الحي الروسي: رواية ممتعة على خلفية قبيحة ودامية.

الحي الروسي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد هشام

ما أن تبدأ في قراءة رواية “الحي الروسي”، حتي تجد نفسك متورطًا في عالم “خليل الرز” الساحر. فالرواية المحملة بالهم السوري والحرب المشتعلة الذي يعيش الحي الروسي على حافتها ويرفض التورط فيها منذ سنوات، لا تتناول الحرب والثورة كحدثين رئيسيين قاتمة في أحداثها، لكنك تدرك ما يحدث من خلال قصص الأبطال وانعكاس الوقائع عليهم، خوفهم وأملهم في النجاة). فـالحي: الروسي هو مكان متخيل بسوريا صنعه الكاتب، يتماهى ويتداخل فيه عالم البشر مع عالم الحيوان. الأبطال الرئيسيون للرواية هم خمسة أشخاص وأربعة حيوانات.

استطاع الكاتب من خلال الرموز والإشارات أن يصل إلى رسم صورة للحي وسط حالة الحرب والصراع الدائرة في سوريا، فالحيوانات والأشخاص وحتى الأماكن تحمل دلالات ورموز مختلفة يتلقاها القارئ ويعيش معها طوال أحداث الرواية. وتتقاطع ردود فعل الحيوانات مع انفعالات البشر ، وينتج عنه العالم في الحي الروسي. الزرافة المولودة وسط فريق السيرك، وقد انتقلت إلى حديقة الحيوان في الحي لروسي وهي في سن صغير، على علم بكل ما يدور حولها، فهي تتابع وتدرك كل ما يحدث في شاشة التلفزيون بانتباه شديد لكن في صمت مطبق، تعيش مع صمتها وخوفها فقط، ذلك الخوف الذي ورثته من أبائها وأجدادها وتدرك أن مصيرها سيكون الهلاك لو تخلت عن هاتين الصفتين، فتستطيع أن تدرك إنها ترمز إلى الشعوب العربية، التي تشاهد وتتابع ما يحدث فيها في صمت وإظهار للامبالاة، ظنًا منها أنها بذلك تنجو من بطش حكامها، لكنها في الحقيقة تذعن للديكتاتورية وتقبل بما يُفرض عليها. ترسخ الزرافة كما ترسخ الشعوب في أذهاننا فكرة أنه ما من طريقة لكي تعيش في سلام سوى الخوف، “وحدهم اليائسون حقا لا يخافون”.

الكلبة الأفغانية رئيسة بتروفنا، والتي تعد أقوى مصدر لرائحة الأفكار الجديدة الغامضة التي يبحث عنها سكان الحي الروسي، فهي التي تدفع العالم وتحرك أشخاصه إلى أتخاذ مواقف للخلاص مما علقوا فيه، لأنها ترمز إلى أصوات الوعي الذي تتشكل عنه الثورة في النهاية. ونجد أيضا عصام، الذي يراه سكان الحي الروسي “بطلهم المُخلص”، لكن الحقيقة أن عصام لم يكن بطل قط ولم يقدم شيئًا لسكان الحي سوى الأمل. إنهم في حاجة إلى بطل ينتصر لهم من هزائمهم المتتالية، حتى وإن كانت الحقيقة غير ذلك، فعصام لم يحقق لهم أي بطولة، حتى معركته الفاصلة مع “بوريا” رجل المافيا الأول في الحي والمدعوم من الأجهزة الأمنية في العاصمة القديمة دمشق، سقط المطر خلالها ولم تتم، ولكنه بالرغم من كل ذلك يظل في أعينهم بطلا منتصرًا، الناس في الحي الروسي – كما في العالم- يبحثون عن الخلاص، عن البطل الذي سينتصر لهم في معركتهم، ذلك البطل الذي يعيد الحياة كما كانت.

(ما نريد قوله، نونا ثم أنا، هو أننا حين نعيش على حافة الدمار يصبح سهلاً علينا، وضروريا أيضًا، تعديل وتبديل، وربما حذف، كل معتقداتنا الراسخة التي ازدهرت في خمول السلم الملغوم والاعتياد والتظاهر واللامبالاة، لقد اقتنعنا البارحة مثلا دون مواربة ولا مكابرة بأننا، نعم، كائنات هشة جدا تشهد الدمار بعيونها وتعيش على حافته المتداعية دون توقف. وهذا شيء مفيد أيضا لأننا لم نعد نخاف كما لو أننا نخاف، ولا نتألم كما لو أننا نتألم، ولا نأمل كما لو أننا مسلحون بالأمل. لقد أصبحنا نخاف حقا ونتألم حقا ونأمل حقا..).

اعتمد الكاتب في بنائه للرواية على مجموعة من المشاهد المترابطة فيما بينها، تكمل وتنسج العالم الموجود في الحي الروسي، وقد استطاع أن يتنقل خلالها بكل براعة وتمكن. كمشهد الأم وانتقامها الطفولي من زوجة عمها وأيضًا علاقتها بـ”جحش” أخيها، مشهد اعتراف الممثل المسرحي للكلبة الأفغانية رئيسة بتروفنا برغبته في العودة للتمثيل مرة أخرى وأهمية الفن في حياته وحياة سكان الحي مما  يدل على أهمية استمرار الفن والحياة حتى في أحلك الأوقات وأشدها قسوة، ثم مشهد انتقاله بعد ذلك إلى قاعة السينما ومشاهدته لمشهد من فيلم “نابليون بنوبارت” وبكاء الطفل الرضيع وقت عرض مشهد “هزيمة نابليون” وسط اللاجئين السوريين النيام وصوت شخيرهم العالي داخل قاعة السينما. ويعد من أهم مشاهد الرواية هو مشهد جنازة عصام وتشييعه ودفنه في المقبرة على خلفية صوت الطائرات التابعة لأجهزة الأمن، ثم المشهد الأخير في الرواية وهو هروب الزرافة من الحي الروسي وانتفاضتها، وخروج جميع سكان الحي الروسي خلفها، ومرورها على الأحياء الأخرى كالغوطة والعاصمة القديمة، ثم وصولها إلى ساحة “الأمويين”، وذلك قبل أن تتعرض للقتل على أيدي رجال الهيئة العامة للإعلام. في إشارة إلى استخدام القوى المتحكمة للآلة الإعلامية في قتل الحقيقة ولخدمة مصالحهم.

تحمل الرواية الكثير من المعاني والدلالات الهامة، والمشاهد الممتعة التي من فرط عذوبتها تقف أمامها كما تقف أمام لوحة تتأمل معانيها وتذوب داخل صور الجمال المتناثرة فيها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري 

مقالات من نفس القسم