البنية والتوليد الدلالي في «أبناء الجبلاوي» لإبراهيم فرغلي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 50
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يمكن توصيف حالة السرد الاستثنائية الموجودة في رواية «أبناء الجبلاوي» لـ(إبراهيم فرغلي) بأنها وعي فلسفي مسكون بروح الكتابة المحفوظية يحلل واقع معقد، يتجاوز مرحلة مجتمع الحارة المصرية والحرافيش، إلى أفق العولمة وتبعات الحداثة وما بعدها في المجتمع المصري، واستخدم الكاتب إمكانيات التوليد الدلالي عبر الرمز والبنية فضلا عن طاقات الإيحاء، يجعل من قارئه أمام رواية متعددة المستويات يتنقل فيها بوعيه بين متتاليات سردية، تحتاج لجهد قرائي بمعناه الوارد في نظريات القراءة والتلقي حتى يتمكن من الاستمتاع الجمالي بطريقة ايصال الرسالة المشفرة.

العنونة:

عندما نتأمل لكيفية فهم القارئ لمعنى تسمية العنونة: «أبناء الجبلاوي»، في ظل وجود صورة نجيب محفوظ على الغلاف، وبمحاولة فهم الدلالة التي تشير مباشرة إلى تلك الشخصية الشهيرة في عالم نجيب محفوظ في أولاد حارتنا، فإننا سنجد أنفسنا أمام عدة مستويات من التوليد الدلالي: هل الرواية عن أبناء الجبلاوي، أي عن مجموعة من الأفراد المتولدين من نسله في أطار روائي، أقصد في إطار محاولة اكمال ما لم يكمله محفوظ في أولاد حارتنا، أي محاولة نسج أحداث تمتد على خلفية أحداث «أولاد حارتنا»؟ ومن ثم هي رواية افتراضية تكمل رواية سابقة على مستوى نفس السيرة أو الحكي التاريخي؟ أم هي رواية تستخدم معنى أعم من معنى الشخصية الروائية في داخل نص روائي ليصبح من الممكن تعميم أبناء الجبلاوي على مجمل المصريين، ومن ثم هي رواية تستكمل الخط التاريخي للحالة المصرية في مرحلة تاريخية لاحقة لمرحلة «اولاد حارتنا»، رغم أن «أولاد حارتنا» تتفلت من الأسر الزمني إلا أنها يمكن موقعتها في نطاق الحارة المصرية بقيمها التي تخلخلت كثيرا مع مجريات الألفية الثالثة!

أم أن «أبناء الجبلاوي» هم مجموعة الكتاب والقراء الذين يقدرون الكتابة المحفوظية، ويظهر تأثير قراءتهم لها واضحا سواء في كتاباتهم أو في تأويلهم لقراءات أخرى؟ ترى هل يمكن القول بأن النص المحفوظي هو نص معياري في ظل دخوله بامتياز دائرة «السرد الموثوق»؛ مما يضع كل كاتب شاء أو أبى في ذهنه وخلفيته مقارنة ما بين هذا النص الأصلي ونصه المتولد عن موروثات ثقافية متعددة؟ كل هذه الأسئلة تفتح عنونة الرواية الباب لطرحها؛ دون الامساك أبدا بإجابة محددة واضحة دون غيرها، لكن احتمالات، وايحاءات طرح هذه الأسئلة، تولد طاقات من الآفاق الدلالية.

بنية الرواية:

بنية الرواية هرمية – دائرية في الوقت نفسه، هرمية في تكونها من أربعة أجزاء، كل جزء يبني أحداثه على وجود الجزء السابق له، ولا يمكن فهم معنى كل جزء من الأجزاء التالية بدون الأجزاء السابقة، أو تحديدا لا يمكن فهمه بالطريقة التي أراد المؤلف أن يوصل رسالته بها، ففي الجزء الأول، نحن إزاء قصة عن شخصية محورية هي «كبرياء»، يتعلق عاطفيا – شهوانيا بـ«نجوى»، ترواده مساء هلاوس عن سمع صوت شبقها من أحد البنيات القريبة، و«كبرياء» لقيط، ماتت أمه التي تبنته في دار مسنين، يرتبط بأفضتا الاستاذ «رفيق» الذي يكتب له مذكراته، وفي ثنايا هذا الحكي تختفي كل أعمال (نجيب محفوظ)، ويتم تداول بعض الأخبار عن ظهور شخصياته حية بين الناس، وتنتقل «نجوى» للعيش معه بدون زواج، فتموت أمها وتدخل دائرة تعذيب الضمير وتحمل بابن غير شرعي وتنتحر.

ما إن ينته الجزء الأول ويبدأ الجزء الثاني، لنتعرف على شخصية أخرى هي شخصية «كاتب الكاشف»، وهي التي قامت بتأليف ما سبق وفق المنطق الداخلي للسرد الروائي، يقول الراوي في مطلعه: «يبدو أنني فقدت سطوتي، نعم. أصبحت مثل خيال مآته، أتعكز على خشب رخيص لأخيف طيورا افتراضية لا تخشاني من الأساس. هكذا أصبحت منذ قرر الشخص الذي أقترن به التوقف عن الكتابة. لست قرينا كما قد يبدو من كلامي، لكنني “شيطان كتابة” إذا شئتم.»صـ79، وفي اعتقادي أن هذا الجزء الخاص بتلاعبات الراوي، والذي يناقش ويحلل سلطة السرد، هو من أكثر الأجزاء التي تعطي للرواية عمقها، والتي تجعل منها تتخذ منحى ما بعد حداثي، يوازن ما بين رؤية تحلل السلطة في الواقع، ومن خلال الشكل الروائي تعكس ذلك ابداعيا، ليس عبر الأحداث والشخصيات، مثلما شاهدنا في تعليقات الجزء الأول حول تعامل الحكومة مع مشكلة خيالية هي اختفاء كامل مؤلفات محفوظ وتمثاله من مصر، وإنما أيضا عبر مناقشة منطق السرد ذاته.

لقد استعان المؤلف بموروث ثقافي متمثل في شيطان الشعر، وفكرة القرين، وفكرة أن ما يحدث في الحياة قد يكون أحيانا فوق دائرة التفسير عبر أسباب طوباوية لا نعرف لها تأكيدا حقيقيا من عدمه، كل تلك الأمور تلاعب بها المؤلف على مدى أقسام روايته.

يبدأ القسم الثالث بهذا التصدير: «قرر كاتب الكاشف إضافة فصل كامل عن شخصية رفيق فهمي، العجوز الشهواني المقيم بدار المسنين، المفارقة أساسية، ومحورية حول علاقة هذا الرجل بكبرياء، الذي لم يعرف ألبته سبب ارتباطه الوثيق بهذا الرجل، وهكذا شرع كاتب الكاشف في كتابة النص أو بالأحرى، استكمال كتابته مختلقا صوتا جديدا لقرين رفيق فهمي، وحاول أن يجعله مختلفا قليلا عن أصوات السرد التي بدأ بها فصول روايته الأولى.»صـ239

هذا الخطاب المباشر للقارئ فيما يخص تقنيات تأليف الرواية يجعلنا نسأل سؤال: من الراوي الحقيقي الذي يروي هنا؟

الراوي ليس شخص يروي بقدر ما هو حالة، حالة تلبست مجمل السرد وتقلبت عبر عدة أصوات، الطريف أنها ليست اصوات داخل الرواية وإنما أصوات سردية، وكأن الأنا الثانية للكاتب التي ترفض أن تظهر مرة واحدة متخذة من شخصية ما معبرا أساسيا لها، فكشفت عن نفسها مرات عدة بطرق متدرجة، يصل أقصى مرحلة منها مع الجزء الرابع، الذي حمل عنوانا خاصا به: «حكاية بلا بداية ولا نهاية»، والتي فيها يتم طرح اشكالية أن يكون ما يتم كتابته حقيقي، أو أن مفارقة ما يتم كتابته في عالم الروايات بعامة هو بالفعل حقيقي بشكل أو بآخر، ففي فضاء النص الروائي هنا، إذا بالمؤلف «كاتب الكاشف»، يتفاجأ بوجود شخصية حقيقية في أرض الواقع بنفس الاسم والمواصفات والصيغ، هي شخصية «نجوى»، وفي منعطف خطير، يدخل هذا المؤلف في علاقة مع بطلة روايته، ويضاجعها في علاقة شبيهة بعلاقة «كبرياء» معها، وتختم الرواية بشكل دائري بالعودة للمقطع الأول، وهو مقطع حيرة «كبرياء» حول صوت الشبق الذي يسمعه ويشبه صوت صديقته «نجوى»، ولا يعرف مصدره، ومفارقة هذا المقطع أنه يمثل خيانة من «كاتب الكاشف» لـ«كبرياء»، بقيامه بعلاقة مع محبوبته، أو المرأة التي يشتهيها.

الايحاد الدلالي:

لقد وضع المؤلف عنوانا جانبيا بعنوان: «سيرة رواية»، وفعليا لو دققت في هذا البناء ستجد أنه حبكة عن تأليف نص روائي تم تقديم بعضه مبتسرا في الجزء الأول، ثم اعادة النسج من حوله، للتطرق لكاتبه، ولمؤلفه، ثم عمل التلاحم بين المؤلف للنص، وشخوصه التي اتضح أنها حقيقية، ثم تُختتم الرواية بدائرية التواصل بين المؤلف الداخلي للقسم الأول من النص، وبين البطل الموجود في النص الأول/ في الحياة، وهذا الهتك بين العالمين المتداخلين – عالم التأليف /عالم الحقيقة، تم عبر «نجوى»، فضلا عن تداخلات قرناء الجان بين هوى وانجذاب الشخصيات لبعضها البعض؛ ماذا تمثل إذن حالة استحضار الشخصيات المحفوظية، وفنتازيا اختفاء كتب (نجيب محفوظ)؟

ما الفارق بين اختفاء كتب (نجيب محفوظ)، وعدم الاحتفاء به الاحتفاء الكافي، أو خلو النفوس من أثر مؤلفاته، ما القيمة من بقاء ما يكتبه محبوسا داخل ثنايا الكتب، هل استطاعت المؤسسات والأفراد وحتى المثقفين اعطاء ما يستحقه مؤلفات وكتابات (محفوظ) قدرها الواجب في ظل ما يمثله من قيمة عربية وعالمية؟

من ناحية أخرى، هل يدرك كل كاتب لأي رواية مقدار ما عليه من جهد باعتباره امتداد لثقل ثقافي به قامة مثل (نجيب محفوظ)، وإذا ما تم اضافة قامات أخرى من تاريخنا الروائي والثقافي، فإن أي ابن من أبناء الكتابة – ابن من ابناء الجبلاوي – في الحقيقة يقف على كتف قامات عظيمة، وعليه أن يقدم سردا متناسبا بقدر هذه القامات.

لقد كانت رؤية الكاتب الفلسفية، وتحليله للأمور وللوقائع واستبطانه ذات المجتمع المصري، رغم قلة عدد الشخصيات التي تناولها – أقصد الشخصيات الروائية محذوفا منها الشخصيات المحفوظية، كانت مؤشرا أننا أمام حالة لها تمايزها من حالات السرد، حالة تكتسب مكانها – في اعتقادي – ضمن دائرة السرد الرائع والجميل والذي يحتاج ويحفز قارئه على القراءة المتعددة مرات ومرات، ولا أزعم أن رؤيتي في هذه القراءة هي التأويل الوحيد الممكن، بل يمكن استخراج العديد من الرؤى والتعقيبات، فقط هذه هي رؤيتي كقارئ للأدب تلاقى مع هذا النص في إطار مخزون ثقافي يعتز بوجود (نجيب محفوظ) في ثقافتنا العربية، ليبقى النص مفتوحا لكافة احتمالات القراءة والتوليد الدلالي.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم