الدرس الأخير

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 8
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 ألفونس دوديه

ترجمة: سماح ممدوح

تربض فى الساحة وسط مديتنا، لوحة كبيرة هى بمثابة نشرة الأخبار، والتى تعلق عليها كل الأخبار الجديدة.

كنا قد اعتدنا نحن سكان هذه البلدة فى العامين الماضيين، على أن تأتينا الأخبار عبر هذه اللوحة، أخبار المعارك فى الحرب، القوانين الجديدة، الأوامر التى تصدر عن القائد.

فى ذالك اليوم، كنت مارا بجانب لوحة الأخبار، عندما كنت متجها إلى مدرستى والتى بدأتها متأخرا اليوم، وذالك بسب خوفى من توبيخ المعلم “هامل” وعقابه لنا إن لم نجب على الاسئلة التى سيسألها فى درس النعوت الذى شرحه فى اليوم السابق، وأنا للأسف لم استذكر كلمة منه.

فى طريقى فكرت فى الهرب من المدرسة، وقضاء اليوم فى الخارج، كل ما حولى يغرينى بهذه الفكرة ، دفء الجو، شروق الشمس، صوت تغريد العصافير، الذى يأتينى من أطراف الغابة القريبة، والتى وراءها ساحات تدريب الجنود.

لكنى تحليت بالقوة الكافية لأقاوم كل هذه الإغراءت واذهب إلى مدرستى.

عند لوحة الأخبار، تجمهر عدد كبير من سكان البلدة، حتى يقرأوا ما ورد من الأخبار الجديدة. عندما رأيتهم بهذا التجمهر زاد قلقى . وسألت نفسى ماالذى سيحدث ويخبروننا به الآن؟ عندها انطلقت ركضا بأسرع مايمكننى إلى المدرسة.

أطلقت ساقى للريح عدوا قاصدا مدرستى، عندها استوقفنى “آشر” الحداد والذى كان يقف مع والديه يقرأون الأخبار الجديدة، وقال لى ساخرا:

“لا داعى للعدو بهذه السرعة للمدرسة،  سوف تصل فى الموعد، مازال هناك متسع من الوقت”.

فى أيام الدراسة العادية، كان ابتداء اليوم الدراسى يعنى الصخب، والضجيج، الذى يسود كل الأنحاء، والذى يستطيع المارة فى الشارع أن يسمعوه، صوت فتح وإغلاق المكاتب، صوت تحريك مقاعد الفصول، إلقاء الدروس بصوت مرتفع، حتى إننا كنا نضع أيدينا على آذاننا حتى نستطيع الفهم بشكل أفضل.

لكن اليوم هناك شئ مختلف، بل كل شى مختلف، فعندما وصلت إلى المدرسة وجدت كل شى هادئا تماما، هدوء صباحات أيام الأحد، أيام العطل.

عندما وصلت إلى المدرسة متقطع الأنفاس، كان المعلم “هامل” يقف فى حديقة المدرسة الصغيرة، وبدأ التلاميذ دخول الفصول.

“كل شئ هادئ”، لكننى كنت أعتمد اليوم على الضجيج المعتاد حتى أستطيع الدخول إلى الفصل دون أن يلحظنى أحد.

عبر النافذة رأيت المعلم “هامل” يدخل إلى الفصل مع باقى زملائى الذين كانوا بالفعل قد اتخذو اماكنهم، وراح المعلم يمشى بين مقاعدهم جيئة وذهابا. عندها فتحت باب الفصل ودخلت.

يمكنك تخيل مدى خوفى وخجلى حتى احمرت وجنتى

“لكن لم يحدث شيء مما كنت أخشاه”

فعندما رأنى المعلم قادماَ،  قال لي بمنتهى اللطف والهدوء:

“اذهب إلى مكانك بسرعة، كنا اوشكنا على البدء من دونك، اذهب واجلس بسرعة فرانز الصغير”! قفزت إلى مقعدى وجلست.

عندما رأيت الأمر كذلك، بدأت مخاوفى تتبدد شيئاً فشيئاً،عندها بدأت ألاحظ الموجودات حولى . أول ما لاحظته كانت ملابس معلمى، مختلفة أيضا اليوم.

فقد كان المعلم “هامل” مرتديا ملابسه التى كانت خاصة فقط للأيام التى كانت تأتى فيها لجنة للتفتيش، وهى أيضا ملابسه لأيام العطلة والإجازات.

فقد كان يرتدى معطفة الأخضر الجميل، وقميصة ذو الحوافى المزركشة بهذه الأطراف الرائعة، ويرتدى أيضا ذالك (البريه) الأسود الحريرى الصغير، والذى طرز بأروع النقوش.

كل هذا يبدو غريبا بعض الشيء لكنه جميل. لكن أكثر ما أثار دهشتى فى هذا اليوم بعد الهدوء وملابس المعلم، هو مارأيته فى المقاعد الخلفية للفصل.

فقد كانت هذه المقاعد عادة هادئة لأنها خالية، لأن المعلم، كان قد خصص هذه المقاعد لبعض الكبار من رجال القرية، والذين لم يكونو يحضرون فى العادة.

أما اليوم فحضورهم هو الذى أكمل دهشتى لهذا اليوم الغريب،  فقد حضروا وكان “هاوزر العجوز” يجلس ومعه العمدة السابق، ومدير مكتب البريد السابق، وعدة أشخاص آخرين. وقد بدا على وجوه الجميع الحزن العميق. انتبهت على صوت سحب المعلم لكرسيه على الأرض فى حزم ، وهو يقول:

” يا أولاد، ما سأدرسه  لكم اليوم هو الدرس الأخير” .

واستكمل المعلم ضاغطا على الكلمات وأكمل:

“لقد جاءت الأوامر من برلين بأن اللغة الألمانية هى الوحيدة المقرر التدريس بها فى مدارس (الألزاس واللورين) وسوف يصل معلمكم الجديد غدا، وهذا هو درسكم الأخير بالغة الفرنسية فانتبهوا إليّ الآن جيدا”.

كان لهذه الكلمات وقع صواعق الرعد على أذنىّ، لابد وأن هذا هو الخبر فى اللوحة، وكانت تلتف حوله الحشود لقراءته !

يالهم من تعساء! أحقا هذا هو درسى الأخير للغة الفرنسية، التى بالكاد بدأت أتعلم كيف أكتب بها! هل عليّ أن اتوقف عن تعلمها الآن؟  يالغبائي وأسفي على ما فوّت من أوقات لم أتعلمها فيها عندما كان يجب علي ذلك.

فبدلا من التعلم كنت  أذهب للبحث عن بيوض الطيور أو للتزلج ! وكتبى هذه والتى كانت من وقت قليل ثقيلة فى حملها، كتاب القواعد اللغوية، كتاب تاريخ القديسين، وكل أصدقائي القدامى، هل يجب عليّ أن أتخلى عن كل هذا الآن.

أيضا المعلم “هامل” وفكرة أنه سوف يرحل بعيدا، ولن أستطيع رويته مرة أخرى، كل هذه الأفكار تجعلنى أنسى كم كان غريب الأطوار! ياله من مسكين معلمى! لكم أعطى شرفا وأهمية لهذا الدرس الأخير، حتى أنه ارتدى ملابسه المخصصة ليوم الأحد.

الآن أدركت لماذا حضر كبار رجال القرية الجالسين فى المقاعد الخلفية للفصل، لابد وأنهم يشعرون بالأسى لأنهم لن يرجعوا إلى المدرسة مرة أخرى.

كانت هذه هى طريقتهم لشكر معلمنا على أربعين عاماً من إسداء الخدمات الجليلة لمواطنى هذه البلدة، وأيضا لإظهار احترامهم لبلادهم هذه.

بينما كنت غارقا فى افكارى، سمعت من ينادى باسمى، نعم لقد حان دورى فى القراءة .

كيف أستطيع تعريف معنى”النعوت” التى سبق وشرحها المعلم، بصوت عال وواضح وبدون ارتكاب أي خطأ؟ لقد اختلطت عليّ الكلمة الاولى ووقفت عندها ووقفت عند مقعدى، وأخذت دقات قلبى تتسارع، ونظرت لأعلى لأسمع المعلم هامل وهو يقول:

“أنا لن اؤنبك يافرانز الصغير! يبدوا إنك تشعر بالسوء كفاية، هل ترى كيف سارت الامور؟ كل يوم نقنع أنفسنا أن لدينا متسع من الوقت، ونقول لنوجل هذا سوف نتعلمه غدا، والآن أنت ترى أين وصلنا!  يبدو أن هذه مشكلتنا جميعا نحن شعب الألزاس،  فإننا جميعا نؤجل التعلم إلى الغد!،  الآن لايمكنك أن تلوم الغرباء، لأن لديهم الحق إن قالوا لك كيف تكون فرنسيا ولا تستطيع القراءة والكتابة بلغتك الأم؟ لكن فرانز الصغير لا تشعر بالأسى أنت لست بهذا السوء لأننا الأولى بهذا اللوم، فاللوم يقع على كاهل والديك الذين لم  يحرصا على تعليمك بشكلك جيد. لقد فضل أبواك أن تعمل فى الحقول، أو تكون عاملاً فى إحدى المطاحن حتى تستطيع كسب حفنة قليلة من النقود،  ثم إننى أيضا ملام، فأنا الذى كنت أرسلك مرات عديدة، لتروى لى الأزهار، بدلا من أن أعلمكم دروسكم، حتى إننى عندما كنت أرغب فى الذهاب إلى رحلة صيد كنت أعطيكم إجازة .!”.

وهكذا من شيء لشيء ذهب المعلم هامل إلى الحديث عن اللغة الفرنسية، قال إن الفرنسية واحدة من أجمل لغات العالم، اللغة الأوضح، الأكثر منطقية، لذا يجب علينا حماية هذه اللغة ولانسمح أبدا بأن تموت أو تنسى، لأن الناس عندما يحتلهم الغرباء، فإن هم ظلوا معتصمين بلغتهم مالكين لها محافظين عليها، فهذا يكون بمثابة امتلاكهم لمفاتيح حريتهم من سجن الاحتلال.

عندما فتح المعلم كتاب القواعد كنت مندهشا كيف فهمنا بهذه السهولة. كل ماقاله يبدو سهلا ويسيرا. فكرت أننى لم استمع قط للدرس بمثل هذا الاهتمام، وأيضا المعلم هامل كان يشرح الدرس فى صبر وشيء من الإطناب .

فقد كان المعلم كالذى يريد إعطاءنا كل شى،  كل ماتحتوى عليه اللغة على عجل قبل أن يرحل، كالذى يريد أن يعلمنا كل مايعلم، وأن يحشو فى رؤوسنا كل شيء دفعة واحدة !

بعدما فرغنا من درس القواعد اللغوية كان لدينا درس فى الكتابة، فى هذا اليوم كان المعلم “هامل” قد أحضر لنا كتابا جديدا لتعلم الكتابة، فى غلاف جميل، مكتوب عليه بشكل دائرى فرانسا الألزاس، فرنسا الالزاس.

كانت هذه الكتابات تبدو وكأنها أعلام صغيرة،  ترفرف فى الفصل وقد علقناها على قضيب صغير فى مقاعدنا، يا لهذا المشهد الرائع،  فقد جلس كل واحد منا فى مقعده منهمكاً فى العمل، كم كان هذا هادئا ورائعا، لم يكن هناك أى اصوات ماعدا صوت خربشات الأقلام فوق الأوراق، حتى أن بعض الخنافس عندما دخلت الفصل لم يعرها أحد أى اهتمام. عندما نظرت إلى الأعلى نحو السماء،  ووجدت سرب الحمام يطير فوقنا، تساءلت: هل سيجبرون هذا الحمام على الغناء بالغة الألمانية أيضا؟

على  كل حال كنت كلما رفعت بصرى عن أوراقى، وعما أكتب، كنت أرى المعلم”هامل” وهو محدق فى شيء ما فى الفصل كأنه يريد أن يحفر فى ذاكرته كل التفاصيل مهما صغرت فى هذا الفصل.

لأربعين عاما خلت، عاش المعلم “هامل”  فى هذا المكان نفس منزله، وحديقته الصغير التى نمت فيها أشجار الجوز، وطالت حتى وصلت إلى سطح المنزل. هذه الفصول، وتلك الحديقة، هل سيترك كل هذا بسهولة هكذا؟ لابد وأن هذا يمزق نياط قلب معلمى. سوف يُخّلف كل هذه الحياة وراءه ويمضى بلا رجعة ، ومما يزيد حزن المعلم صوت أخته فى الطابق العلوى، التى كانت تتحرك فى محاولة لجمع كل مقتنايتهما لأن عليهما الرحيل ومغادرة البلاد صباح غد.

على الرغم من كل هذا امتلك معلمنا الشجاعة  ليعلمنا آخر دروسنا. بعدما فرغنا من درس تعلم الكتابة كان لدينا درس فى التاريخ، جاء صوت مناديا فى المقاعد الخلفية،  وكان صوت”هاوزر” العجوز، والذى كان يضع نظاراته استعدادا لتهجئة رسالة الشكر والوداع الاخير، من كتاب يحمله بين يديه وأخذ يتلوها على معلمنا.

التفتنا ناحية هاوزر العجوز، ويبدو أنه كان يبكى، صوته كان يخرج مرتعدا من اضطراب مشاعره، لكن كان من الممتع أن نسمع صوته، والذى حمل الجميع على الضحك والبكاء فى نفس الوقت.

كم اتذكر الدرس الأخير هذا، اتذكره كلما دقت أجراس الكنيسة فى الثانية عشر ظهرا، فعند هذه الساعة بالتحديد، كانت تمر من تحت نافذتنا جوقة الكنيسة التى تعزف بالأبواق وكنا نسمعها ساعة الدرس الأخير.

وقف المعلم هامل وكان يبدو عليه الشحوب، وقف من على كرسيه ، وخيل لى عندها إننى لم أره أبدا بهذا الطول من قبل، وبدأ يقول: “أصدقائى، إننى…..إننى..” ثم  احتبس صوته واختنق ولم يكمل، فقط التفت ناحية السبورة وأمسك بقطعة من الطبشور، مستجمعا كل قواه،  وكتب بخط عريض بأقصى ما فى استطاعته جملة واحدة هى:

“تحيا فرنسا”، ثم توقف واستدار مشيرا إلينا بيده وقال:

“الدرس انتهى، يمكنكم الانصراف”.

مقالات من نفس القسم