الثقافة المصرية .. ظواهر و دلالات

الثقافة المصرية .. ظواهر و دلالات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يُعرف مالك بن نبي الثقافة في كتابه ( مشكلة الثقافة ) بأنها ( مجموعة الصفات الخلقية و القيم الاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته ، و تصبح لا شعورياً العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه ) (1)

و يُعد هذا منطلقاً نبني عليه النظرة الجامعة للثقافة المصرية التي تحاول هذه الورقة التأسيس لها ، حيث تعتبر هذه الورقة أن الثقافة هي أسلوب حياة شعب و طريقة تعبيره عن نفسه ، و أنها مجموعة القيم التي تحدد اختيارته و تميزه عن الشعوب الأخرى ، و في هذا السياق لا تُعد الآداب و الفنون و علوم الكلام و الفلسفة و غيرها من العلوم المنصرفة لشأن الإنسان فقط هي الثقافة بل أيضاً كل ما يتواصل مع الإنسان في حياته اليومية ، فالملابس المعبرة عن بيئتها ثقافة ، و أسلوب إعداد الطعام الذي يحكم قيم التذوق الغذائي لدى شعب من الشعوب ثقافة ، و الطرفة المتداولة و المؤثرة في صنع دلالة راسخة في الوجدان ثقافة  ، و الايماءة بطريقة معينة لدى شعب من الشعوب و صارت علامة ذات معنى جمعي ثقافة .

فالإنسان داخل المجتمع لا يقنع فقط بمجرد الحياة في علاقات ، بل إنه ينتج هذه العلاقات كي يعيش (2) ، و من توالد هذه العلاقات و نموها تُصنع الثقافة ، فنحن مثقفون من خلال تدربنا على عادات و علاقات و سلوك و طرق تفاعل إنساني و تفاعل مع الطبيعة و تعلم الأفكار و الفنون و العكس صحيح ، فكل طرق التفاعل هذه تمتد لتغذي الثقافة داخل الفرد و تحدد مفهومها لدى المجتمع .

إذاً فالثقافة التي نقصدها هنا هي ثقافة تبادلية ، يهديها الفرد للمجتمع ، ثم يُعيد المجتمع صياغتها في شكل مقبول اجتماعياً و يهديها للفرد لتحدد نسق اختياراته .

الثقافة الفطرية

إذا أردنا التحدث عن الثقافة المصرية تحديداً ، فإننا نجدها عبر آلاف السنين قد ترسخت في المجتمع ، و أصبحت ثقافة حاوية للخريطة الوجدانية للشعب المصري ، و الإنسان المصري لا يفتعلها بل يجدها مغروسة فيه انغراس الفطرة ، إن ثقافتنا الأم بعد فترة طويلة من الرسوخ في المجتمع ، تُصبح بالنسبة لأدمغتنا و نفوسنا فطرية بقدر العديد من الغرائز التي ولدنا بها (3) ، و تظل قابعة في منطقة الفطرة اللامرئية و المهيمنة على تحديد اختيارت الفرد ، رغم أن الفعل الثقافي نفسه مكتسب ، و لكن طبيعة الإنسان المصري أعطتنا كشعب هذه الخصوصية ، و إذا أردنا ضرب أمثلة فسنجد مثلاً أن المرأة المسيحية المُسنة في حي شبرا حيث عشت طفولتي ، تقوم بتغطية شعرها و ليس هذا من قبيل الالتزام الديني الذي لا يُطالبها بذلك ، بل من قبيل الالتزام بالموروث الثقافي القيمي للجماعة التي تنتمي إليها هذه السيدة ، و هي الطبقة الشعبية المصرية .

و لنأخذ مثال آخر فالأم المصرية المسلمة حينما تريد توجيه ابنتها أو ابنها تختار كلمة ” عيب ” من بين بدائل كثيرة أكثر حدة في التوجيه و النهي مثل “الحرام” ، “الكبائر” ، “النار” و كلها كلمات تحيل إلى مدلول ديني صارم و الإيمان به داخل النفوس المصرية متغلغل ، و لكن يبدو أن الإيمان بالمورث الثقافي القيمي داخل الجماعة أشد تغلغلاً و التي تعبر عنه كلمة “عيب” ، إن إتيان العيب يكون من نتائجه النفي خارج المجموعة الشعبية أو تشويه الصورة الذهنية لمرتكب العيب ، أو غيرها من العقوبات التي لا تقارن بالعقوبات في الأديان ، و مع هذا فقد تحول العيب إلى ثقافة فطرية في حياة الإنسان المصري تحكم سلوكه و تهيمن عليه .

ثقافة التنمية

هل تختلف الثقافة من مجتمع نامي اقتصادياً إلى مجتمع آخر لديه رفاهة أقتصادية ، في الحقيقة إن الثقافة في حد ذاتها كنظام يحوي كل الظواهر السيموطيقية (4) التي انتخبها هذا الشعب أو ذاك و ارتضاها معبرة عنه لا تختلف ، و إنما تختلف آليات الفعل الثقافي المتشبك مع المجتمع ، و المنوط به في مجتمعنا المصري / النامي المؤسسة الثقافية ، و على المؤسسة الثقافية أن تعي هذه الحقيقة و تحاول التعديل من آليات تقديمها للفعل الثقافي للجمهور المستهدف من مستحقي الدعم الثقافي ، يقول الدستور المصري الحالي الصادر في 2013 في الفصل الثالث المعنون بـ ( المقومات الثقافية ) ، في المادة رقم 48 : الثقافة حق لكل مواطن ، تكفله الدولة و تلتزم بدعمه و بإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها ، لمختلف فئات الشعب (5)

و لعل المُشرع قصد بالمواد الثقافية تلك الأدوات و الآليات المحققة للفعل الثقافي ، و التي تجعل منه فعلاً مُحرضاً على التفكير و التساؤل و الحرية ، و يمكن القول إن من آليات الثقافة الأساسية تحويل الأحداث الجامدة المسطحة أحياناً إلى ظواهر ذات دلالة تفتح الباب أمام جمهور متلقي الثقافة بالحوار و البحث عن استيلاد معاني مختلفة ، يقول الناقد أيمن بكر في كتابه ( مقدمات الثورة المصرية ) :

نحن لم نخرج عن حدود القيمة الرمزية للحدث (6)

و ربما قصد بذلك أننا استغرقنا في البعد الرمزي للحدث ، و ما يتركه في النفس من مساحة للبوح و الشعور بالشكوى أو تعظيم الذات و كليهما ينفي المقصد من وراء الفعل الثقافي القائم كما أوضحنا على تشريح الحدث و البحث عن الأسباب و التأثير و الظاهرة ذات الدلالة التي خَلَّفَها .

إذاً على المؤسسة الثقافية أن تعي دورها الآن فلكي تدعم حق الموطن في الثقافة كما ألزمها به الدستور يجب عليها أن تتبنى أساليب عملية لهذه الثقافة ، و يمكنا في هذا السياق أن نقترح :

أولا – كسر حاجز ثقافة السكوت

إن الجماهير المصرية بكماء في تعاطيها للثقافة ، فالمنظومة الثقافية تفترض العلم المطلق لدى حامل الثقافة كما أسماه مالك بن نبي ، و لذلك تُسمى المناقشة الحوارية حول موضوع معين محاضرة ، يصول و يجول فيها حامل الثقافة بينما يخيم الصمت و السكوت على المتلقين ، إن هذه الجماهير ممنوعة من المشاركة الخلاقة في تحولات مجتمعها و لذا فهي ممنوعة من أن تحيا كيانها ، و لو استطاعت المؤسسة الثقافية فتح باب الحوار مع الجماهير المصرية لاستعادة مشاركتها الفعالة و الجدية في التحولات الاجتماعية و الثقافية و الحضارية الحاصلة الآن ، لنجحت في تطوير آليات الفعل الثقافي .

ثانياً – ثقافة المتن لا التهميش

إن النظرة التي ينظرها المثقفون المصريون للمهمشين بها كثير من العوار ، فالتهميش من وجهة نظري اختيار ، فالمُهمش بالضرورة اختار أن يتحرك من المركز إلى الهامش ، و الهامش ليس المنفى البعيد عن الأحداث بل هو المحيط الذي يُحَوّط الواقع الثقافي و الاقتصادي و الاجتماعي ، و هذه الحركة تحتاج إلى قوة و إرادة ، الهامش إذاً يصنع دائرته الجديدة ليكون هو المتن فيها . و قد نجح الشعب المصري نجاحاً ساحقاً- لم تَعِه المؤسسة الثقافية و مُثقفوها حتى الآن- في رسم دائرة جديدة حين قام بالثورة في 25 يناير ، فلماذا نُصِرُ على الحديث عن ثقافة المهمشين ، إننا بهذا نرتكب خطاً فادحاً في حق الثقافة المصرية و أيضاً في حق المُهمش الذي هو بالضرورة كائناً فاعلاً داخل بنية المجتمع .

ثالثاً – التعليم فعل ثقافي

التعليم ليس مسئولية وزارة التربية و التعليم وحدها ، فالتعليم من حيث هو فعل ثقافي قائم على تداول المعرفة التي تغذي العقول و تفتح المدارك و ترقي الحس الجمالي ، هو مسئولية مشتركة بين الكثير من مؤسسات الدولة و من بينها المؤسسة الثقافية ، و التي يمكنها تبني مشروع تعليم القراءة للفئات الأمية من المجتمع ، فلو لاحظت طفلا يتعلم القراءة و الكتابة ستجد أن القراءة أيسر في التعلم ، إن معرفة شكل الحرف و طريقة نطقه بالحركة المُشَكَلّة له ، يكفي لتعلم نطق الكلمة و فهم دلالتها ، أما الكتابة فهي مرحلة تلي القراءة و تلزم ترجمة الصوت المسموع إلى علامة مرئية دالة على الكلمة ، و تعد عملية تعليم القراءة كنوع من التأهيل الاجتماعي للفرد ، الذي سيكتسب ثقة في الذات تجعله قادرا على إخراج طاقاته المختزنة ، و يمكنا الارتقاء في سُلم القراءة من تعلم قراءة الكلمات حتى قراءة اللوحة التشكيلية و المتغيرات السياسية العالمية .

رابعاً – تغير الصورة الذهنية

السينما المصرية مسئولة مسئولية كبيرة عن الصورة الذهنية التي التصقت بالمثقف و المبدع ، فقد قدمت السينما المصرية صورتين متضادتين للمثقف ، أولهما قدمتها سينما الأربعينيات للمثقف المرتدي الروب دي شامبر و الجالس في هدوء مميت أمام فنجان القهوة و السيجار على مكتبه في فيلا أنيقة تقع في الغالب على أطراف المدينة بعيداً عن الجمهور ، و الثانية قدمها لنا يوسف معاطي في أفلامه فظهر المثقف أيديولوجياً بفجاجة يتحدث حديثاً غير مفهوم ، شعره أشعث و غريب الأطوار ، ساخراً من مجتمعه و بعيداً عن الجمهور .

الصورتان على النقيض من بعضهما و لكنهما يتفقان على أن المثقف بعيد عن جمهوره باختياره و تلك فرضية غير صحيحة ، تماما مثلما تبدو الصورتان ملفقتان ، و على المثقف في هذه المرحلة التي نريد للثقافة فيها أن تكون تفاعلية أن يعمل على تغير هذه الصورة المُشوّهة .

خامساً – التوعية ليست شريرة

و إنما هي السُلمة الأولى لاتخاذ ذريعة لكسر ثقافة السكوت و فتح باب للسؤال الأكبر ” كيف ؟ ” ، فالتوعية هي عملية يتحرك فيها الجمهور لا كمتلقين فقط بل كذوات فاعلة في الواقع الثقافي و الاجتماعي المُشَكل لحياتهم ، لا ننظر هنا للتوعية باعتبارها تلقيناً من جانب واحد ، بل فتح الأفاق أمام الجمهور الراغب في الثقافة لتنمية مدركاتهم حول الفعل الثقافي و شروط اللحظة تاريخياً و ثقافياً و اقتصادياً و سياسياً من خلال الممارسة الفعلية ، و على المؤسسة الثقافية أن تدرك أن التوعية بهذا المفهوم هي القاطرة التي ستقود إلى التنوير .

سادسا – الأسْلَمَة و الفَرْنَجَة

مع تنامي حركات الإسلام السياسي ، و ما قابلها من نمو لرفض الوصاية الدينية بالبحث عن صيغة بديلة لتبني أفكار تجرح الغلالة المهيبة للدين عند الشعب المصري  ، يقف الفرد غير قادر على الانحياز لأحد الخياريْن ، بل هو يرفضهما بشكل قطعي و يُخطىء المثقف الذي يريد أن يُعلن عن اختياره للحرية المطلقة اللازمة لدفع حركة المجتمع فيُستدرج إلى نزع الغلالة ، و حينها يتم تصنيفه بشكل حتمي من قبل متلقي الثقافة إلى جانب ( الفَرْنَجَة ) بينما يُستدرج المثقف الذي يُحاول التماس مع الدين لكسب تعاطف أكبر إلى جانب ( الأسْلَمَة ) ، و يظل المثقف متأرجحاً بين الجانبين المرفوضين من قبل جمهوره .

سابعاً – إعلام تقوده الثقافة

العلاقة ملتبسة بين الإعلام و الثقافة ، فقد ظل الإعلام المصري هو المغذي لقائمة النخبة الثقافية ، هو من ينتخبها و يقدمها للمجتمع باعتبارها المهيمنة على الحركة الثقافية و باعتبارها النموذج أو المثال لكل راغب في الثقافة ، و كم من أسماء لم يجرِ ذكرها في الإعلام على رغم من مساهماتها الثقافية و الإبداعية الحقيقية ، و الإعلام في هذا السياق يقود الثقافة و يقدم ربما نماذج لا ترقي للثقافة بأية حال ، و من المفترض أن تقوم الثقافة بقيادة الإعلام الذي لم يجد له من قائد حكيم فاندفع نحو التخبط في كل اتجاه .

العودة إلى الجذور

لا مستقبل بغير ماضٍ ، هكذا يُعلنها طه حسين صريحة ، في كتابه ( مستقبل الثقافة في مصر ) ، و يذهب في هذا الكتاب إلى البحث عن أصول و جذور الثقافة المصرية و يخلص بعد مقدمة يستعرض فيها التأثيرات المختلفة على الحضارة المصرية إلى أن العقل المصري قد تأثر بشعوب البحر الأبيض المتوسط التي تبادل معها المنافع منذ فجر التاريخ ، و بخاصة العقل اليوناني أبو الحضارة الغربية ، يقول طه حسين ( فإذا لم يكن من بد من أن نلتمس أسرة للعقل المصري نُقره فيها ، فهي أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم ” المتوسط ” و قد كان العقل المصري أكبر العقول التي نشأت في هذه الرقعة من الأرض سناً و أبلغها أثراً) (7)  

إذاً العقل المصري الذي كوّن الثقافة ذو جذور غربية كما يميل طه حسين في كتابه بينما لغة و دين ووجدان و جغرافية هذا العقل جذبوه نحو الشرق ، فإلى أي الثقافتين ننتمي ؟

و يذهب طه حسين إلى أن مستقبل الثقافة المصرية مرهون بتمثلها للثقافة الأوروبية ، و أن تسير ثقافتنا حذو أوروبا حتى يتم لها النضج ، و إذا كان هذا رأيا ذا شأن في عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضي ، فهل يصلح الآن ؟ بعد أن سلمت الحضارة الأوربية نفسها لأمريكا ( الرجل ذو الأيدي المتسخة ) حتى ينهي لها المشكلات بالطريقة التي تترفع أوروبا عنها ، فسقطت بين يديه ، حسب الثقافة الأوروبية الآن أن تنقذ نفسها ، أما نحن فلا نشتكي ماضٍ خسيس و لا حاضر يائس و إنما جمعنا بين الحسنات ، فهذا عقلنا قد كون إدراكه و فهمه و تجريده و منطقه على النحو الغربي الصارم الجلي ، و نمى وجداننا و ديننا و لغتنا على النحو الشرقي العطوف الثري  ، و كلاهما تضافرا لصنع ثقافة حقيقية غنية ترسخت في نفوس هذا الشعب  ، و لم يبق غير أن نؤمن – كمثقفين – بأنفسنا و قدرتنا و أن نفاخر بـ ( بدرية السيد ) ، التي طلعت فوق السطوح ( تنده على طيرها ) ، مثلما تباهي فرنسا بـ ( إديث بياف ) .   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- مالك بن نبي ، مشكلة الثقافة ، ص74 .

2- مايكل كاريذرس ، لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة؟ ، ت/ شوقي جلال ، سلسلة عالم

    المعرفة ، العدد : 229 ، ص58 .

3- نورمان دويدج ، الدماغ و كيف يطور بنيته و أداءه ، ت/ رفيف غدار ، الدار

    العربية للعلوم ناشرون ، ط1 ، 2009 ، ص284 .

4- سيزا قاسم ، القاريء و النص ، مكتبة الأسرة 2014 ، ص17 .

5- الدستور المصري 2013 ، ص18 .

6- أيمن بكر ، مقدمات الثورة المصرية ، دار صفصافة 2011 ، ص97 .

7- طه حسين ، مستقبل الثقافة في مصر ، دار المعارف ، ط2 ، ص22 .

       

مقالات من نفس القسم