الحصاة لا تخطئ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 5
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد المغازي

كان ممدداً على سريره الذي يعد امتدادا أفقياً للحائط وبين يديه الجزء الأول من “آنا كارينيا” حينما انبعثت حرارة شديدة من نصف جسده الأيسر البعيد عن الحائط، شعر بغيظ دفعه لإلقاء نظرة إلى نافذة غرفته المستطيلة ليتأكد من غياب الشمس. بعد لحظات من التفكير أدرك غرابة سلوكه لأنه من المستحيل ظهور الشمس في منتصف الليل. ثم فكر في أمر يجنبه هذا الغيظ المتعاظم بداخله، فنهض بسرعة من سريره و اتجه إلى مكتبه محاولا إكمال قصة تأبى النهاية

**

لم يشغل باله الآن وهو على عتبة بابه سوى كيف يصل إلى شجرة التوت متينة الأغصان في فناء المنزل. استند على عكازيه بقوة، نظر إلى هدفه بعينين تملؤهما العزيمة و الإصرار، ثم تحرك وبدأ رحلته الأولى بعد الإصابة. أخبره الطبيب من فترة أن عليه المكوث لمدة دون حركة ثم يبدأ بمسافات قليلة لكي يعتاد على العكاز وحالة جسده الجديد. وأثناء حفره الأرض برأس العكاز المدببة خلال رحلة العشرة أمتار لم يكن يفكر إلا في ابتكار طريقة لمتابعة هوايته القديمة.

 **

 بدلاً من أن يحيل الصفحات البيضاء إلى جمل ذات معنى، وجد في نهاية محاولاته أن ما سطره ليس سوى ذكريات عبثاً حاول لفترة الهروب منها، وشعر أن قلمه صار حربة انغرزت في صدره. واتته فكرة ربما تجنبه مزيد من الألم. فقصد دولابه مسرعاً و مد يده أسفل صف من ملابسه الداخلية وسحب كيسا بحجم يده تقريباً. فكه بحرص فاحصا محتوياته التي تراقصت أمام عينيه. ثم لف سيجارة على وضعها وشد نفسا عميقا بينما ينظر إلى ذكرياته المكتوبة مقررا إدراجها في قصته التي يعمل عليها الآن.

 **

مفعم بطاقة هائلة ينجز أعماله بصورة سريعة قبل إخوته، ثم يهرع إلى بيتهم بنفس السرعة، يخرج بندقيته ذات الفوهتين، يرمي الأظرف النارية في جيب جلبابه الواسع، ينطلق إلى أقصى نقطة حماره يستطيع أن يصلها، بعيداً عن البشر و الحياة، قريباً من الوحوش و الموت. ينتظر بصبر يحسد عليه، ظهور وحش ضاري من الأحراش، يتخذ الوضعية السليمة، بأناة يتمهل على هدفه حتى يتمكن منه، ” لا تتحرك، اكتم نفسك، ممنوع تبديد أي طلقة في الفراغ” ثم مكافئة لمهارته تحين اللحظة المنتظرة، يطلق النار، يبتهج عندما ترتمي الفريسة أرضاً أو تطير في الهواء. يترك ضحيته ملقاة على الأرض، في النهاية لا يبالي بغير صوت الطلقة النارية، لحظتها يشعر أنه امتلك العالم.

. **

_ تعال نلعب لعبة

 _ ها ؟

 _اعتبرني واحدة من بطلاتك، ماذا كنت ستفعل لي ؟

 _دعيني أفكر….أمممم كنت سأجعلك أقل عنادا

 _إذن ! احكيني في قصة، ياللا!

 _ كان يا ما كان في قديم الزمان،

 _ لحظة، توقف. هذه قصة خيالية، أريد قصة واقعية، عني الآن، وإياك و تلميحاتك الجنسية!

_طلبك ليس عندنا، وكيف أكتب عنكِ ولا أصف ذلك الجسد الخرافي

 ثم نزع البطانية التي تخفي عريها عنهما، ومد يده ليتناول تفاحتها الطرية. فأزاحتها بحزم وتابعت بجدية قائلة :

 _اتصرف

_طب، ماذا لو جعلتك ولداً؟

 _كيف !

_كل صفاتك ما عدا أنكِ ذكر

 _ لحظتها لن أكون أنا، سيتصرف البطل من نظرة ذكورية بحتة وليست أنثوية

 _هذه هي الخدعة، وحدك من ستدركين أن هذا الذكر بداخله أنثى جامحة، وتلك الأنثى ليست سواكِ

 _لا يعجبني هذا، غيره

_ أنتِ صعبة الليلة

 _لن تلمسني حتى تكتب قصة أنا بطلتها.

 صمتا لحظات فارتفع صوت جريان الماء في المواسير، ثم قام إلى مكتبه وانكب على بعض الورقات البيضاء متناولاً قلمه ومنهمكاً في الكتابة.

 **

 وسط ذهول وشك من عائلته المتحلقة حوله ناوله أخوه بندقيته القديمة بينما يجلس وبجواره عكازيه على جذع قديم أمام أرضهم الواسعة. بخفة قلبها بين يديه، استنشق خزنتها الفارغة، مسح بيمينه طبقة تراب تكسو ماسورتها السوداء. لقمها بطلقة واحدة، و أراح كعبها في كتفه، صوب بميل اتجاه السماء، لم يقوى على ضغط الزناد، عجز عن استعادة رغبته القديمة. استدار مبتسما للعيون التي تربصت به، وضعها بترو ثم أشار إلى بعض الحصى أسفل قدميه قائلاً “هذا يكفيني”

 **

لمعت عيناها جذلا بعد قراءة الورقات. قصيدته التي كتبها في الليل -وذلك هو اسمها أيضاً- لم تكن سوى محاولة لإرضاء كبريائها لأنه رغم كتاباته الكثيرة لم يختصها بشيء أبداً، لكنها داعبت مشاعرها – رغم سرعة كتابتها-  أفضل من مداعباته -على حد تعبيرها- و اختتمت قائلة ” أنت حقيقي أكثر على الورق”

**

كان يهوى الجلوس على حجر جدته، عاشقاً لحواديتها التي لا تنتهي. تقص عليه نبأ الأجداد والأعمام. بطولاتهم، في الحروب و الثورات. نضالهم ضد الإنجليز منذ أيام العدوان الأولى، مع عرابي. تحدثه بفخر عن الموتى، سواء الأجداد الذين قتلوا في معركة التل الكبير أو الأعمام في ثورة 19. وتنهي حكايتها دائماً بجملة ثابتة، ترددها أكثر من مرة حتى يحفظها: “في عائلتنا، إما يموت الرجال في الحروب شبان، أو يعمرون طويلاً فينساهم الجميع. لعنة أصابتنا منذ أيام الباشا الكبير” لكنها لم تحكِ له يوما عن هؤلاء الملعونين -الذين أرادوا بغرور وحماقة أن يكسروا تلك اللعنة- فنالوا جزءاً من هذا على جزء من ذلك.

فكر في هذا وهو ينظر إلى قدميه المبتورتين.

**

أحس بألم أعلى رأسه اعتاد عليه كلما نبش في ذكرياته القديمة. فارتدى معطفه وهم للخروج لأقرب صيدلية، وبينما يحكم رباط حذائه نظر إلى صورة قديمة لعائلته. تذكر كيف عانى أباه ليثبتها على الحائط. تعلقت نظراته لفترة بأفرادها، أجداده و أعمامه، يظهر أباه طفل بالكاد يستطيع المشي. استفسر عن كل الوجوه التي حار فيهم، ثم انتهى بسؤاله عن ذلك الوجه العبوس، الذي لا يظهر سوى نصف جسده بالصورة، فأخبره أنه أحد الأجداد الذين حاربوا في فلسطين، ثم أصيب بطلقات أجبرت الأطباء أن يبتروا قدميه.

 _كيف يكون ذلك الشعور يا أبي

 تلعثم الأب و تجاهل سؤاله.

 **

 يستبد به الحزن كلما جاء الصباح وتجهز إخوته  للحقل ساحبين مواشيهم خلفهم كل يوم بينما هو أقصى ما يمكنه فعله مراقبة البيت حتى يعودوا. و يؤلمه أكثر  أنه الآن  – كبيرهم الذي احتموا فيه دهراً-  لم يعد قادر على الحركة. تعذبه نظراتهم المشفقة، و التودد الزائف، أراد أن يتخلص من ذلك الشعور الحارق، فرمى بعزم حصاة وحيدة كانت كل ما لديه بعد تبديد الكثير منها، مغلقا عينيه أمام دفق من الصور و الأفكار التي كدرته غير مبالي أي مدى وصلت حصاته.

 **

تجول في الشوارع متمنياً أن تظهر صيدلية فيشتري برشام يزيل صداعه الأليم. وقبل أن يخرج للشارع الرئيسي أحس أن شيئاً ارتطم بظهره، فالتفت خلفه، عندها، مرق موتوسيكل سباقات يرعد الشارع وبالكاد حاذاه دون أن يصيبه. توقف للحظات يفكر في غرابة الليلة بأكملها. وتوقع أن سيجارة الحشيش كانت أشد مما ينبغي، ثم تابع بحثه عن صيدلية ما.

 ( احتاجت الحصاة ستين عاماً لتنقذ الشاب من لعنة الأجداد و لكنها قررت منذ البداية أن لا تخطئ أبداً )

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون