التداخل بين الواقعية السحرية والفانتازيا في “أنا العالم”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. أماني فؤاد

 ما بين فعل الكتابة والحرية، مابين النعناع والياسمين ، مابين الإبداع والاقتدار، بين يوسف وريم والعالم من حولهما ينسج "هاني عبد المريد" عالما يتميز بفضاء روائي خاص يتوسل بالعوالم العجائبية، والواقعية السحرية، والفانتازيا، والتقاطات غيمية من الواقع لينشئ كيانا روائيا ممتزجا مميزا، يحمل بصمة إبداعه الخاص المغاير للكتابة العادية المتداولة؛ حيث يرصد الغريب والبيني، النادر استيعابه جليا بهذا العالم؛ لما يكتنفه من غموض وعلاقات خفية لا تلتقطها إلا طاقة فنية تبحث عن الاختلاف، وترتاد عوالم من التجريب الروائي، تسرد الحياة بمنطق البحث عن تجدد رؤيتنا لها، وإضافة رتوش سحرية في تناولنا لهذا الوجود.

أنا والعالم والكتابة:

الرواية حالة إنسانية مركبة، ترويها المشاهد مجتمعة حالة بعثرتها، بما تتضمنه من بعض المشاهد المربكة، والصفحات المدسوسة من الرقيب، وذلك اتساقا مع شخصية العمل “يوسف” الذي شعر بصدع جوهري لحظة وفاة عبد الجليل والده، ومع استفحال شعوره بالوحدة وانعزاله في هذا العالم، يلح طارق صديق والده أن يذهب للدكتور:” شاكر” الطبيب النفسي الذي يشخص حالته بالاضطراب العصبي، و يدعوه للكتابة.

واستجابة للدعوة ، الكتابة والشاعرية التي لا تعد هاجس يوسف الأساسي فقط بل هاجسا أرق عائلته كلها فيما قبل، حيث افتقاد العائلة لشاعر، كان أول ما خطه يوسف في الورقة البيضاء “أنا العالم”(1) الجملة التي اختارها الروائي لتكون عنوان النص، ولأنا العالم لأول وهلة دلالة على الوحدة العميقة التي يشعر بها وسط كل من هم حوله بعد وفاة عبد الجليل، يقول يوسف :” فراغ لا شيء سواي، العالم فراغ ممتد أمام عيني إلى مالا نهاية”(2). يستمر الطبيب النفسي يقنع يوسف بأن الكتابة هي ما سوف يقهر مخاوفه، إلى أن يعترف يوسف :” .. أنه عندما يسألني أحد لماذا تكتب سأجيب على الفور ، أنني أكتب كي أبدد مخاوفي وشعوري بالوحدة ، أكتب حتى لا ينتهي العالم”(3) .   

فعل الإبداع والكتابة محور أساسي في نص ” أنا العالم ” ومن أجله يتشكل هذا الكيان رؤية وتقنيات، صهر الخطاب الروائي بعناصره مجتمعه بداية من البناء اللغوي وتماسكه وتعبيره عن اختلاف تكوين النص الحكائي ، وطريقة بناء الشخوص بالخطاب وأبعادهم الحقيقية أو الورقية المتخيلة، و قصد فلسفة الحكي على هذا السياق ، وفضاء العمل مكانيا وزمانيا ، فمنذ بداية النص يساءل البطل نفسه والعالم: ” أتعجب أشد العجب من هؤلاء الكتاب والمفكرين عندما يواجهون سؤالا يتعلق بوجودهم مثل : لماذا تكتب ؟”(4) وبعيدا عن الإجابات المعلبة سابقة التجهيز من قبيل: أكتب لأني لا أستطيع عمل شيء آخر، أو لإخماد طاقة الكذب بداخلي تبدو الكتابة لدي البطل فعل وجود، طاقة تتعلق بحياته ذاتها، تجعله يقاوم الوحدة ، ويخلق نماذج بشرية مختلفة ، ويتخيل عوالم غير تقليدية فينشر التجدد الذي ينعش الحياة ويجعلها تحتمل ، يخلخل التكلس، ويرمي بشرره لحرق الجمود والاعتياد.

يقرن يوسف فعل الكتابة بنبات النعناع وعطره وما يبعثه من انتعاش يتجدد، حتى أنه يعد فعل التجدد هذا ملازما لكيانه روحا و جسدا لدرجة أن النعناع ينبت فوق جسده وصدره، فالإبداع الحقيقي هو ما يبعث الانتعاش الذي يحارب الخمول والكآبة والموت. وكما يعد النعناع “رمزا للكتابة وشعريتها” يشكل وسيلته للحياة بالعالم، لا يبيعه لكن يعيش بكسرة خبز وكوب من النعناع على حد الكفاف، ويقايضه بكافة احتياجاته الأخرى، كما ينبغي لكل مبدع ومثقف لا يتكسب بوجوده، كما أن النعناع بلونه الأخضر رمز للخصوبة والتجدد أي الكتابة والنظر بعمق لهذا العالم.

كما يقترن الياسمين بريم حبيبته، رائحة الحب والانجذاب، الجسد الوافر الجميل، رائحة العشق والقوة والنظر إلى العالم في صوره الجوهرية لا أعراضه، ريم التى تتغافل عن كل ما يبدر من يوسف وينم عن اضطراباته وهواجسه، ريم التي تسعد السعادة.

ويشتبك فعل الكتابة في محاور النص جميعها بفعل الحب، والرغبة في الحياة والمعرفة، فسؤال الكتابة يستدعى بذات يوسف مباشرة سؤال الحب، وكأن الكتابة والحب كيان ووجود متداخل بإدراكه. مباشرة بعد لماذا تكتب؟ يتساءل يوسف:” لماذا أحبك هكذا ريم ؟” ، الأكثر أهمية وهو ما يدلل على هذا الاقتران الحميم بين الكتابة والحب أن التجليات والاحتمالات المختلفة للإجابتين عن سؤالي لماذا تكتب ؟ ولماذا أحبك هكذا ريم؟ تستمر مع كل فصول السردية بتنويعاتها الشكلية .

اقترنت الكتابة وتحققها لدى يوسف وريم بفعل الحب، باتحاد الجسد مع الروح أو الوجدان، بفعل العشق والوجود والتواصل، فعندما نشرت قصة يوسف لأول مرة عبّر الروائي عن سعادة يوسف وريم بمشهد من أجمل مشاهد النص، يقول بعد أن قرءاها سويا وبعد أن تجردا من ملابسهما:” .. أكتب تحت قفاها “تقربا للصحراء”، ثم توجهت للكتف الأيمن لأنقش من الجريدة القصة كلها، ظللت لما يقرب من ساعة محنيا فوق جسدها ، وكأني أقوم بفعل مقدس، لا أعرف لماذا بدت هكذا في غاية الإثارة ، وقفت في نهاية الحجرة نظرت لجسدها عن بعد، الحروف السوداء بدت مجسمة عليها، وكأنها أحرف بارزة، على جسد مضيئ، عند أعلى كاحلها الأيسر وقعت باسمي..، سارت أمامي ، شعرت أن جسدها يبدو هكذا طبيعيا، يبدو أكثر إقناعا،شعرت بأنه صار أكثر اكتمالا بنقش حروفي عليها، كانت تسير عارية، وكان جسدها يرتج، فأشعر وكأن شخصيات القصة تتقافز فوق جلدها مبتهجة”(5).

للجسد مفهوم متسع لدى ريم حيث تقول إنه عنوان الروح، ولا تأبه بما قاله يوسف لها ذات مرة:”.. قلت لها إنني لا يمكن أن أحبها ، وأنها بالنسبة لي مجرد جسد، فقط جسد يعجبني ، ويجعلني أذوب في تفاصيله، وجدتها تنهل من شفتي هذه المرة، تنهل بشوق يصل حد القسوة ، ثم تنظر في عيني بعينين لم أجد مثل صفائهما من قبل ، قالت أن الجسد عنوان الروح ..ومشت “(6).  

ولا تعد هذه الكنايات والرموز ” النعناع والحب والكتابة ” التي يحملها المشهد رؤية رومانسية تنسحب من الحياة وقضاياها قدر ما تشير وترمز لبعض المعاني والصور بطريقة إيحائية فنية ، نهج يأنف من المباشرة بلغة مستهلكة مبذولة طالما أشارت لهذه القيم والمعاني. السردية بتقنياتها المختلفة تتوسل بالطرق الرمزية والتصويرية المشهدية والكنائية؛ لتهب المتلقي نكهة جديدة للحياة وتجسد المعاني المجردة غير المادية بطريقة إيحائية تلعب على الحواس والروح معا، ربما بدت منعشة وحيوية لتستفز طاقات المتلقي في مشاركة الروائي لفعل الإبداع.

 

المعمار النفسي العجائبي للنص:

يقسم الكاتب الرواية إلى : النص السردي الأم “أنا العالم” ، نص القصة القصيرة (تقربا للصحراء)(7) ثلاثة مشاهد مربكة (8)، ست مرات لكتابة “صفحات مدسوسة من الرقيب”(9) ، كما أن هناك مقطع من نص مسرحي (10) يؤديه عبد الجليل في عرض مونودرامي حول خوف الحاكم الطاغية من كل ما يحيط به، ومن ثم لا يستطيع النوم، كما أن هناك نص رسالة بالسردية يرسلها يوسف لريم(11).

 ويتوافر نوع من الابتكار والتجريب في هذا التشكيل؛ لرغبة الروائي في لعبة مبتكرة بالسرد، واتساقا مع طبيعة الاضطراب النفسي الذي يعاني منه يوسف السارد للنص، و لدفع الروائي أيضا لبعض الأصوات النسبية ” المتمثلة في صوت الرقيب والآخرين”، للتعبير عن منطق مغاير لصوت السارد الوحيد الذاتي للغاية في ثنايا فقرات السردية، ولتنويع عالم النص الذي يبدو نفسيا عجائبيا.

كما تهب “المشاهد المربكة” أبعادا وأفكارا رمزية جديدة للنص تدلل على قدر من العنف الذي يحكم العلاقات العادية واليومية بالمجتمع، وكثير من الاضطراب الذي لا تعاني منه شخصية العمل فقط ، بل هذا العنف الذي أصبح سمة عامة في المجتمع بأكمله، فلماذا الضرب بالسيف أو الأيدي أوالتدافع أوالبصق على الجميع؟؟ كلها مشاهد لا تبرير للعنف بها.

ويتخير الروائي إعادة إحياء الموروثات الأسطورية بصور تعتمد على الرمز والإيحاء، وتهب تعدد التأويل، كما يخلق العوالم التي تغذي تلك الأساطير الموروثة، أو التي يصنعها هو بشطحات فنتازية تبرزها بصورة فنية وتشكيلات جديدة، فتدفع بدماء الاختلاف بها أيضا وتجعلها أكثر حيوية في الذائقة. 

فيقوم الروائي بنقض ثباتية الأشكال الروائية التقليدية من مقدمة وذروة وحبكة وتسلسل زمني وغيرها ، بل يخلّق نوعا روائيا مغايرا، يقوم على عدة عناصر وركائز بنائية تنتمي للعبة التجريب، لا تبدو هذه الركائز مصفحة أو متماسكة التشييد، بل يتعمد أن تصبح رخوة ومتشكلة وغائمة وبينية التكوينات لطبيعتها العجائبية الأسطورية تارة، وتارة أخرى للحالة الحلمية السريالية المضطربة التي تسيطر على يوسف سارد العمل وبطله، وهو ما يدفع بالشكل والمحتوى إلى التميز، ففي كل الفصول المعنونة بالأرقام هناك معالجة أو طرح لإحدى الموروثات الأسطورية العجائبية أو التي يكتنفها غموض حالة السحر.

وإمعانا في خصوصية السردية ورغبة في جعلها مختلفة يقوم الروائي بتحديث نسبي للأساطير بدفع بعض العناصر الفانتستيك بداخل هذه الموروثات؛ لتأخذ مذاقها الخليط بين الموروث الأسطوري أو ما نطلق عليه الواقعية السحرية، و الفانتازيا بتجاور الفكرة المتخيلة وتداخلها مع الأرث السحري.

 فكأن الكاتب يعيد دفع الحيوية للموروث السحري ويجدله بالفنتازي، ومن هنا يغازل الوعي الجمعي الذي لم تزل موروثاته تشكل بنسبة كبيرة كيفية وطريقة إدراكه للحياة، و من ثم خصوصية وجدانه. وفي الوقت ذاته يضف إليها رؤية متجددة تعلو على الواقعي دون أن تغادره بصورة جذرية، بل توجد ببعض المشاهد إشارات باطنية تلمس الواقع وقضايانا الذاتية والمجتمعية، والآلام المخزونة باللاوعي بغموض محبب وفني.

تتزوج “غالية” والدة “يوسف” بـ”قادر” بعد وفاة زوجها “عبد الجليل” والد يوسف وأخوته المشوهين جميعهم، وتذكر أمامه أمنيتها منذ صغرها باقتناء قط برتقالي اللون، وينفذ لها قادر تلك الأمنية ، يحكي يوسف موضحا قسوة زواجها على نفسه، وحتمية هذا الزواج إما لرغبتها، أو لتحمل والدته عن كاهله عبء أخوته يقول :” هل كانت تعلم غالية أهمية القطط عند أجدادنا الفراعنة ، إن القط كان رمزا للوداعة (باستيت)، وعند الغضب يتحول للشراسة (سخمت) ، هل عشقها للقطط مجرد مصادفة، أم أنها كانت تعلم أن هذا التضاد مناسب جدا لوضعها، ولصورتها، التي ظلت تكتمل داخلي مع الوقت ، جزءا جزءا حسب كل موقف ، وكأنني أعيد تجميع صورة ممزقة”(12). يقرن يوسف بين القطط وطبيعتها، و طبيعة شخصية غالية وما تركته لديه من تناقض واضح بين الحب والوداعة وحنينه إليها بعد انتقالها إلى البلدة الصغيرة، وعلاقتها حتى بأنفاس أبيه بعد وفاته، ثم القسوة والغدر الذي شعر بهما رغما عنه بعد زواجها ، ويعد هذا تماسا صنعه الروائي للجانب الأسطوري مع الواقعي، ثم تتمادى خيالات يوسف وأوهامه ويخلق حاله متخيلة، فيصور إقامة غالية الدائمة مع القطط في العشة ببيت قادر، يقول:” عاشت بين قططها، حتى صارت تتصارع معهم على الطعام، وصارت تعرف لغتهم، بل إن قادر أنقذها أكثر من مرة من تحت قط ثمين، ظل يطاردها مهتاجا. أحد أقاربنا قابلني مصادفة، أقسم وهو يحني رأسه، أنه حتى العلاقة الحميمة يمارسها قادر معها داخل العشة، بعدما يمشي كقط على يديه وركبتيه، منتفخا ، معتزا بنفسه، يتوقف فجأة، ينظر أمامه بشراسة، يمد عنقه ثم : “ميو .. ميووو” حينها تموء القطط جميعها، بينما ينزوي القط العاشق لغالية، ليشاهدها مستسلما في انكسار، وهي ترضخ تحت قادر كما يليق بقطة ناعمة” (13). هذا التداخل الذي يعبر به يوسف عن الواقعي بالأسطورة القديمة أو ما نسميه بالواقعية السحرية ثم الإضافة بالبعد الفنتازي في السردية هو ما يهبها جانبا كبيرا من التمايز الذي أشير إليه في تضافر التيارين معا.

وتختلف الواقعية السحرية عن الفانتازيا في أنها تقوم بالأساس على الموروثات الثقافية والاجتماعية، إنها بحث عما هو عجائبي وغرائبي داخل الواقع نفسه، فنبوءات العرافات والمتصوفة الذين يسيرون على الماء، والطيبون الذين يطيرون في السماء، والتوابيت التي تهرول إلى القبر، وفتح المندل، وقراءة الفنجان، كلها من خصائص الثقافة العربية التي تُنسب، في حال استخدامها في الأدب إلى تيار الواقعية السحرية، لذا يندرج المحور الخاص بحكايات جدته في إطار هذا التيار. حيث المزج بين الواقع المادي والميتافيزيقي ويعد المشهد الخاص بوفاة جدته ورفضها الدفن وعودتها إلى الخشبة مرات بعد إنزالها المدفن لأنها كانت قد أوصت ابنها أن يدفنها بجوار البحر من المشاهد المميزة بالرواية والتي تعبر عن هذا التيار في لغة وتقنيات مجدولة بعناية يحكي يوسف عن أبيه:” .. الواقفون لم يعلموا شيئا عن وصيتها، لم يعلن عبد الجليل ذلك لأحد، هم فقد وجدوه يقترب من رأسها، ينحني عليها ويقبلها، ظل يهمس لها ببعض الكلمات، وكأنه يرجوها ألا تفضحه، وأن تسامحه، وتقدر قلة حيلته، وربما أزعجها عجزه، وشعوره بالخزي أمامها، ربما لم تحب أن تراه منكسرا بهذا الشكل، ما رآه الناس أن جثمانها توارى، لم يعد موجودا أمامهم، وأغلق القبر. هل دخلت قبرها كافية خيرها شرها، هل تصرفت هي ودست جثمانها في مكان ما بجوار البحر، لا أحد يعرف،.. ولكن ما حصل أننا صرنا منذ ذلك اليوم كلما مررنا بقبر الجدة، نسمع بوضوح صوت وشيش البحر، وتمتلئ صدورنا برائحة اليود .” (14)،  كأنها هي من استقدمت البحر إليها ..

كما يتضمن السرد اللعب على الأحلام التي تنتمي أيضاً إلى نفس التيار. 

 وتتشكل السردية عبر بعض الفقرات والمشاهد التي تعتمد في بنائها على الفانتازيا، وهي كلمة مشتقة من اللاتينية واليونانية وتعني “القدرة على خلق الصور”، والخلق يعني إبداعها وليس إعادة إنتاجها.. بهذا المعنى يمكن أن نفهم القطيعة بين الفانتازيا والواقعية. لكن هذه القطيعة لا تعني أن الأدب الفانتازي لا يمكن إحالته إلى الواقع، بل يمكن ذلك.. لأنه في حقيقته إعادة رؤية للواقع، وإعادة تفسير .

يقول يوسف في تفسيره لطبيعة عائلته التي تعتمد على الأسطورة والمجاز ولغة التعامل بين أفرادها:” خاصة وأن عائلتنا يحكمها العديد من الأساطير، التي بالطبع لم نكن نتعامل معها بوصفها أساطير، بل هي حقائق مؤكدة، خاصة لدى الأجيال السابقة، هذه الأساطير دوما ما تداوي جروحنا، وتسد نواقصنا وعيوبنا، بل وتنظم العلاقة بيننا وبين الأشياء، وبيننا وبين بعضنا البعض.”(15)وتلك هي فلسفة الأساطير التي تكمل رؤية يوسف الكاتب والإنسان للحياة، ويشير إليها الروائي في القص متعمدا.

هنا يجب أن أشير إلى أن فكرة الثباتية والقاعدية في الفن فكرة أصولية ، لا تتسق مع طبيعة الفن وفلسفته العميقة ، لذا أرى أن التجدد والبحث عن التحديث المستمر طابع جوهري في الإبداع؛ لأنه نتيجة لتفاعل جدلي قائم في حالة من الحيوية والديناميكية الدائمة بين الفنان والطبيعة بموجوداتها، والسلطة، و الأوضاع الاقتصادية، والثقافية.

هذا القص ينقل الحكي من الواقعي بصراعاته التي نعرف أطرافها إلى مشاهد فنية تتضمن قوى خارج حدود العقل، بل تتسم بالعجائبية، لا نعرف لها بداية وهل هناك تطور لحكاية ما، أو كيف ستنتهي؟ كلها عوالم تشكيلية تطرح للعقل والوجدان البشري منظورا أكثر اتساعا بالحياة.

ــ هناك نهج سردي لافت للنظر يوجده الروائي بهذا النص كأن يرمي باسم أحد الشخوص في السرد في تعليق أو إشارة ويترك المتلقي لا يعرف عنه شيئا، حتى أنك تعاود الصفحات لتتأكد أنك تتابع جيدا، فتتأكد أنه لم يرد شيء من قبل، ثم تكمل القراءة لتجد أنه قد وصفه لاحقا، ووضعه في إطار الحكاية والسردية متأخرا كما فعل مع طارق المعالج النفسي(16)، وكما فعل أيضا مع ريم في أول الصفحات(17)، ونتساءل لماذا ؟ فأعود أذكركم أننا نقذف بهذا العالم على هذا النحو، نلقى بالوجود ثم تبدأ الحكايات.

 كما أن بناء النص يتشكل عبر استدعاءات ومواقف تشبه التداعي الحر في العلاج النفسي، يكتبها يوسف تحقيقا لرغبة الطبيب المعالج دون ترتيب ذهني واضح؛ لذا هناك لا نسقية القفزات في الحكي، والمشاهد المربكة التي تستدعيها ذاكرة يوسف وتعبر عن همومه ومخاوفه.

و كان من الطبيعي أن يكون السرد بضمير المتكلم اتساقا مع هذا العالم الذي يقصه البطل حول نفسه ، فنصه بالأساس معنون بـ “أنا العالم ” فلا أحد، ولا ضمير آخر غيبي يستطيع أن يلتقط هذه الروح الفردية، وذاتية الرؤية التي ترصد هذه الغرائبيات، وتكمل حيواتها بخلق تخيلي مفارق لمنطق الأشياء بالواقع، ثم تلتقط تلك الاشياء والصفات النفسية الدفينة لذاتها، وتتحسس خصوصية الشخصيات الورقية التي اصطنعتها، ومن ثم خلقت بها هذه العوالم العجائبية بكل اختلافاتها.

ولاستخدام الضمائر بالسرد طبيعة خاصة فالكاتب يبدأ القص بفقرة ثم لأنه يريد أن يربط هذا الحكي باستدعاء موقف أو قدرة خاصة من قدرات جدته، نجد لعبة بالضمائر يبدأها بضمير الغائبة، ليحكي عن الجارة، ثم عن قراءات جدته على الغصن، ثم يعود للجارة والضمير العائد عليها، ثم يعود إلى ذاته وحكايته عن ريم وحبه لها. يقول :” قدمها كانت بيضاء جميلة ، أصابعها مستوية بلا كالو وبلا عين سمكة .. يومها أتت الجدة بالغصن الأخضر ، ظلت تقرأ عليه ما بدا لي كهمهمات لم أتبينها، .. تخيلت لو أنا وريم في مثل وضعهما الأن ..”(18).

يبدو رسم المشاهد وتجسيدها، وطبيعة الاضطراب النفسي، وطريقة التداعي، محركا ومؤثرا فاعلا في كل شبكة الضمائر بالنص .

 

 القص تعبير عن كيانات بشرية تتراوح بين الحقيقة والمتخيل والرمزي:

من هي ريم؟ ولماذا يحبها كاتب القصص القصيرة يوسف ؟ يقول يوسف :”كل تلك المشاعر تجاه ريم لا يمكن أن تكون بلا سبب، لكن كلمة السبب تبدو قبيحة بالفعل ، السبب دوما يرتبط بالأشياء المادية، .. لكن ما بيننا ياريم أكبر من أن يحدد في أسباب..” (19) .

“سأقول لك ياريم لماذا أحبك هكذا، جاءني ظن ربما لأنك الوحيدة التي تدفعني للحكي ، بدونك أنا صندوق أسرار مغلق بمتاريس عتيقة ، يكسوها الصدأ والأتربة، معك أبوح وأستلذ البوح دون أن تطلبي مني ذلك ” (20).

“لماذا أحبك هكذا يا ريم ؟ سأقولها مباشرة .. أنا أحب ريم من أجل حماسها”(21).

“ربما أحب ريم هكذا لأنها تعطيني القدرة على مواجهة العالم ، قدرة على الدفاع عن وجهة نظري.”(22).

” ألهذا أحبك ياريم ، وتملكين كل مشاعري ؟ لأنك تسعدين وقت السعادة ولا تفتشين عما يكدر الصفو.(23).

” ألذلك أحب ريم ، لأنها الوحيدة التي تفهم رسائلي حتى ولو لم أرسلها ، الوحيدة التي تعرف كيف تكتب رسالة بأقل الكلمات التي تمس قلبي مباشرة “(24).

” هل من الممكن أن يكون حبي لريم بهذه الدرجة، لأنها تصدقني سريعا، وبلا جدال.”(25).

” هل من الممكن أن يكون حبي لريم لأنها تسببت في إثارتي وهي ترقص، كما لم تثرني راقصة من قبل؟(26).

” الأن عرفت لماذا أحبك هكذا ياريم ، لأنك أثبت أن عشق الجسد ليس فانيا، أن جسدك أجمل وأعظم من كل فناء، أن لك جسدا عابرا للزمان والمكان ، جسدا أجده بين يدي طازجا وقتما فكرت فيه .. أم أحبك لجسدك الذي يتحول في كل مرة شيئا

 مختلفا ، أتذكر حين كان جسدك فراشة مزركشة، ملأت فضاء حجرتي بالطيران والبهجة ..”(27).

قد تكون ريم شخصية ورقية، أنموذجا لكيان بشري موجود بالواقع، وقد تكون رمزا،  فطبيعة هذا النص واللغة التي استخدمها الروائي لتجسيد ريم قد تحيل هذه الشخصية لوهم كبير يتخيله ويعيشه يوسف الشاعر، الشاعر الذي كانت العائلة تتعجب من أنها لم تنجبه،  وبهذا قد تصبح ريم رمزا لعشق يوسف الحقيقي المتمحور في فعل الكتابة، وتصبح الأوصاف والأسباب السابقة التي قمت بتجميعها من النص وعلل بها يوسف عشقه لريم هي أسباب عشقه وحبه لفعل الكتابة والقص. أو أنها شخصية تخيلها لاحتياجه إليها بحياته ومن ثم توهم وجودها. وقد يدلل على هذا التوهم ما يقوله يوسف عن الرجل القصير الذي تخفى في شخصية صحفي، الرقيب الذي يتلصص على يوسف وكتابته، يقول يوسف :” عندما ذكرت اسمك عن عمد، ذكر هو الوهم، هو لم يوضح أكثر من ذلك، لكنه بالتأكيد سيأتي الوقت الذي ينقض فيه علينا، سيحاول أن ينالك عنوة”(28).

في نهاية النص العجائبية يتقزم يوسف وريم خوفا وهروبا من هذا الرقيب، وهو ما يرجح كون ريم معادلا لفعل الإبداع والكتابة، والتصاقها الشديد بيوسف، وجسارتها التي تمثل عنفوان الكتابة الحرة الحقيقية ، يقول يوسف :” صرنا كعقلتي أصبع، أو كحبتي فول واحدة بطعم النعناع، والأخرى بنكهة الياسمين .. نداءات يطلقها طارق ، الذي يحفظ حق عظام التربة وشاكر الذي عشق ما كتبت ، ظلا يبحثان عني، ويعلنان بصوتهما الجهوري، مالم تسمعه ريم، مهما استرقت السمع: كان هنا ولد يشعر بالوحدة، ظل يكتب، ويخترع في أناس وحكايات تشعره بالدفء، وتعطي لحياته معنى .. كان هنا ولد من يجده يأتي به إلى العنوان التالي .. “(29).

 

الشخوص ذات الظلال المتعددة:

للروائي في سردية “أنا العالم” طريقة في تقديم الشخوص فهو يزج بهم في السردية دون تفاصيل واضحة تضعهم داخل إطار ببعد واضح مما يفتح التأويلات المتعددة.

ــ يعد يوسف في النص بحسب ظني هذا المزيج من الشخوص المتداخلة ( جانب من الروائي الحقيقي هاني عبد المريد، الكاتب الضمني للنص الأم، إضافة لشخصية كاتب القصة القصيرة، شخصية النص وسط عالم واقعي عجائبي في الوقت ذاته)، فضمير الأنا متعدد الظلال الذي يعبر عن ذاته بمفردتي عنوان النص مجتمعين ” أنا العالم” حيث يمكن أن أفسرهما بـ :

ــ  العالم هو ما أراه وأدركه، وما عدا هذا هو خارجي لا يعنيني، العالم رؤيتي من موقعي الذي أشعر فيه بوحدة مرضية.

 هذا العالم الذي رأيته فارغا وفضاءا في الحقيقة ليس عالما محدودا أوذا بعد واحد، بل عالم متسع يشمل الغيبي والسحري والفنتازي، يتضمن الحقيقة والوهم، تلون فيه الأحداث الواقعية بتلك الرؤى الأكثر خلخلة لصلادة الواقع واعتياده.

ــ أنا العالم أي أن هناك وحدة ما تجعلني ممتزجا بروح هذا العالم ، بشيء عميق وداخلي يسري بهذا العالم ، حتى أنه عندما كتب نص “تقربا للصحراء” بحث عن الأسرار، لا الأحداث والمشاهد بل الأشياء الباطنية التي نخفيها لكنها تمييز بين شخصياتنا وتجعل لكل شخص فرادته وأسراره.

ــ ربما فعل الكتابة ذاته هو ما يذهب بنا لعنوان النص ولشخصية يوسف لأنه هو هذا الكاتب الأنوي الذي يشعر أنه من يلتقط جوهر هذا العالم ، مكمن أسراره وعوالمه الخفية ويستطيع أن يلقي ضوءه فوق مناطق توترها وغرابتها.  

وتبقى سمة المراوحة والجمع والتأرجح بين الواقعي و العجائبي بأشكالهما المتعددة تشمل بناء كل شخصيات العمل ، نحت فني من قبل الروائي لالتقاط غير المتواتر والمعهود في بناء الشخصية التقليدية أو النموذج المعتاد، يقول في معرض حديثه عن خياراته الكتابية ، أو الكتابة عن الكتابة في نصه “تقربا للصحراء”:” لذا سأهرب للمكان الذي أحبه ، مكان الأسرار الخاصة ، تلك الأسرار الدفينة ، التي تخجل من الحديث عنها أمام أحد، الأسرار التي لا يعرفها سوانا، وتشكل جزءا هاما من أرواحنا، بل وتؤثر على الكثير من أفعالنا.”(30). ونكتشف مع السرد أن تلك الأسرار التي تخص شخوصه الورقية مثل أن أحدهم يبتسم لصخرة ولديه علاقة بها ويقرأ أشكالها، والثاني: يخاف الظلام والأماكن المغلقة وهو الخارج عن القانون، الذي يحتمي بكهف في أحد الجبال، يجتمع بداخله هذا التناقض، القوة مع الضعف في آن واحد، أو الثالث الذي يتحدث مع النجوم ويعرف قصصها ويحدثها، وبرغم تلك المناطق الروحية الشفيفة في كل منهم ، إلا أنهم في الواقع يتقاتلون ويقضي أحدهم على الآخرين، دلالة على احتواء هذه الحياة على كل ماهو متناقض بداخل النفس البشرية لكنه متجاور باللحظة الزمنية ذاتها.

الجدة : اتاح نموذج الجدة فرصة سانحة للروائي لدفع طاقة الواقعية السحرية التي صبغت مشاهد السردية ومنطقها، فهناك عدد من الحكايات التي يسردها يوسف ورآها رؤية العين منذ صغره، وقائع مثل ما يشبه الزار الذي أقامته لفراخ الجارة التي تربي أيتاما(31)، والتعاويذ والطلاسم التي قرأتها على الغصن الأخضر لتشفي قدم جارة من عين السمكة(32)، أو الزيت التي نقعت به الفئران وداوت به أذن زوج جارتها(33)، أو القط الذي ذبحته وأطعمته لابنها ليشفى صدره من الحساسية والسعال(34)، أو لبن ثدي المرضعة التي داوت به عينيه(35). هذا عدا رؤيته لها وكأنها امتداد مستمر ودائم من روح هذا الكون وسديمه. تلك التي استجابت للموت فقط لأنها تعاطفت معه(36). يضفي الروائي على نموذج الجدة أسطرته حكاية موتها وهو ما يكمل هذا النموذج العجائبي الذي تتواجد بعض ملامحه  في الواقع المصري بموروثاته.

عبد الجليل: والد يوسف الذي لم يناده أبدا بلقب والده، “أسطى الرفة”  الذي لا يكترث بأساطير العائلة، بهر ابنه واعتبره هو الأسطورة، يتخذ من حرفته فلسفة حياة يقول:” الرفا يا يوسف يابني مش بس شغلة دي أسلوب حياة، أنك تقرب الأطراف المتباعدة وتلغي المسافة إللي بينهم من غير شد، عارف لو شديت تتكرمش منك العملية”(37). عبد الجليل الذي سعد عندما تحققت الأسطورة وشعر أن ابنه أصبح شاعرا.

يحكي يوسف عنه “إن لم تكن تعرفه وقابلته للمرة الأولى ستخرج بكم هائل من الأكاذيب التي ستصنعها بنفسك حوله، يشعرك دائما أن له حقيقة غير حقيقته تلك”(38). المنتمي للاتحاد الاشتراكي في الماضي، الممثل المسرحي المغمور، طبيعة النص الذي يؤديه، والمعاني الخاصة بالحاكم المرتعد غير القادر على النوم والمتضمنة في النص، يقول يوسف :” كان يؤدي دوره بالمسرحية ليدور بعد ذلك نقاش بين الحضور عن عدل عمر ابن الخطاب ، الفرق بين جمال عبد الناصر والسادات، .. الناس يايوسف نايمة وعاوزة إللي يصحيها”(39).

ــ بدت شخصية الرقيب مراوغة تحمل عددا من الأقنعة ، فهو الصحفي الذي أثنى على طريقة يوسف في الكتابة، وأبرز معرفته الدقيقة بالتفاصيل الفنية التي لم تكن ريم تدركها مفصلة، وهو من ساعده على النشر أول قصصه ، وأيضا هو الرقيب الداخلي والخارجي الذي يقيد فعل الإبداع، بل يضعه في إطار مفروض وهو ما يتنافى تماما مع طبيعة الفن، فبعد أن ينشر له قصته ليتحكم فيه ويجد مستند إدانته يقول عنها:” لا دي مش قصة دي جريمة .. قمت من خلالها بتحويل خاطئ لمسار حياة ناس أبرياء، لديهم أسرارهم ومشاعرهم المرهفة، ..”(40)، وكأن هذا الرقيب هو الذي يدعو المبدعين للتكريس للكائن وإعادة انتاجه في أشكاله التي صارت متحفية، كما يضطهد ويقمع كل رؤية أو تخيل جديد يغير من نمط الحياة وصلادتها وقدمها . وبوجود هذا الرقيب ربما تصاعد شكل الصراع في هذا العمل، إضافة إلى الصراع النفسي الداخلي مع الوحدة بهذا العالم ومقاومته بفعل الكتابة .

كما يرسم الروائي شخصية الرقيب كطريقته في هذا النص مراوغا لدرجة أننا قد نشعر أنه صوت بداخل يوسف القصاص، رقيبه الداخلي . أو يشعرك في آن آخر إنه أنسان حقيقي ويذكر ملامحه، حتى ما يختص به من عادات حركية يقول:” .. ومن حين لآخر يضم أطراف أصابع يده اليمنى، ينفث فيهم، وكأنه لامس للتو شيئا ساخنا ألهب أصابعه، يفعل هذه الحركة بشكل تلقائي طوال الوقت..”(41)

 ــ في حكيه عن الشيخ الذي ذهب إليه ليسأله لماذا يحب ريم هكذا ؟ يصوره بطريقة سينمائية تشبه سلسلة أفلام المتحولين، يقول عنه بعد أن كان نحيفا للغاية أول ما فتح له الباب:” .. عندما عاد كان يعاني من سمنة مفرطة، جعلت عيونه السوداء تبدو ضيقة تحت وجنتيه المنتفخين ، ملامحه وجسده وصوته وربما أسلوبه ، كل ذلك يتغير ولكن لم يساورني الشك نهائيا بأنه يتبدل، أثق بأنه الشيخ، شيء ما يؤكد أنه هو نفسه من فتح لي الباب بجسد هش ولحية نابتة خشنة.”(42). وفي إيقاع سردي شديد التوتر والتبدل يصور الروائي هذا المشهد الذي يستند على تقنيات السينيما بما تتيحه من تحولات سريعة في الصورة، وظلال متعددة للشخصيات لا تجعل لها قواما متماسكا، ربما بدا لي الأمر ساخرا بعض الشيء عندما فكرت في أنه ربما بدت هذه التحولات في الشخوص والظلال التي تحملها هي ما يقابل تطور الشخصيات ونموها في السرد الكلاسي ونماذجه المتماسكة “النموذج الإيجابي، والسلبي ، الشخصية الدائرية، نمو الشخصية وتحولاتها “، هو بالتأكيد تغير يجب الإشارة إليه في السرد ما بعد الحداثي .

وينقل يوسف عن الشيخ أيضا :” قال إن روحه تتبدل طوال الوقت ، وتستقبل أرواحا أخرى ، قال أيضا إن ريم لم تشغل بالها بذلك ، وإنها أقوى ، وإنها لا تخاف جنا ولا عفريتا، قال إن العالم متسع ومليء بالأسرار ، وإن هناك أشياء يجب تقبلها كما هي حتى لا نشغل بالنا كثيرا دون طائل “(43).

  ــ الرجل المظلة نموذج مخلّق لأجل أن يدفع بمعنى جميل وراق، و يبعث بالحيرة بنفس المتلقي ، و يتركه أيضا في منطقة الاحتمالية بلا معنى مستقر ونهائي لهذا الأنموذج الروائي ، في بعض فقرات الحكي يظهر أنه رجل واقعي ، بل ويرسم الروائي له ملامح خارجية حيث يقول:”مر بجانبنا رجل تائه النظرات، ملابسه واسعة مهلهلة، نظر إلي والحاجة تشع من عينيه، الرجل لم يمد يده ، ولم يطلب شيئا، استوقفته، فرحت عيناه بحزمتي النعناع، .. كان سعيدا .. يبدو أن البعض يزعجه ذلك.. ظهر الرجل الذي أسعده النعناع مرة أخرى، كان على نفس هيئته، وإن بدا أكثر ضخامة.. زعق في كل الواقفين، صوته كانفجار مدو، تفرقوا ، سار يستطيل ويرتفع، حتى صار مظلة.. مظلة كبيرة واسعة ودافئة .. و صار الرجل المظلة هو رفيقنا الدائم والشاهد على تطور علاقتي بريم “(44). ثم يقع الرجل المظلة في الحب ويعترف ليوسف فيقول عنه :” أصبح كالتائه، لم يعد راضيا عن أدائه ، عندما شعر أنه في ورطة، حكيت له عن طارق، حتى استحسن مقابلته وقال لي إنه عندما رأى عينيها أدرك أنها له، وأنه لابد وأن يصارحها، وأن يكون فارسها، ولا أحد سواه. وبالنظر أكثر لعينيها أدرك أن شيئا ما بروحها بارد، لم يتدفأ بعد، لأول مره يفكر الرجل المظلة في إحدى رواده بهذه الطريقة، انتابه بعد ذلك شعور بغيض أنه خائن وأنه ارتكب إثما كبيرا .. بدا لطارق كقديس لديه هالة روحية واضحة تتبعه”(45) . ومع تقدم السرد يعشق الرجل المظلة إحدى الفتيات التي تعشق أخر ويتعذب لأجلها.

كيف يهيئ الكاتب لشخوصه هذه العوالم الواقعية لبرهة، ثم يتحول بهم إلى كائنات أخرى بمواصفات مغايرة وطبيعة مختلفة ؟ يعد هذا التشكيل إضافة هذا القص، أن تكتسب الشخصيات صفات المعاني: السحر، الكتابة أو فعل الإبداع، الأمان والتسامح، الحب، الرقابة والقيد، التوق إلى مالا يتحقق ولايستقر، وأبعاد أخرى نفسية وميتافيزيقية غيبية تسيطر على الشخوص وتجعلهم نماذج غير اعتيادية .

تبدأ هذه الإعدادات الفنية من قبل الكاتب منذ اختيار الأسماء فيصبح الرجل المظلة، وتلك هي طبيعته الغالبة، اختياره لدوره بهذا الوجود، ثم سلوكه وطبيعته رغم مخالفته لمنظره الخارجي، ثم تضحيته بسعادته من أجل الآخرين، ويستند هذا على اللغة التي يصفه بها يقول على لسان الرقيب :” .. وجده أهل المدينة يرتفع ويرتفع، مقررا أنه إذا كان لم يستطع أن يشعرها بحبه سيكتفي بأن يذوب في خدمتها، أن يكون مظلة واسعة تظلل كل مدينتها”(46).

ــ أيضا هناك طريقة لرسم الشخصيات الحاضرة بثقل طيلة النص، وغائبة في الوقت نفسه، فعلى سبيل المثال هناك حكي تفصيلي عن ريم لكن نستشعر أنه ليس هناك وجود فعلي لريم مع يوسف فهي الحاضرة الغائبة. ريم التي لا تقف أمام أشياء كثيرة وكأنها غير موجودة ماديا بالسرد، موجودة فقط في مخيلة القاص:” لم تسألني لماذا حصلت على الترمس بالمقايضة، لم تشغل بالها بانحنائي المفاجئ أثناء كلامي معها ، أو أثناء شرائي للترمس، تفرغت فقط للشعور بالسعادة، والاغتراف منها قدر المستطاع”(47). ليس لريم حوار بصوتها دون أن يكون نقلا وسردا عن يوسف. ريم هي ذاتها التي يرسم لها الروائي مشاهد متعددة عذبة مع يوسف يقول:” في ذلك اليوم قمت لوحدك ، تناولت كوفيتي لوحدك، أحكمتها حول وسطك .. بالفعل كان جسدك يرقص، وكانت الحياة تولد وتصرخ بشبق مع كل حركاته”(48). وفي هذا المشهد يصنع الروائي كعادته في هذا النص تماسا واستدعاء، ريم مع الراقصة الخشبية في أوبريت الليلة الكبيرة، كما تستدعى أيضا من ذاكرته الغازية، حيث الانطباعات التي تتداعى في ذاكرة يوسف، وهو شأن تداعيات هذا النص لطبيعة ساردها.        

ــ  يصف جدته يقول :” رأيت جدتي عالمة ببواطن الأمور ، وكأنها رأت كل الأمكنة، وعاشت الأزمنة جميعها، ورأيتها ترمي بنظرها هناك في الفراغ البعيد، وتخبرني بأنه سيأتي زمان يحدث فيه كذا وكذا، فعرفت أنها قد تظل هناك في الآتي أيضا “(49). التناسخ بين الأرواح، مع فكرة الخلود، مع وحدة هذا الوجود، مزج يشبه الخلطة الفنية التي يسربها الروائي بوجداننا، ثم يتركنا لتلك العوالم نحدد نحن لها ملامح كما يشتعل الخيال بها .

لصنع هذه المناطق البينية في الشخصيات أو في تلقيه هو لهذه الشخصيات عدة أليات يصطنعها مثل :

ــ تتداخل ريم حبيبته مع ريما القطة التي اقتناها عبر إشارة إلى تناسخ الأرواح، كما يجسد هذا الشعور بتقنية الحلم ومكوناتها السريالية، يقول عن ضبابية الوجود بين ريم وريما لديه :” استيقظت من الحلم مهتاجا بحثت عنها تمنيت لو أجدها كما بالحلم متحولة لنصفين، أو أتحول أنا لقط ، أو حتى لا نتحول وتبقى قطة مع رجل .. ألذلك أحبك ياريم ؟ لأنك جعلتني أتمنى التحول لقط ، لأنك جعلتني أعتلي نصف امرأة نصف قطة ، جعلتني أفكر كثيرا في ريما، وأشعر بالغيرة كلما تخيلت أن هناك قطا قد اعتلاها”(50) .

ــ الاستناد على عنصر تشويق بغرابة حيث يعتمد على الإشارة للظواهر بطريقة سريعة في السرد، وكأنها إشارات لا تعرف أن تكون رأيا حولها ، ثم يعود إليها الروائي مرة أخرى، وتشعر أن كل فقرة أو إشارة تلعب في السردية لعبة دائرية ، كل إشارة تتقدم السردية لنعود لذات النقطة مرة أخرى، في حالة أخرى، تزيده إما وضوحا أو غموضا كشأن النص. عالم القطط .. متلازمة مواء القطة التي أصابت أخيه كامل، ريم وريما ومواقعة القطة التي تشبهها في الحلم، ذبح القطة وطهيها لوالده في مرضه، الحلم الذي يزعج عبد الجليل طيلة حياته ، التصاق غالية بعالم القطط وتمثل حياتهن.  

ــ شخصيات بلا ماض أو نهاية كما يحدث بالواقع، مثل تصويره لزوجة قادر الأولى، وتصور كل أهل القرية أنها جنّية للظروف التي أحاطت بالزيجة، يقول عنها :” زوجة عمي كانت أجمل من رأت عيني ، في البدء كنت أخافها، كنت أخشى البقاء معها وحيدا، أتصور دوما أنها في وقت ما قد تتحول وتعود لطبيعتها السفلية .. قيدها ، جعلها تصمت للأبد .. لم تعد تعلمني الرسم .. تلقي بالبذور من حولها ، نمت من حولها أشجار الخوخ والعنب والليمون، يلقى لها العم بالطعام والورق والألوان “(51).

 

تخوميات السرد بأنا العالم:

هناك سيولة واندياح للعلاقات بين موجودات وكائنات هذا النص فعلى سبيل المثال لا الحصر:

ــ في ” المشهد المربك”(52)هناك عناصر مابعد حداثية تشكل المشهد ” بنت في الخامسة عشر بضفيرتين طويلتين، تمسك بعروسة، بيت خشبي من الريف الأوربي ، مساحات شاسعة من المزروعات، رجل على أريكة من الأرابيسك، يرتدي جلبابا عربيا،  رجل أسود ضخم سيف لامع مسنون يطيح برأس البنت وتنفجر الدماء على المشهد”، تبدو عناصر المشهد تجميعية لعناصر متباينة كعمارة ما بعد الحداثة ، أو لأننا سنكتشف مع تقدم النص أن المشهد يخضع لمنطقة الأحلام ، رؤيا النوم أو ضلالات وأوهام اليقظة، كما أنها كنائية؛ لذا تبدو شخصية القص وتكوينها النفسي شديدة الارتباط وتتسق مع طريقة هيكلة النص واختيار تقنياته.

بإمكاني أن أضيف أن طريقة تشكيل المشاهد بهذا النص تعتمد على كثير من تقنيات السينيما في طريقة إخراج المشهد لتشير إلى الدلالات النفسية لشخصية السرد.

ــ إذابة الحدود الطبيعية المعروفة بين الكائنات ، منطقة تخومية يلتقطها المبدع تقع فيها شخصية السارد، القطة ريما قد تبدو ريم حبيبته (53)، في الحلم تتحول القطة لنصف امرأة ونصف قطة، ويتحول هو لقط كبير ليتمكن منها، يشعر بالغيرة على ريما القطة لو اقترب منها قط؛ لاقترانها في ذهنه بريم حبيبته، وبعض الشبه بينهما.

ــ الشخصيات التي تتحول بإيقاعات سريعة ولحظية مثل شخصية الشيخ الذي ذهب إليه ليسأله لماذا يحب ريم ، أو زوجة قادر الأولى والعلاقة بينهما ، أو غالية ، طبيعة الحياة التي لا توجد بها حقيقة مؤكدة سوى التغيير.

ــ كائنات وهمية ومتخيلة كالرجل الأسود، القابض على سيفه الذي دوما ما يزعج يوسف محاولا الإطاحه برأسه، الذي يتفاداه يوسف دائما دون أن يشعر به أحد.

ــ وجود برزخي للشخوص ، وجود متداخل وبيني ، علامات معينة تستدعي من الذاكرة شخوصا ومواقف مثل المرأة التي ظهرت له في البيت نفسه الذي قابل فيه الشيخ (54)، وحيث الشامة السوداء البارزة في المفرق أعلى الثديين الناهدين التي استدعت قصته مع جدته التي عالجت التهاب عينيه بالحليب من ثدي جارتها لمدة ثلاثة أيام، ليقع القارئ في منطقة بينية، هل المرأة هي ذات الجارة أم أن الذاكرة هي ما تصنع تلك العلاقات الغامضة التي تستدعي إحداها الأخرى فيبدو العالم في تكوين يوسف النفسي بهذه السيولة والاندياح؟ (55).

ــ منطقة تخومية تخلقها السردية بين قص واقعي عجائبي، وفقرات ومشاهد تتوسل بالسخرية التي ربما وصلت للسوداء أودرجة من ظرف التناول، مثل احتفاظ غالية بالعوامة التي نفخها عبد الجليل بأنفاسه قبل موته واصطحابها لتجلس على نفس المكان على النيل الذي كانت تجلس فيها مع عبد الجليل (56).

 ــ اللغة التخومية : لطبيعة الأجواء السحرية الفنتازية بالنص تشكل تراكيب الجمل غالبا غائمة وبينية ، شبحية وتحتمل الكثير من الاحتمالية، كما أن الاضطراب العصبي لدى السارد، وضبابية الأحلام، وحقيقية الواقع أيضا، جعلت اللغة في موقف الضربات غير المرتدة ، بل الاحتمالية التخومية ، أي أنها تقول وفي الوقت ذاته لا يمكنك أن تشعر بيقين تجاه ما يقال، يقول عن جدته :” .. مغمضة العينين ، تقرأ ما يشبه الطلاسم على غصن شجرة أخضر، وكأنها تسترق السمع للكلمات قبل نطقها، لتأتي بها من هناك، من ذلك العالم البعيد، الذي ظل يداعبني، حلمت به ، تخيلته، لكنها لم تحك عنه إلا القليل، فظل عالما شبحيا”(57)، اللغة بتكويناتها ومفرداتها دائما ما تبعث بالمتلقي لعالم آخر، تفتح الأبواب على اتساعها لعوالم الخيال.

تراوح القص بين الفصحى في كل فقرات النص، ولجأ الروائي فقط للهجة العامية في الحوارات القليلة بالرواية.

 

المكان الرخو المتشكّل بأنا العالم:

ينقسم المكان بالرواية إلى بلدة ومدينة وتتبدى العلاقة بينهما من خلال الجد ، جد يوسف الذي مات وهو مؤرق بأن العائلة لم تنجب شاعرا، رغم أنهم يستخدمون المجاز كثيرا(58)، بعد موت الجد أصبح يوسف وريثه في مد الصلات مع البلدة البعيدة وأهلها.

يقول يوسف:”بلدتنا صغيرة، وحيدة كنقطة على أطراف العالم، مظلمة، موحشة، كمكان تسكنه الأشباح.. بلدتنا تطرد معظم أبنائها بمجرد أن يمتلكوا القدرة على الفرار، لتبقى مكانا للعجائز المعاقين، تحتفظ فقط بعادات وتقاليد صارمة، تعمل مكان القوانين، لتبدو أيضا كمكان خرب يهجره الناس وتسكنه العادات البالية، عدد الأشجار والنخيل قليل، القطط والكلاب والماشية في تناقص مستمر .. قريتنا يلفها الظلام والخفافيش والملل.”(53).

يرى قادر عم يوسف:” أن الملل ليس لقلة العباد والدواب والأخبار، الملل يخرج من داخل الناس والأشياء بالبلدة، الملل يسكن روح المكان “(54).

يعد بيت جد يوسف في المدينة عالمه وموطن نعناعه، لكنه كشأن كل ما بالنص خاضع للتحولات، التغيرات التي تنتابه نتيجه لفقد البشر وتوالي الأحداث لا في كينونته ذاتها، يقول يوسف:” بيت جدي تتغير ملامحه من فترة لأخرى، ملامحه لا تعنى الملامح الشكلية فهو لم يتغير شكلا منذ وعيت على الدنيا، لكنني أقصد ، تغير الطعم والرائحة، تغير شعورك بالحوائط والممرات كلما رحل أحد، يبدو لي البيت كأنه يفقد شيئا، أو كأنه يدخل هو الآخر مرحلة جديدة من وجوده”(55). التغيرات التي تلحق بالمكان هي تغيرات نفسية ولذا تبدو رخوة متغيرة.

لا يمكن تحديد زمن الرواية بالضبط رغم أن الحكي في الزمن الحاضر، لكن النص كله يتشكل عبر استدعاءات يدونها يوسف تلبية لرغبة طبيبه المعالج؛ لذا هناك ذبذبات زمنية تتراوح بين الحاضر والماضي بمستويات مختلفة ، كما أن الفقرات الخاصة بالرواية عن جدته، ووصف مماراساتها، وطبيعة شخصها، يجعلنا نشعر أننا في مطلق الزمن الماضي والحاضر والقادم إلى مالانهاية، وهو ما يرسخ للجانب الميتافيزيقي بهذا النص .

هل من الطبيعي أن تظل الدراسات النقدية التحليلية في الثقافة العربية صامتة تجاه هذه الأشكال البنائية وما خلفها من رؤية فكرية وفلسفية للفن، وطبيعته، ودوره بالحياة، أم أنه يجب الإشارة لهذه الآليات وبحثها فنيا، ومواجهة الرفض النابع من عدم اعتياد الذوق العام لهذه الأعمال والنصوص، أو للاستسهال الذي تلجأ له الكثير من الأقلام النقدية ؟

 

الهوامش:

1 – هاني عبد المريد: أنا العالم ، الكتب خان ، القاهرة ، 2016 .

2 – الرواية: 102 .

3 – الرواية: 104 .

4 – الرواية: 16 .

5 – الرواية: 172 .

6 – الرواية: 34 .

7 – الرواية: 116 : 122 .

8 – الرواية: 61 ، 72 ، 111 .

9 – الرواية: 123 ، 135 ، 139 ، 147 ، 183 ، 177 .

10 – الرواية: 52 ، 56 .

11 – الرواية: 115 .

12 – الرواية: 158 .

13 – الرواية: 158 ، 159 .

14 – الرواية: 83 ، 84 .

15 – الرواية: 24 .

16 – الرواية: 107 .

17 – الرواية: 11 .

18 – الرواية: 18 ، 19 .

19 – الرواية: 17 .

20 – الرواية: 21 .

21 – الرواية: 33 .

22 – الرواية: 65 .

23 – الرواية: 71 .

24 – الرواية: 133 .

25 – الرواية: 156 .

26 – الرواية: 164 .

27 – الرواية: 161 .

28 – الرواية: 192 .

29 – الرواية: 193 .

30 – الرواية: 120 .

31 – الرواية: 8 .

32 – الرواية: 18 .

33 – الرواية: 94 .

34 – الرواية: 9 .

35 – الرواية: 66 .

36 – الرواية: 93 .

37 – الرواية: 31 .

38 – الرواية: 30 .

39 – الرواية: 56 .

40 – الرواية: 184 .

41 – الرواية: 168 .

42 – الرواية: 58 .

43 – الرواية: 59 .

44 – الرواية: 71 .

45 – الرواية: 108 ، 109 .

46 – الرواية: 184 .

47 – الرواية: 70 .

48 – الرواية: 162 .

49 – الرواية: 7 .

50 – الرواية: 13 .

51 – الرواية: 49 ، 50 .

52 – الرواية: 61 .

53 – الرواية: 11 .

54 – الرواية: 65 .

55 – الرواية: 66 .

56 – الرواية: 129 .

57 – الرواية: 7 .

58 – الرواية: 22 ،23 .

59 – الرواية: 45 .

60 – الرواية: 45 .

61 – الرواية: 22 .

……………………

*نشر في جريدة أخبار الأدب بتاريخ 12 يونيو 2016

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم