التاريخي وتوظيف الفانتاستيك .. في رواية “الموريسكي الأخير” لصبحي موسى

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عرفت صبحي موسى شاعرا متميزا منذ قرأت بعض قصائده المتفرقة التي شرع في نشرها بمجلات وصحف مصرية بدءا من تسعينات القرن الماضي وما تلاها، لكني لم أعرف كتابته الروائية إلا بعد الاطلاع على روايته التي بين يدي، والتي ستكون محور هذه القراءة، فاكتشفت صوتا روائيا مصريا يستحق الالتفات إليه. ومن خلال ما ورد في آخر الكتاب من معلومات عن الكاتب تبين لي أن الرجل نشر أعمالا روائية سابقة، وهي: صمت الكهنة، وحمامة بيضاء، والمؤلف، وأساطير رجل الثلاثاء، وأخيرا وليس آخر "الموريسكي الأخير". ونظرا إلى أنني لم أطلع على ما سبق هذه الرواية من أعمال سردية أبدعها صبحي موسى، فإن القراءة ستركز على رواية "الموريسكي الأخير". فكيف وظف صبحي موسى المعطيات والوقائع التاريخية في تشكيل متخيله الروائي؟ وكيف أسهم البعد الفانتاستيكي في بناء هذا المتخيل؟ وما الأبعاد الرمزية والدلالية لتوظيف لمحات من تاريخ سقوط الأندلس في تشكيل متخيل فانتاستيكي يسائل الواقع المعاصر ويحلله سرديا؟

من هذه الأسئلة سيكون منطلقنا إلى مقاربة هذه الرواية الصادرة حديثا.

تتشكل الرواية، في بناء متخيلها السردي وتأثيث عوالمها الحكائية، من متواليتين سرديتين (أو حكايتين)، تتجاوران عبر فصول الكتاب الإثنين والأربعين، وهما:

-حكاية مراد القاهري سليل أسرة موريسكية عريقة استوطنت المحروسة، بعد شتات الأندلسيين وسقوط غرناطة، هي أسرة ابن جهور، وهو شاب معاصر يعايش تحولات مصر الأخيرة، و”ثورتها الجديدة”.

-وحكاية الجد القديم محمد بن عبد الله بن جهور الذي عايش ثورة البشرات قرب غرناطة، واستماتة الموريسكيين في الحفاظ على أرضهم وبقاء حضارتهم، وخيبة أملهم وتشردهم في البلاد.

وعبر هاتين الحكايتين المركزيتين تحضر حكايا شخصيات أخرى تتفاعل سرديا، مع مراد (الموريسكي الأخير)، أو لها صلة بحكايته؛ أو تتفاعل مع الجد محمد بن عبد الله بن جهور (الموريسكي الأخير في زمنه ذاك)، أو لها صلة بحكايته، أيضا. ومن خلال سيرورة الأحداث والوقائع وصيرورتها، وعبر تحولاتها السردية وأثرها في الشخصيات الروائية نتبين أن الرواية تحكي عن الصراع من أجل البقاء ومحاولة إعادة بناء الحضارة، واسترجاع الأمجاد الضائعة: حضارة الأندلس أو حضارة مصر المعاصرة.

وإذا كان البناء الحكائي والتشكيل السردي يشيان بهذه الدلالة العامة، فكيف شغل السارد الفانتاستيك لتوليد هذه الأبعاد الدلالية وبناء متخيل الرواية؟ وما الأبعاد الرمزية التي تنبثق من توظيف المتخيل التاريخي في سياق فانتاستيكي؟

مما لا شك فيه أن الرواية باعتبارها فنا أدبيا خالصا وجنسا أدبيا منفتحا لا يمكن عدها تاريخا، ومن ثم، فإنها على الرغم من توسلها بالمعطيات التاريخية قديمها وحديثها، إلا أنها تشكل عالما متخيلا يمكن من خلاله فهم ما جرى أو الحدس به من خلال الوقائع والأحداث المتخيلة. ولعل هذه المسلمة النقدية تجعلنا نقرأ رواية “الموريسكي الأخير”، ونحن ندرك أن كتابة تاريخ الموريسكيين في هذا النص السردي، ينبني على متخيل منفتح وتشكيل سردي فانتاستيكي بدرجة أساس.

في حكاية مراد، وأبيه، وجده، وجدته، وصولا إلى جده الأول الذي هاجر من تونس نحو المحروسة، وأقام بها نجد البعد الفانتاستيكي يرتبط بحضور “روح” الجد الأول: عبد الله بن جهور، أو شبحه الذي يوجه خطى النسل من الأحفاد، تماما كما نجد في حكاية محمد بن عبد الله بن جهور. ولعل هذا الحضور للعين الراعية أو الساهرة، من المكونات الأساس في توجيه دفة السرد وتأثيث العوالم الحكائية في الرواية. ولقد كان لتدخل الجد الأول: الغائب/الحاضر دور في جعل اليومي المرتبط بحياة الشخصيات يتحول إلى مقدس أو شبه مقدس، إذ إن تدخل العين الراعية/الساهرة تسهم في تسليط العقاب على المتمردين عن توجيهاتها وإشاراتها، وتجازي من يلتزم بالوصايا وينفذ رغبات “الروح” الراعية للجماعة، الساهرة على استمرار وجودها. وإن هذا البعد الفانتاستيكي يرتقي بالشخصية الحاضرة/الغائبة إلى مستوى آلهة الأولمب ويمنحها نفسا ملحميا وأسطوريا واضحا. ولعل الفانتاستيك، في اتصاله، بالغرائبي واللامتوقع وغير المعقول يجد له نسبا جذريا في الملاحم والأساطير. ومن هنا تصبح شخصية عبد الله بن جهور التي قُتلت في ثورة البشرات ضد الملك فليبي شخصية خالدة تؤدي دورا فعالا في سيرورة الأحداث وتطورها سواء في حكاية ولدها محمد أو في حكاية الحفيد الأبعد مراد. وتحضر هذه الشخصية، أحيانا، بالفعل من خلال تجسدها في شكلها وهيئتها التي عرفت بها، وتحضر، أحيانا أخرى، عبر الحلم أو أحلام اليقظة. وحضورها في الحالين يسهم في بناء الأحداث وحركة الشخصيات وتفاعلها مع ما يجري حولها.

يقول السارد، على سبيل المثال، في لحظة دالة من لحظات حكاية مراد، وهو يعيش تحولات المجتمع المصري الحديث، وتبعات ما أطلق عليه “ثورة حديثة”:

“.. كانت ناريمان شبه مختفية في هذه الأيام، وكثيرا ما أغلقت هاتفها أو امتنعت عن الكلام، بينما مراد يشعر أن العالم من حوله على جمرة من نار، ولا يعلم ما الذي خبأته الأقدار في الكواليس، كان خوفه يتعالى كل لحظة من أن تصبح القاهرة مدينة للأشباح التي تلتصق بالأعناق ولا تتركها قبل أن تتحول إلى كائنات خرافية لا تعرف غير النزوع إلى الموت، وكان رجل الأمن الحاصل على دكتوراه في التاريخ الإسباني مختفيا، ولا يُعرف له مكان بعدما ترك موقعه بدار الكتب، ومراد يبحث عمن يرشده إلى الصواب ويرفع عنه مخاوفه، ولم يكن هناك سوى الطبيب المختفي في عيادته، فأسلم نفسه للسير وسط المتظاهرين حتى وصل إلى باب اللوق، وعلى نقيض ما توقع وجد العيادة تعج بمرضى ينتظرون الدخول، كان أغلبهم صامتا وعلى وجهه ملامح ذهول أو جنون، شعر مراد أنه يختنق وليس باستطاعته ترك الثورة في الشارع من أجل انتظار صديقه الغارق في عمله، فأبلغ مساعدته أنه سينتظره على مقهى إستراند.

كانت المناضد مكتملة العدد، وجميعها مشتعل بجدل يصل إلى حد الشجار، حتى الذين حاولوا أن يبدوا غير مهتمين بالأمر كانت قطع النرد تخرج من أيديهم كما لو أنها تبادل لإطلاق النار، بحث بنظره في المكان عن مقعد شاغر فلم يجد، وكاد يستدير عائدا للشارع لولا أنه لمح رجلين نهضا لدفع الحساب والخروج، كانت المنضدة التي تركاها في عمق المقهى فقطع المسافة إليها في لمح البصر، مناديا على النادل كي يُحضر له شايا وشيشة، حين جاءه الأخير بما طلبه، انتبه مراد إلى ملامحه المحفورة وأسنانه البارزة، فارتعد من فكرة أن يكون التحول قد بدأ في الناس، وأسلم نفسه لزخات متوالية من الدخان المتصاعد في فضاء ملبد بالضجيج، كان الجدل دائرا حول ماهية الرئيس، البعض يراه مجنونا وآخرون يرونه المهدي الذي سيملأ الأرض عدلا، ظل مراد منصتا للنقاش الدائر على المنضدة المواجهة له دون أن ينتبه للرجل الذي جلس معه على منضدته، كان في السبعين من عمره، طويلا إلى حد ما، بدا كما لو أنه غريب عن المكان وجاء في مهمة محددة، حين استدار نحوه وجده يبتسم قائلا:”لم كل هذا الحزن يا بني؟”، للحظة لم يعرف بم يرد عليه، فملامحه مألوفة وصوته الدافئ يرن في أذنه، فأجابه بسؤال:”من تكون؟”، وابتسم العجوز:”يمكنك أن تعتبرني جدك، فأخبرني عن سبب حزنك”، تحير مراد في الرد مستسلما للهدوء الذي تسرب إلى أعضائه وذهنه…”(ص.236-237) 

         يطلعنا هذا المقطع السردي الطويل-الذي تعمدنا إيراده كاملا- على حال مراد وهو يعايش وقائع مصر الأخيرة: المظاهرات في الشوارع، والاحتجاج المستمر، والموت المرتبط بهما. ويكشف أكثر عن نفسية مراد المهتزة، وهو يعيش وسط دوامة الأحداث السياسية (الثورة) التي تعصف ببلده. وقد كشف خوفه عن حالة كابوسية تنتاب فكره، وتتسلل إلى واقعه، بحيث يرى المجتمع وقد صار أشباحا تلتصق بالأعناق لتمتص دماء الناس، ولا تلتذ سوى برائحة الموت. وقد تجسد رعبه بشكل جلي حينما نظر إلى نادل مقهى إستراند بأسنانه البارزة وملامح وجهه المحفورة، ظانا أن التحول المتخيل للناس قد صار فعلا وواقعا. ويطلعنا المقطع عن حضور شبح الجد (عبد الله بن جهور) فعلا، ليقف إلى جانب حفيده مراد، وليطرد عنه أشباح الحزن، ويزرع في ذهنه وجسده الهدوء والطمأنينة.

وبهذه الكيفية يستدعي السارد شخصية/شبح الجد الأسطوري لتؤدي دور الحافظ والراعي للموريسكي الأخير حتى يقوم بدور فعال في بلده (مصر)، وحتى يكون حامي زمرة الموريسكيين المتبقية من نسل الجد، ويضطلع بمهمة حل مشاكلها، ويذوب صراعاتها، وحتى يحل محل الجدة التي سيكتشف أنها كانت عمدة الأحفاد/الموريسكيين، وضامنة وحدتهم واستمرار وجودهم. وبهذه الشاكلة تحضر شخصية الجد الخالدة لتكون قوة فاعلة في أحداث الرواية، وشخصية دالة على استمرار التاريخي في صلب الواقع الحاضر، عبر فعله، إن بشكل خفي أو ظاهر، فيما يحدث.  

وهكذا نجد البعد الفانتاستيكي حاضرا، وبقوة، في تشكيل أحداث هذا المقطع التصويري من الرواية، وهو بعد يتمكن السارد بوساطته من الغور في أعماق شخصياته المحورية في النص، والكشف عن حالاتها الوجدانية والذهنية، ويجسد من خلاله رؤيتها لما يجري حولها في المجتمع والحياة.

وانطلاقا مما سبق ندرك أن تشكيل المتخيل الروائي في “الموريسكي الأخير” نسج خيوطه عبر الجمع بين التاريخ والفانتاستيك، موظفا بعض الشخصيات التاريخية في أفق سردي جديد يستند إلى لعبة الغرابة لبناء الدلالة، وربط الراهن بالماضي وتأويله في ضوئه. ولقد تمكنت الرواية من تحقيق متعة كبيرة لمتلقي النص، وجذبته من خلال متخيلها السردي الفاتن. وما هذه القراءة الخفيفة في هذه الرواية الطريفة سوى إلماعة إلى جانب من جوانب بنائها الفني، وتشكيلها الجمالي المتميز. وأكيد أن القارئ سيجد مداخل أخرى لفهمها ومعرفة أبعادها الدلالية والرمزية.

……………

*صبحي موسى، الموريسكي الأخير، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 2015

مقالات من نفس القسم