التجلّي في حضرة الخفاء

اختفاء السيد لا أحد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. صوريا غجاتي

     وأنت تُطالعُ رواية (اختفاء السيد لا أحد) للروائي “أحمد طيباوي” الصادرة في طبعتها الأولى عن الثنائي الناشر، ضفاف واختلاف، السنة الجارية، والممتدة على مائة وتزيدُ عنها بتسعة عشر صفحة من القطع المتوسط، وتمّ تقسيمها إلى قسمين اثنين:1/ الرجّلُ الذي خلعَ وجهَه ورحَل.2/ الجحيمُ يُطلّ من النافذة..ستشعُر أنك أمام مرآة، مثّلً القسمُ الأول من الرواية حالتَها السليمة التي تعكسُ الأشياء كما هي، بارزةً، واضحةً، شفافةً، وجلية. يبحثُ من هو قُبالتَها عن تفاصيل وجهه مُمعناً النظر في تلك الندوب، والحبوب، والتجاعيد، المرئيُ منها والذي يكادُ لا يُرى.ثمّ يُقرّر الكاتبُ في القسم الثاني من روايته أو سيرته الذاتية والموضوعية، المفردة والجامعة، أن يُهشّم تلك المرآة فيُصبح الوجهُ الواحدُ وجوها متعددة، وكأنّ السيد لا أحد قد ملّ وجهَهُ؛ وجهُه الذي به تُعرفُ هويتُه، فقرّر أن يخلعَهُ ويتلاشى في باقي الوجوه، تلك الوجوهُ التي كانت بالنسبة إليه لا شيء، لم تكُن تربطُه بأصحابها أية علاقة، فقد كانوا هم الجحيم ” الوحدةُ سيئة ومُخالطةُ الناس أسوأ،لم أكلّم أحداً منذُ أيام طويلة، بعتُ هاتفي، ليس لدي من أُكلّمُه أو يُكلّمني.عميّ مبارك هو الوحيدُ الذي امتدّ كلامي معهُ لأكثر من خمس دقائق طيلة عامٍ كامل”(ص7). فهل حقاً أنّ الآخرين هم الجحيم؟ أليس الآخرون دليلٌ ساطعٌ على وجودنا؟هل كان اختفاء السيد لا أحد سيُشكّل حدَثاً لولا جثّة الشيخ سليمان بن نوي؟ وهل كان الآخرون سينظُرون وجوهَهُم في المرآة ذاتها لولا اختفاء السيد لا أحد؟                                                             ذكّرتني أحداثُ الروايةُ ورمزيتها بالأسئلة الوجودية التي طرحها الشاعر اللبناني إيليّا أبو ماضي في نصّه ” الحجرُ الصغير ” ، فلا صغير في هذا الكون، أو لا كبير إلا بصغير..

    يُفجّر النصّ إذن، الكثير من الأسئلة المتعلقة بالوجود والعدم، بالذات في علاقتها بالآخر.فإذا كان المعنيُّ هنا ” سيّداً ” فإنه يملكُ هوية، كيف يكون إذن ” لا أحداً ” !!                      ومن جهة ثانية، إذا كان لا أحداً من الأساس، كيف يختفي !! إذ الاختفاء يسبقه حتما تجلّي..إنّ “اللا أحد ” في منظوري هو فِعلُ الإخفاء الطوعي أو القسري للذات رمزاً وليس واقعاً وحقيقةً؛ إذ يحدُث أن لا نشعُر بذاتنا وبوجودنا، بقيمتنا الوجودية، غير أنه وبمجرد اختفائنا تتشكّلُ أزمةُ هويةٍ لدى الآخرين فلا يعودون يعرفون ذواتهُم، هنا تتحدّدُ ملامحُ هويتنا، في هذه اللحظة الهاربة بالذات نُراجع قناعاتنا بأن الآخرين ليسوا دائما الجحيم، كما لا يعني حتماً أنهم النعيم..فالمسألةُ أشبهُ بلعبة الشطرنج، كلّ الأحجار على رٌقعتها ذات قيمة وإن تباينت بين الأسود والأبيض، والفاعل والمفعول به، لا خاسر ولا رابح إلا بوجودها مُجتمعةً وفي تشابُك علاقاتها.

    في ختام هذه القراءة الانطباعية الأولى لنص رواية “اختفاء السيد لا أحد “، يُمكنني أن أقول أنه نصٌّ مختلف؛ فمن التحديات الصعبة التي يُواجهها أيّ كاتب، سيما كاتب الرواية، أن لا يُعيد تكرار ذاته، واستنساخ طُرقه وأدواته، واجترار تيماته، وهو التحدي الذي عجز عن مواجهته حتى أسطع كُتاب الرواية نجماً..وبناء على ذلك جاء نصّ هذه الرواية مختلفا عن مجمل التراكُم الروائي الذي حققه لحد الآن أحمد طيباوي، وقد كان من الصعب الانتقال بسلاسةٍ من رواية الصوت الواحد(المونوفوني) إلى رواية تعدد الأصوات (البوليفوني)  من نصّ إلى آخر، فكيف إذا تمّ هذا الانتقال في روايةٍ واحدة كان قسمها الأوّل محتفيا بخطّ سيري، وتفجر من تلك السيرة أكثر من سيرة في القسم الثاني، أبطالها من المنبوذين والمسحوقين والمحرومين والهامش عموما؛  فكان العقيمُ، والأبترُ، والعاجزُ جنسيا، والشاذّ، والمنافقُ، واليائسُ، والوصولي،…

     لا أنكُر أنّ رواية ” موتٌ ناعم ” الرواية البِكر (على مستوى النشر) لأحمد طيباوي قد أسرَتني لسنوات بنعومةِ لُغتها، وعوالمها المؤنثة، مما جعلها الأنموذج المثالي الذي أقيس عليه في كل مرة ما يصدر له من نصوص روائية، ولعلني ظلمتُ تلك النصوص اللاحقة بإعادتها في كلّ مرة إلى المرجع الإبداعي المكتمل في نظري، ذاك الذي لم أتمكن من الفكاك من غوايته..غير أن هذا النصّ ” اختفاء السيد لا أحد” قد ناورَ ليفرض نفسه على ذائقتي، بطُرقٍ مُغايرة، وأساليب مختلفة كانت السُخريةُ أبرزها، ولغة صدامية نكثَتْ عهدها مع كلّ نعومة، وأصبح من الصعب معها مُقارنته بالأنموذج الأول وقد راهنَ صاحبُه على تجاوز ذاته أو الاختفاء ثمّ التجلّي في وجهٍ آخر..ولنا عودةٌ أخرى مع هذا النص

…………..

*جامعة قسنطينة- الجزائر

مقالات من نفس القسم