الحداثة الشعرية.. قطع الطريق أمام تذوق الماضي

برغسون
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قيس مجيد المولى

يُقَسِم برغسون الزمن إلى قسمين وهما الزمن المكاني وهو قطعا الزمن الذي نعيشه نحن ويكون جزءا من أفعالنا التي ترتبط بشتى الأمور الحياتية ومتطلبات حاجة الإنسان ضمن حركته اليوميه أمام وجوده الظاهر، والآخر ما أسماه زمن الذات الشاعرة وهو كما نعتقد مستويات التدفق في الأحاسيس والمشاعر والتي تشكل قدرات الذات للنفاذ للأشياء المجهولة والتوقع بمستكشف الغد أي الرؤيا المبصرة للتحولات التي تصاحب الإفرازات النفسية ونتائج هذه الإفرازات، وبالتالي فإن الزمن في المفهوم الأول يشير إلى التعامل والوجود الخارجي وفي المفهوم الآخر يشير إلى التعامل مع المفهوم الباطني أي بالبعد الإدراكي لما ترتبه المشاعر من غير المألوف فالأفكار البرغسونية كانت أحد الأسس التي اعتمدها التصويريون ضمن مفاهيم أخرى في التعامل مع المفردات البنائية للنص الشعري وقد شاعت التصويرية في أمريكا وبريطانيا وكان من أهم روادها عزرا باوند، أليوت ومنظرها هيوم.

 الإنتقال الى التجريب الشعري :

كَثف التصويريون تنظيراتهم في مجال اللغة والصورة الشعرية وكذلك موقفهم من الشعر التقليدي والشعر الحر فهم يعتقدون وفي مجال اللغة أنه لاضير من إستخدام اللغة الشائعة والتي كانوا يعنون باللغة المحكية ولكنهم في نفس الوقت لم يتركوا هذا المفهوم سائبا بل يربطونه بضرورة الإستخدام الدقيق لهذه اللغة خشيتهم في ذلك أن لاتتداخل أو تسطو اللغة المقارنة أو البديعية على هذا الأستخدام اللغوي وبالتالي يؤدي ذلك إلى خلق أشكاليات عديدة أثناء عملية الخلق وبالتأكيد فأن مفهوم اللغة لدى التصويريين يكاد يصل بعض الشئ لمفهوم فلاسفة الوضعية المنطقية الذين يرون أن اللغة تؤدي وظيفتين وهما تقرير الوقائع وأثارة الأنفعال وهذا يشبه إلى حد ما رأي التصويريين بأن اللغة تتعامل مكانيا وباطنيا مع الموجودات،

وقد التزم التصويريون بمفهوم الشعر الحر بأعتقادهم بأنه الأنسب والملائم لأثارة القوى النفسية والوصول إلى الجمال وهاجموا الشعر التقليدي وأعتبروه لايقدم القدر الكافي من الصوتية المطلوبة ونغماته غير قابلة للتجديد لذلك حذروا الشعراء الجدد حينها من أحلال النغمات القديمة في الألسنية الموسيقية للشعر الحروقد أنعكست أراءهم تلك على مفاهيم أخرى ومهمة حول وظيفة الأدب وأستخداماته ودعوا إلى التركيز والوضوح من خلال البينية مابين المحدود واللامحدود ولاشك أن هذا يدعو إلى التسأؤل عن مدى ألتصاقهم بالفيزيقية ومديات تفريقهم مابين اللغة المباشرة والتي تعمل كما أسموها بالصور ومابين لغة النثر التي دعوا إليها وأعتبروها المحرك والإلهام وربما بأراءهم هذه أرادوا الإبتعاد عن الكثير من المفاهيم النقدية ومنها المفهوم المضموني أو ما رأته الوضعية المنطقية في فك أرتباط الأدب بالمعرفة أو المفاهيم التي دأب عليها النقاد الشكليون،لكنهم كانوا أي التصويريون كانوا أمتداد للرمزية وذهبوا بأنفسهم لأحياء كلاسيكيتهم الجديدة  حين أتسعوا بمفهوم التجريب الشعري وفتحوا نافذة الأساطير القديمة،                    

وقدعمل الشعر تارة في مجال التعارض الظاهري وأعتبروه أحد معايير الشعر أستنادا إلى ماتؤدي العبارات فيه من التناقض الذي يؤدي مظهرا فكريا وهو بذلك قد قننت فيه المستويات الشعورية ولكن هذا التناقض يتحرك في مجالات التضخيم تارة وتارة في مجالات الدقة وفي المجالات التي تسمح لتسيير جزء من دفق الباطن ضمن الجزء الأكبر من الإكتناز الفكري الذي يتعاطف بقدر ما مع اللاشعور،

التعقيد دلالة قوام النص :

  لعلَ البعض من أراءِ وردزورث تقوم على إعتبار أن التعقيد قوام النص وهذه الأفكار تنسجم كذلك مع أراء كولردج بهذا الشأن كما عمل الشعر تارة أخرى على مايسمى بمقولات العقل ولاشك أن (كانت) صاحب الفلسفة المثالية التي تناولت الكم والكيف والزمانية والجهوية وتعاملت مع الصورة الشعرية على أساس التنوع في الدلالات والقدرات المتوفرة في بناها التحتية ولذلك فأن الصورة الشعرية تتفاقم بتفاقم التوتر فتتكون لدى الشاعر صيغه القيمية والتي بموجبها يستطيع الحكم على الغرض من أستخدام تلك الصورة من عدمها  فيجد أن ذلك التحديد يقع ضمن التفسير الذي يكون خارج مخيلة الشاعر وبه يحتكم إلى ظاهر النص وبناءه وقد تكون الإشارات تلك بمثابة العملية التصحيحية ضمن الحذف والأستبدال والذي لايخل بالشكل العام لبنية النص ووحدته العضوية سواء بالجزئية أو الكلية اللتان تتبادلان أدوارهما في محتوياتهما التي تنفصل تارة وتتصل تارة أخرى بعضها مع البعض لأشباع مناطق معينة لرفع كفاءة علاقاتها الأنتاجية ليتم البناء في الخيال على قدر من الوهمية والأنفلات، فكولردج يرى أن الصورة  بذاتها لاتدل رغم جماليتها على خصائص الشاعر حتى لو نقلت نقلا أمينا أنها لن تكون بتلك العبقرية مالم تكن مالم تكن محكومة بأنفعال عال أو أفكار منفصلة أو صورا أنتجها ذلك الإنفعال،

وبين هذه الحدود وتلك يرى تارة ثالثة مايعنية الرمزيون بالقوى التي تجتاز عالم الواقع ويتصلون بالسحر والغرائبية من خلال رموز الأشياء البديلة فهم يتراسلون بالحواس ويضربون على جذور الأعماق في أقل وعي ممكن كونهم يجدون أن حواسهم تنشطر لأنتقاء المُعَبر الرمزي إن كان تراسلهم قد تم ضمن التراسل الرأسي أو التراسل الأفقي فكلاهما يصلان مستويات اللذة المطلوب بلوغها في الأفق الذي يقصدونه،

مُحركات المُخيّلة :

أن الأشتغالات التي بنى عليها الشعراء واجهاتهم الأنتاجية هي تلك نفس المشاغل الكونية التي أبتلاها الأنسان مذ وجوده على الأرض وكانت الظواهر وعللها والإستدلال عليها هما أقطاب المحركات التي حركت المخيلة إلى بعدها الأخر ضمن مناشئ الإتجاهات والتيارات الفلسفية والتحولات في الأدب والفن والإتجاهات الجديدة في ألسنة اللغة ونظريات دي سوسير عنها ولحظة كشفه الشهير عن أنظمتها ضمن مفاهيمها الثلاث ومسمى المدلول وكذلك مفاهيم نظرية المعرفة  وقضايا الجدلية في الفلسفة الماركسية وفلسفة هيجل في الروح المطلق والوعي والتاريخ وأغناءات الفلسفة الوجودية وفلسفة التحليل النفسي وما أفرزت بعد ذلك دراسة الأساطير والمكتشفات الأثرية والتطور الذي حفلت بها ميادين العلوم كافة،

 كل تلك التطورات سأهمت بأن يزيد الشعر من غموضه مادام الكون يزيد من وضوحه،

قطع الطريق أمام تذوق الماضي :

لم يكن الشعر في أوربا قد عُتق بعد من المخيلة الرومانتيكية لكن الحداثة الشعرية والبحث عن موصلاتها كانت هاجسا في هذه القارة وقد رافق ذلك الهاجس الحياة الجديدة حين وقعت أو بالأحرى تفتحت على نشوء وأنتشار الصناعة والتجارة التي أخذت الأنسان إلى بعدها المادي وتلاعبت بمكوناته وأفكاره وطرائق فهمه للحياة وكان هذا النشوء المادي الجديد من الأسباب الرئيسة التي جعلت الملهمين من الشعراء يفكرون في الكيفية التي يصطف بها الشعر شامخا أمام هذا الأنقلاب الكلي في حياة الأنسان لاشك أن رامبو وفرلين ومالارمية وفاليري وأليوت عملا برؤية تكاد تكون موحدة لأختراق الماضي والعودة ببناء جديد أكثر وضوحا وأعنف صرامة في مواجهة القيود ووضع أسس جديدة في مسمى جديد للعصر الذي بدأ مع التوق للألة وسماع صفير القطارات والبواخر والمعامل والأسلاك الكهربائية وعمليات النقل والشحن والتفريغ ناهيك عن أستغلال الطبقة العاملة من كلا الجنسين والسيطرة الأستعمارية على مناطق الخام خارج أوربا والعمل على أيجاد أسواق في بلدان العالم لتسويق المنتج،ولم يجد معظم الشعراء أمامهم غير الولوج إلى عالمهم الجديد عالم الغموض والبحث عن الجمال فيه وقد عبر الكثيرون بأراءهم حول التضادية التي خلقها التحول المدني الجديد ولجوء الشعراء إلى السّرية في  نصوصهم، يقول سترانفسكي :أن في تعذر الفهم نوعا من المجد،

ويرى جو تفريد بن :إن الشعر هو الأرتفاع بالأمور الحاسمة إلى لغة المستحيل على الفهم، وهذا يعني بأنه اذا كان التحول المدني أنذاك تحولا غريبا وشموليا وجديدا لايستطع المجتمع هضمه من الوهلة الأولى فأن الشعر قد أتجه بالطريق ذاته نحو الأشياء التي تزخر بالرموز والمفارقات والغرائبية فقد عمل الشعراء على قطع الطريق أمام تذوق الماضي ولكنهم ولجوا بُعَده الأخر والذي لم تعيد أستنطاقه الذائقة بمكوناتها الجديدة،

سرى ذلك الفهم القارة الأوربية بأسرها بعد أن قُرأ بودلير بجدية ماأنتج وأصاب شعره مكامن التحول الجديد فكان رائدا للعصر الحديث الذي أقترن بأسمه فشاع في الشعر (الجذاب-المُحير )

الذي تخلى عن البعد الواحد في الأستطيق وفي التجارب الدينية والصوفية وهذا التخلي في وقته أرادة طبيعية أن تُضاد تيارات الواقعية الأدبية وتوضع المصفأة تحت اللغة لغربلتها من شوائبها ثم أعادة السحر لها والتفنن في أستخدامها على أساس ماتحتويه من غير المكتشف وأن كان في العبارات المظلمة والمُلغزة والمخيفة،

إن الهروب من الأرض نحو السّماء ليس هروبا من أجل أقامة قداسات لترضية القوى المسيطرة على آلية الأنسان بما في ذلك مصيرة بل بكشف شواغل الزمكانية لمافوق الطبيعة بحماس البحث عن الجمال المثالي،

البنية المعمارية الجديدة :

 بدأت تتكون عناصر جديدة في البناء الشعري بعد أن تم تحطيم الواقع وكلما أزداد هذا التحطيم أيغالا إزداد بناء الخيال الشامل تعقيدا وتركيبا وهو المسعى الذي سعى إليه بودلير ورامبو ومالارمية وأضافوا إليه ذلك النظام الداخلي في بنيتهم المعمارية من الأضداد والمتناقضات والتي وكأنها حين تعمل تعمل بحيادية تامة وقد يكون ذلك شكلا من أشكال الإسراف في تحطيم الواقع بل شكلا من أشكال مخادعة المطلق نفسه بالشكل الذي تقتضية السرية والعدول عن العالم المرئي إلى التجارب الحرة الطليقة التي تضع لكل شئ نكهته فهناك نكهة في الدخان في الرماد في العتمة في الموت نكهة في انقضاض القدر على مايريد وقد شكلوا بذلك ظواهر جمالية وحتى من تلك الأشياء التي تقع في الوهم وفي الباطل، لقد بلغ أنسان العصر الحديث ذروة قلقه وهو يلج الطبيعة من أجل أستغلالها وأكتشافها وبالتالي أعاد النظرة في الطريقة التي يريد أن يكتشف بها نفسه وبالتالي ونتيجة لهذا القلق فأن عالمه الباطني تسيد عالمه الظاهري وأشتغلت العديد من محركاته الخفية ولابد بالضرورة أن يرافق هذا التحول تحولا في مجالات الفنون الأدبية كافه والشعر في المقدمة منها فذهب الشعراء إلى اللاشعور والى الرمز والى التمكن من تغيير الحقائق الأزلية والتي لم تعد ذات جدوى.

مقالات من نفس القسم