البحر

الخرافة الواعية والبحث عن المدينة الفاضلة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

البحر كان وحيدًا.

لم تكن بلاد ولا شواطئ، لا بيوت، لا بشر، ولا قوارب، وحده البحر يسكن الدنيا وتؤلمه وحدته، يسافر طوال الليل والنهار، يبحث فى كل مكان ولحظة منهما عن شاطئ يحضنه، شجرة يرتاح فى ظلها، جبل يتسلقه، أحصنة تسافر معه، يبحث عن قصة حب أو ألم، عن إنسان يبادله إحساسًا أو حكاية، ويترك فى كل الأماكن واللحظات التى يمر بها شيئًا منه، ربما يكون أغنية، رسالة، دفقة ملح، أو أى شىء سيكون معروفًا بعد سنوات طويلة أنه يخص البحر، الذى كان يتأكد من أن ما سيتركه سيظل موجودًا، ربما يتلقى ردًا فى أى وقت من أى أحد، لذا وفيما بعد سيكون البحر موجودًا بشكل ما طوال الوقت فى كل أماكن الحياة. 

    كان البحر يتخيّل شواطئ وأشجارًا، يسمع من بعيد أصوات غناء وطبول فيسرع إليها، وعندما يصل لا يجد أى شىء، فيحصل على نوبات من الغضب والجنون يصل بها للسحاب، يتعارك معه ويخطف الشمس ليقتلها فى حضنه، حتى صارت نوبات الغضب والجنون عادة يمارسها البحر من وقت لآخر.

أحيانًا كان يتوقف فجأة وينصت لناى يناديه، فيجمع أمواجه ومتعلقاته الشخصية ويغلق الباب خلفه بشكل لا يستطيع معه العودة، ويتبع الصوت، وكلما اقترب قليلا ابتعد الناى نفس المسافة.. لم يكن البحر يفكر فى الأمر على أنه خدعة، فيواصل سفره لشهور، وفى النهاية لا يجد نايًا ولا غناء، فيمزق ملابسه ويطارد أمواجه، التى تجرى وتهرب منه فى كل مكان بالدنيا، يرمى أشياءه عاليًا، وتظل معلقة فى الهواء ليال كثيرة تنتظر أن يهدأ، لكن غضبه وحزنه يستمران طويلا، فتسقط إليه متعَبَة، بينما يفكر فى نفسه كمخلوق وحيد معذب يوشك على الجنون.

كان يرحل لأماكن مجهولة يبكى فيها، وينادى كل الأشياء التى يحلم بها، وبعد أن يفقد صوته                                    وينهكه البكاء، يستلقى على ظهره فى انتظار أن يأتيه أحد.. أى أحد ليشاركه حياته.   

توقف عن الغناء والرقص بعدما كره أن يفعل هذا وحيدًا طوال الوقت، كان يريد أن يسمع صوتًا غير صوته ويشم غير رائحته، وأن يفاجئه أحد ما برقصة لم تخطر على باله، امتنع عن أى طعام أو شراب احتجاجًا على وحدته، والسماء التى ملّ النظر إليها، حتى تغيّر ريقه وصار مالحًا، ولم يعد يسمح للهواء بأن يدخل جسده.. كان يحترق بألمه فيتبخر للسماء كل نهار، إلا أنها كانت تعيد له الماء ماءين كل ليلة، حتى ظهرت أول جزيرة فى حياته، توقف عندها وتأملها قليلا، دار حولها مرتين، وبسرعة لم يقتنع بها، واعتبر الأمر كله خدعة، فابتلعها، وصار يبتلع أية جزيرة يصادفها.. البحر المُحب للحياة كان يفكر فى أرض بحجم السماء، أغنيات لا تنتهى، بشر يعيشون معه، غابات، شواطئ، وقصص حب بعدد أمواجه، هو يرى كل هذا فى أحلامه.. لن يرضى بأقل من هذه الحياة، وبغير هذه المتعة.

 أول بشر صادفهم فى حياته كانوا أطفالا عراة على شاطئ ملوّن، يبنون مدينة من الرمال، سمع ضحكاتهم بوضوح ورأى أيديهم الجميلة تبنى مدينة الألوان، هذا ما رآه وسمعه حتى إن قلبه دق بعنف أفزع الكائنات التى تسكنه، وجعل الجزر التى ابتلعها تطفو على سطحه، اندفع البحر للأطفال بفرحة فهدم مدينتهم الصغيرة، واختفوا هم فجأة، فاختلط الأمر عليه: هل كنت أحلم أم أن جنونى ازداد قسوة علىّ؟ ومنذ تلك اللحظة ولسنوات طويلة عاش البحر دون أن يرى أية بيوت أو أطفال أو أى شىء على مدى بصره وأحلامه، تألم كثيرًا بوحدته التى يراها فى نومه، حتى عاودته أحلامه الجميلة، لكنه عندما يستيقظ بلهفة ويتلفت حوله ولا يجد غير ماء بلا نهاية،  يفكر بأنه ربما هدم كل شىء أثناء استيقاظه المفاجئ.

البحر كان بلا اسم.

حتى ظهرت أول قصة حب فى حياته، عندما رآها أمسك بقلبه كى لا يفلت منه، تماسك حتى لا يندفع إليها فيهدمها أو تختفى فجأة، انتظرها وهو يتمنى أن تكون حقيقية.. كانت شابة حافية لم تمشّط شعرها مرة فى حياتها، لم تفاجأ بالبحر وكأنها تعرفه أو تبحث عنه، أدرك هذا عندما نظر فى عينيها، سكن تمامًا وانتظرها، اقتربت ونظرت إليه، فأحس بعينيها فى قلبه ونبتت فيه جزر المرجان، مد يده يلمس قدميها ليتأكد أنها حقيقية، فاختفى منه لون الحزن وتلوّن بلون السماء الأزرق الصافى لأول مرة وكان يرفضه قبل ذلك، أو ربما وافق أن يعكس لونه الأزرق الصافى على السماء وكان يرفض قبل ذلك، انحنت الشابة وتذوقته لتتأكد أنه قصة حبها، فاستيقظت فيه الحوريات الناعسات منذ مئات السنين، نطقت اسمه بما يشبه الإلهام:”بحر”، فأدرك لحظتها أنه “البحر”، لم يسألها عن أى شىء، وتبعها للعالم، مشى خلفها سنوات وهو يداعبها بهواء رقيق، يغنى لها أغنيات حب قديمة ويخترع أغنيات جديدة، ويقدّم لها الشمس مرتين فى اليوم وهى فى أجمل حالاتها، ومنذ ذلك الوقت تغيّرت العلاقة بين البحر والشمس، واعتادت أن تحضنه مرتين فى اليوم، فتخرج منه للحياة وتهبط إليه حيث حياة أخرى فى اثنين من أجمل مناظر العالم، وهذا ما أسمته حبيبة البحر الأولى: “الشروق” و”الغروب”.

لا أحد يعرف إن كانت الشابة قد عرّفت البحر على العالم، أم أن العالم بدأ يتكون بعد أن أحبها البحر، أجمل ما حدث أنه وجد ما كان يراه فى أحلامه: بشر، بيوت، شواطئ، أرض بحجم السماء، غابات، جبال، أغنيات، وحكايات.

انطلق البحر يشرب الحياة، اكتشف مع البشر رقصات وأغنيات جديدة، وبسرعة أدركوا أنه فقير مثلهم فكانوا يرمون له أشياءهم البسيطة، وبدأت السماء بعد أن أصبحا بلون واحد ترمى له بكنوزها معبأة فى صناديق أو مبعثرة كالمطر، حتى صار أغنى مخلوق فى العالم دون أن يدرى، فلم يكن مهتمًا بشىء غير أن يعيش الحياة، حتى ذاع اسمه بسبب نهمه لها، وصار أكثر شهرة من المحيط الذى اكتفى بما يشاع عنه من أنه أكبر من البحر، واكتفى النهر بحكمته وعذوبته، وظل البحر شابًا طموحًا لا يكتفى من الحياة والأحلام.

 لن يعرف أحد عدد قصص الحب التى عاشها البحر، فقد أحب كل ما فى الحياة، وكل جديد يصادفه فى العالم هو قصة جديدة، كانت قصة حبه الكبير أن يحب كل ما فى الحياة، لذا تحمّل وحده كل قصص الحب والألم، مثلما تحمّل فيما بعد قصص الحرب والغرقى والتائهين والمحرومين.

البحر كان شارعًا.

عاش سنوات طويلة بين البشر، يجرى ويتمشّى فى الشوارع، يدخل البيوت فى أى وقت، ويتفرّق فى شوارع كثيرة تبدو ضيقة عليه مهما كان اتساعها، فلا يستطيع أن ينطلق بحرية كما يحب، يتمزق لمئات البحار الصغيرة، ويسمع أمواجه التائهة تنادى بعضها البعض طوال الليل، حتى توصل لاتفاق مع البشر: “أن ينسحب بعيدًا عن البيوت والشوارع، بشرط ألا يعيش وحيدًا، وأن يحمل معه بعض البيوت لتؤنسه”، فصنع بنفسه قاربًا اختار له بعض الرجال، وجهّز لهم زيّا مميزًا، وطلب من حبيبته الأولى أن تطلق عليهم اسمًا، فأسمتهم: “بحّارة”، حملهم البحر وانطلق بهم، علّمهم الصيد وأغانى الصيادين، ومصاحبة الموج وقراءة النجوم وكلام الريح، وبدأ الصيادون يؤلفون أغانى ورقصات جديدة بأنفسهم، ويبتكرون طرقًا مختلفة للصيد، وأخذ الرجال من كل مكان يصنعون المزيد من القوارب ينطلقون بها للبحر، فيمنحهم كنوزه ويذهب بهم لأماكن مسحورة، ويقترب بهم من السماء والنجوم، وعندما يشتاقون إلى حبيباتهم يهديهم عرائس جميلات تجيد الرقص والغناء، وبدأ البحر يكتشف لنفسه شواطئ وقصصًا جديدة، وأعجبته فكرة الجزر الصغيرة، فكان يبتكر جزيرة من وقت لآخر، وكثيرًا ما كان يبتكر إحداهن بسرعة عندما يتوه البحارة، فيُهديها إليهم ويبتسم وهم يهللون ويشيرون لجزيرته التى ظهرت فجأة، كان يقطف الفاكهة من غابات بعيدة، ويحصد حقول قمح ليست لأحد ويهديها لفقراء يعرفهم، ومنذ رحلة الصيد الأولى لا يخلو البحر من البيوت والبشر فى أى وقت، كما توقف عن النوم حتى لا يفوته شىء من الحياة، وبدأت تظهر كلمات وأفكار جديدة لم تكن لتوجد فى العالم لولاه، مثل كلمة “عميق”، ورائحة مثل “اليود”، وطيور مثل “النورس”.

البحر كان ساذجًا.

لم يكن يُغرق أى أحد، ولم تكن كلمة “يَغرق” موجودة فى العالم حتى بدأت أول حرب عرفها البحر، فسمعها آلاف المرات فى أول ليلة من ليالى الحرب، كما تعرّف على مشاعر جديدة لم يحب الكثير منها، أهم ما حدث فى تلك الليلة أنه اكتشف علاقة جديدة بينه وبين البشر وهى “الغرق”، أيضًا تذوّق طعم الدم وانتفض منه، رأى جروحًا عميقة وأشياء لم يعرف أن اسمها “القسوة” إلا فى الليلة الثالثة للحرب، شم فى الهواء روائح داكنة لم يجرّبها قبل ذلك فى حياته، وارتبطت لديه فيما بعد بذكريات لم يحبها، حاول البحر أن يغيّر طعم الدم فى فمه ورائحة الهواء فى صدره فابتلع الكثير من الشواطئ والبلاد، لكنه بعد أن عاش حربًا ثانية أدرك أن عليه أن يقبل العالم بدمه.

    لن ينسى البحر الليلة الأولى للحرب، فقد غضب وارتبك بشدة، مما جعله يطغى على الشواطئ وينحسر عنها عدة مرات، وهو الذى لم يتراجع فى حياته عن أرض كسبها، ولم يفرّط فى قطعة من حياة، انحسر البحر لأول مرة فى هذه الليلة، لكنه كان كبيرًا بما لا يسمح له بالاختباء، وشجاعًا بما لا يسمح بالانسحاب من الحياة، ومنذ ذلك الوقت لازمته هذه العادة التى يمارسها من وقت لآخر: أن يطغى على الشواطئ لبعض الوقت ثم ينحسر عنها ويعود لهدوئه، وهو ما سُمى بعد قليل “بالمد والجزر”.. امرأة عجوز تعيش بقلبين هى من ابتكرت هذه التسمية.

كانت الأسماك سهلة الصيد، قريبة من قوارب الصيادين وشباكهم، ولم تعرف بعد حيل الهروب والتخفى، حتى حدثت أول معركة بين قارب صغير وآخر كبير بسبب سمكة كانت كافية لأن تملأ القارب الصغير فيعود لبيته مبكرًا، وحتى ذلك الوقت لم تجرؤ الأسماك على الغوص فى عمق البحر، فقد كانت تحتاج الهواء بكميات كبيرة.. بعد معركة القاربين لم يعرف أحد كيف استغنت الأسماك عن الهواء وصارت قادرة على الغوص والبقاء بعيدًا، بينما يعرف الجميع أن البحر هو من علّمها كيف تهرب من الصيادين وتفلت من شباكهم، وأنه من ذهب لشواطئ بعيدة واختار مجموعة من الرجال، ألبسهم ملابس مميزة، وصنع لهم قاربًا كبيرًا أسماه “سفينة”، وعلّمهم كيف يصطادون الصيادين، وجاء بحبيبته الألف فأطلقت عليهم اسم: “قراصنة”، ثم حملهم وانطلق، ومنذ ذلك اليوم صار فى البحر أسماك تصطاد أسماكًا أخرى، ورجال يصطادون رجالا آخرين.

بدأ البحر يجرّب أن يكون قاسيًا، مخيفًا، وشريرًا أحيانًا، لكنه لم يتوقف لحظة عن أن يكون محبًا ومحبوبًا، وأن يضيف للحياة ما يجعلها أكثر حياة، وأن يزداد حبه ونهمه لها كل يوم، لم يتوقف عن الاستماع لقصص الحب والألم، هو دائمًا فى انتظار شخص ما يحكى له قصة حبه أو ألمه، الأجمل من ذلك أنه مازال يحتفظ بالطعام للفقراء بلا مقابل، ولديه متسع لهم فى أى وقت.  

اعتاد البحر أن يترك أمواجه ومتعلقاته الشخصية، ويرحل وحيدًا لأماكن لا يعرفها أحد ليفكر ويحاول أن يفهم العالم والحياة، وبعد سنوات من الرحيل والتفكير والوحدة التى صار يفضلها أحيانًا، أدرك أنه لن يفهم العالم، ولن يفهم الحياة، لأنه لن يكون قد فهمها فعلا عندما يعتقد أنه فهمها، وعليه أن يختار بين أن يقضى عمره فى محاولة فهم الحياة، أو أن يعيشها.. اختار البحر أن يعيش الحياة.   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*قصة من مجموعة ” من مجموعة قبل أن يعرف البحر اسمه”

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون