغبة السماء ورغبة الوطن ورغبة الـ والـ والـ .. لكن ، إذا دفعنا بالأمر، لاتجاه معاكس ، كأن تكون اللعبة مرتبة بشكل دقيق ، لأفكر أنا هكذا وأستدعي فكرة القتل في حد ذاتها ثم أوجهها نحو داخلي أو نحو حبيبتي صانعاً لنفسي مبررات من قبيل الدفاع عن النفس والدفاع عن فكرة البقاء ، الفكرة الأسمى والأكثر شرعية ؟ عند هذا الحد ، كان لابد من نظرة لعيني حبيبتي والحكم على هدوءها بأنه لحظة الخداع الأخيرة والهامة واللازمة قبل الدفع بي بكل قوة وقسوة وصراخ أيضاً ، كذلك الحكم على توتر تلك العيون بأنه نوع من عذاب الضمير، الأخير كذلك ، قبل الفعل . الفكرة المسبقة تحاصرك أو تحاصرها في محيط نظرتك المستريبة ..إن الأجمل والأكثر بهاء يكمن دائماً في قلب منطق اللعبة ونظامها أو على الأقل عدم إتاحة الفرصة لذاتي ، مثلاً ، أن تسعد بعد أن تفرج عن رغباتها .. ولا للفضاء المحيط أن يسجل ضحية وقعت عبر إجراءاته التي تبث فاعليتها.. ولا لحبيبتي أن تستجيب لفكرة قتلي الغريزية ولا لفكرة القتل الهائمة ، الثابتة ، القديمة الجديدة ، المزيفة الحقيقية ولا .. ولا.. سأسبق الجميع وأغمض عيني وأسبقهم وأموت .. أموت واقفاً بكل هدوءٍ وكل شرف… وقد أرسم على وجهي ساعتها تلك الابتسامةَ الحانيةَ والنبيلة …

* سن النبوة *

مكثتُ طوال أل تسعة وثلاثين عاماً الماضية وأنا لا أنسى أبداً كلام الشيخ صاحب أبي الذي كان كلما يراه يسرع ويُقبِّل يده اليمنى وينظر له نظرات كلها ارتياح وإعجاب قبل أن يُقبِّل جبينه ، متجاهلاً حاجبيه الموصولين كثيفي الشعر وعيونه الحمراء دائماً .. قال وهو يعلمني ، الأماكن الفارغة هي مقرات الشياطين ومخابئها وأماكن انطلاقها وعودتها فاحرص على عدم البقاء وحدك أبداً أبداً .. وتمر عليَّ السنوات وأكبر و أكبر وتضطرني الظروف للبقاء وحيداً وأسمع وأشم وأرى أشياءً تتغير هيئتها باستمرار تحت الأسِرَّة وخلف الأبواب وداخل الأدراج والدواليب .. كان النوم لا يأتيني مطلقاً وأنا وحدي .. وعندما تزوجت كانت زوجتي تعود من زيارتها لأمها ، التي تستغرق أياماً من كل شهر فتجد عيوني محمرة والهالات السوداء تملأ وجهي فكانت تبتسم في البداية لظنها أنني لا أطيق بعادها لكن مع الوقت صارت تغمم لأختها في التليفون عن زوجها الخواف .. إلى أن احتفلتُ بعيد ميلادي الأربعين وفوجئت بتغير صفاتي كلها دفعة واحدة .. بعد الاحتفال بيومين غادرتني زوجتي والأولاد فنمت بعمق ولم تدق على شباكي أية هواجس .. كلامي أصبح أقل وأكثر تركيزاً وفي العمق دائماً .. نظراتي ثبتت وابتعدت عن القفز والتشوش .. مشيتي صارت تلقي على الناس الهيبة والوقار .. حتى خَطِّي الذي عاش عمره متراوحاً بين الطلوع فوق السطر وبين النزول تحته تمسك بالسطر وأحبه بصدق .. أنفاسي المضطربة هدأت واستكانت .. القطط والكلاب صارت تتمسح بقدمي والعصافير تقترب مني بلا خوف بل أكاد أقول بحبٍ واضح .. حتى المرأة التي أحاورها وأداورها منذ سنوات ، نظرتُ لها نظرة قالت كل شئ واستقبلَتْهَا هي وأطلقت زفرة ارتياح وكأنها تقول ” أخيراً ” وصحبتها للفراش وانتهى الأمر..هل تشي كل هذه المظاهر بمجرد وصولي لسن النضج والرجولة والثبات أم أنها توطئة وتمهيد لحدثٍ ما .. تجهيز من قوة عليا لأمر غائم حتى الآن لكنه في سبيله للسطوع .. والدليل الجلي الذي لا ينكره إلا مكابر هو أن هذه المظاهر أشرقت بدون أي تدرج منطقي .. كذلك أنا لا أنسى أبداً ما كان يجري معي عندما أصابني الداء الغامض ومنعني الطعام والشراب وعشت فترات طويلة في المستشفى ولا زاد ولا زوَّاد لي إلا الجلوكوز فقط ..كان الدم يصل إلى المخ طازجاً وقوياً ، هادراً لم يتلوث بالهضم والتمثيل الغذائي أو ما شابه .. يصل بعنفوانه وشبابه فيجعلني في حالة يقظة ذهنية عجيبة تجعل من قوة الحدس تعلو على ما سواها ، فكنت أحس مثلاً بوجودٍ فادحٍ لا يمكن تجاهله لعمي وأفاجأ به يدق الباب … القريب الذي انقطعت صلتنا به منذ سنوات ، أحس بأنفاسه وأكاد أراه فيتحقق الأمر بالفعل .. أيامها كنت أقرأ في الصوفية بكثافة فقلتُ إنها إشارة الاقتراب من الولاية .. حتى رتب صديقي الماركسي الأمر بشكلٍ علمي : الدم واستئثار المخ به .. الخ فاضطررت أن أتناسى الأمر أو استسلمت بالأحرى للحياة وصغائرها .. لكن هل تسري نفس الدماء يا صديقي الذي سافر للخارج – في كل الناس؟ هناك فروق ضخمة بالتأكيد .. بمعنى أن دمي بالذات هو الصالح لاختراق الحجب .. بالتأكيد .. لهذا فقد فارقت كل تردد – وهل يملك المختارون أن يتقاعسوا – وصرت أصحو مبكراً في كل يوم وأصعد للسطوح .. آخذ أنفاساً عميقة متوالية ثم أومئ بوجهي بمعنى الموافقة والتأهب بعدها أغمض عيني طويلاً طويلاً وأرتب العالم .. 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون