الحب ..

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أميرة طاهر 

يتحدثونَ عن الحب، يسألونَ شخصي المتواضع “كم مرة  أحببت؟” فينقبضُ قلبي. كثيرون يرون أنّ ممارسة الجنس مع غرباء كثيرين تفسدُ القلب وتنتهك المرء. هم مخطئون. تبادل الأجساد بإفراط يزيد الوعي بالذات، يجعل الفرد أعمق فهمًا لجسده ولأجساد الآخرين. مجردُ خوض تجارب محايدة في ذاتها تخلو من الشخصنة، تفتحُ آفاق الفهم والمعرفة والإدراك والحدس في مساحاتٍ هائلة الاتساع في الحياة، ليست قاصرة على الجسد وحده، ويزداد البشر تحضرًا حين يصبحُ الجنس جزءا صغيرًا من الصداقة، لا يشغل من فكرهم وعلاقاتهم الاجتماعية إلا مساحة ضيقة. الدوغما المتداولة سينمائيا وأدبيا تروّج بغلظة أنّ كثرة ممارسة الجنس مع شركاء عديدين تميت القلب، تجعل “الروح” قاسية والعاطفة بليدة، تُحول الممارسة لفعل ميكانيكيّ بحت ليس ثمة فن أو بهجة فيه. كلا، هذا غير صحيح. الإبداع والفن في الجنس يزدادان تألقا بصحبة الغرباء، فالقلق مع الغرباء العابرين يخف، وتصفو النفس، ولا تصبح ثمة حاجة إلى التكلف أو الافتعال، ولا هلع من تشوه صورة ذهنية مثالية ما في أعين الشركاء، حالة من التجريدية ، يسقط منها “الشكل” لصالح “الحسّ”. البشر، بعكس الدوغما السائدة لا ينتهكون ذواتهم بالجنس نهائيا، ليس في الإفراط في الممارسة وتعدد الشركاء وتتابعهم مشكلة، ليس ثمة انكسار للفرد بالجنس، بل بالحب. الحب وحده هو ما يدفع الفرد لأن ينتهك ذاته طواعية من أجل شخص آخر، لواحد من هؤلاء الغرباء، آخرٌ، يستعبد كيانه؛ ويجعل اختياراته الأصلية في الحياة محل تساؤل وارتياب وشك ومراجعة وتعديل. الحب يجعل المرء يعدل من أعمق تفاصيل شخصيته من تلقاء نفسه عن اقتناع، يغيّر بيديه من صلصال تكوينه ليظفر برضاء شخص غريب. ليس ثمة جروح تعقب الفشل مع الجسد الخالص، فنمط الحياة الصحي و الغذاء السليم وممارسة الرياضة وحتى الدواء كلها آليات مادية متاحة سهلة تتكفل بعلاج أي نقص يعتور الجسد، بكل ممارساته المادية من طعام وشراب وجنس ونوم وتريض، خدش الجلد يلتئم سريعًا، قدرة الأنسجة على الالتحام وإعادة بناء الخلايا مدهشة، وقدرة الجسد على نسيان تجارب الفراش الفاشلة وتجاوزها كبيرة. لكن في الحب، لا التئامَ لخدش.

جُرح النفس غليظ، جروح الحب شقوقٌ طوليةٌ جبارة تفلقُ النفس، هزيمة النفوس خطيرةٌ حقاً وأصحاب النفوس المهزومة بشرٌ منتهكين منتهين من الأعماق. ليس ثمة عذاب يعتور أصحاب الأجساد السخية، الأجساد لا تفلس ولا “تستهلك” حال تبادلها ومنحها بسخاء، بل يحدث العكس بالضبط: تزدادُ ثراءً وغنى، ويزداد أصحابها صحة ولمعانًا. من يهبون أجسادهم عن طيب خاطر ببساطة لإسعاد وإعادة اكتشاف ذواتهم بصحبة كل جسد جديد، يعيشون متخمين بالمتعة، فكل إحساس جديد يضيف لتجربة الفرد ثراءً، ويحيل الرحلة لنهر متعدد المنابع: دافق؛ نقيّ؛ متجدد.

أما الحب؛ ذلك الشعور الخفاق الوهاج بالتدفق و الانهمار حصريًا نحو شخص بعينه، الحرقة والألم والفرح والدمع جميعها في لحظة واحدة تنقض عليك بشراسة؛ المشاعر المنتفضة الوثابة ترجّ الصدر بوثبة مفاجئة هائلة، خفقةُ القلبِ الكبيرة، الشعور المضيء العنيف بالغ الرقة و القسوة معًا، العاطفة الموجعة شديدة العمق والإيلام، أعراض اللهف والاشتياق والالتياع والتفكر والترقب والتجمل والتمثل والأحلام الكبرى والخيال المحلق والتخطيط بعيد المدى. فياله من انتهاك، أيُّ استهلاك! الحبُّ استيلاءٌ على أرض؛ احتلالٌ و نهبٌ وسلبٌ وغزو؛ ضاربٌ في الصميم. هو ذلك العذاب المقيم اللذيذ المروع عديم المعنى في ذاته، الرغبة المجانية العارمة في العطف والعناية والاحتواء والحدب على شخص ما، معذبك، من هشم جماله كل معايير الجمال لصالح كيانه العزيز الإلهي، ليس كمثله شيء؛ معبودك الأثير. عندما تحب؛ أنت دمية مريونيت تتحرك خيوطها بأمر المعبود؛ ومنتهى المرض حين تمنح جسدك بالحب لمن تحب، ليس ثمة راحة في ذلك إطلاقا؛ فأنت حينها لا تقتسمُ العذابَ مناصفةً بين الفكرة والمادة، بين عقلك المُصادَر لصالح شخص مغترب عنك وجسدك المبذول لصالح ذات الشخص، فلا فكرك ارتاح ولا جسدك اكتفى، بل مزيد من الولع والاشتعال وسيظل فاك أضْيَق من القضمة وجوعك أشرس من قدرة حلقك على الابتلاع تصبُّ الزيتَ على النار صبًا تضاعفُ عذابك بالوصل، فأنت هنا لا تقاسي النصف بل في الحقيقة تقاسي الضعف.

الحب؟ أنا لا أعرفُ الحب، لا أعرف ذلك الشعور الرائع العذب السعيد الغامر المتبادل بين اثنين، لا أعرف غير أني وقعتُ مرّة في شركٍ بمفردي، صدقتُ كلامًا قيل لي، كنت يومًا من هؤلاء البشر المثاليين، الذين لا يستسلمون إلا للحب. هويت فهويت، تدلهت فبذلت واسترضيت. تعلقت، من عنقي، فكان الشنق. منحتُ قطعاً ثمينة من كينونتي لغيري، امتلك فزهد فضجر فركل، كانت المكافأة لطمة هائلة، داس بثقله، بثقة واقتدار، حفر ودفن وردم، أهال التراب، ثم مضى باترًا، بعزم من تخلص حقًا من جثة. كم أتمنى أن يأتي الحب مجددا، فأسأله وأحاسبه لم أتيت وفيم مضيت ولم عذبت ولم أوهمت . أنا لا أعرف الحب، عن يقين لا أعرف، غير أنّ بعضًا من ذلك الشعور المروع الذي يتحدثون عنه توهج داخلي مرة فاشتعل وانطفأ سريعًا خلّاني أنشف من حطب محروق

مقالات من نفس القسم