الإلهام: لاعبون، عُمَّال مناجم، وغَرابة جميلة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

ربما يحب الواحد مِنّا أن يعتبر نفسه مُلَهَمًا، هكذا: يأتيه الإلهام، وفقط، وبهذا يكون مميزًا، لكنى أرى الأمر بطريقة أخرى، فالواحد مِنّا لا بد أن يبذل من روحه وأغلى ما فيه كى يحصل على الإلهام، هو فى الحقيقة يخلقه، وبهذا ربما يكون مميزًا.

جميلة هى تلك اللحظة، ويراها البعض بهذه الطريقة: يسقط عليك الإلهام من حيث لا تدرى، دون تَعَب، أو شيئًا تُقدِّمه، لكن، فعلاً؟ يسقط عليك؟ من حيث لا تدرى، ودون أن تُقدِّم شيئًا؟ هذا ليس إلهامًا، بهذا الشكل يبدو الإلهام مجانيًّا، غير مميَّز، حتى غير جدير بالاهتمام، وسؤال هنا، ماذا لو أن شخصًا لا يفعل أىّ شىء، هل يمكن أن يصل إلى أىّ شىء؟ لن يصل، ربما تأتيه بعض الأشياء، لأن العالم كما أفكر فيه كريم فى جوهره، لكن، لن يكون الإلهام من بينها، وأكثر من ذلك، الإلهام من بين الأشياء التى لن نحصل عليها إلا بالبذل، بحب، وبشكل متواصل، إصرار على البذل مهما تطلَّبَ الأمر، والإلهام مُتطلِّب جدًا، هذا لائق به، وبمن يحصلون عليه، الحقيقة أننا نُخلِّقُه من أنفسنا، بأجمل وأغلى ما فينا.

ما يستحق الفَرَح به هو ما ندفع لأجله من أرواحنا.

الإلهام، أحد أكثر الأشياء التى نتعمَّدها، لكن دون أن ندرك ذلك بشكل واضح، تُطعِمه من روحك، ماءك، دمك، أفكارك، أوهامك، أحلامك، عقلك، لحمك وعظامك، حزنك وفرحك، ليلك ونهارك، تُقدِّم هذا كله إلى مكان ما داخل نفسك، لا تعرفه، لكنك تعرفه، هناك حيث تعمل معًا كل هذه الأشياء، بجهد كبير متواصل، دون أن تشعر أنت، وبينما تكون منهمكًا بالتفكير فى شىء ما أو العمل عليه، يكون ذلك المكان العميق منهمكًا بالعمل والتفكير فيما سيظهر إلى السطح فجأة، ويراه بعضنا بتلك الطريقة، كما لو أنه سقط على رؤوسنا، أو تعثرنا به، وهو فى الحقيقة روح أرواحنا، عملنا المتفانى، لكن فقط له طريقته الخاصة فى التجلِّى، تلك الطريقة المُفرِحَة المُرْبِكة، والمُطَمْئنة.

كى يصل إلينا نور الشمس سهلاً صافيًا، فإن الشمس تبذل من نفْسِها طوال الوقت بتفانٍ وحب.

يبدو جهد العمل المبذول للحصول على الإلهام مثل عدد هائل من عُمَّال فى منجم، يعملون معًا بتناغم، دون انقطاع، يحفرون عميقًا، حيث الضجيج، الصخب، والاشتعال، لكن دون أن يظهر أىّ من هذا كله على السطح، لا أحد يسمعهم، أو يراهم، أو حتى يشعر بهم، حتى يصلون إلى تلك الماسَّة الفريدة، الصافية، ويُخرجونها للعالم، أيضًا دون أن يعرف أحد شيئًا عنهم، وهم فى الحقيقة روح هذه الماسة، لولا عملهم العظيم، غير المرئى، ما كان لها أن ترى الوجود، أو يراها.

الإلهام هو تلك الماسة، وعُمَّال المنجم هم أرواحنا، قلوبنا، عقولنا، وأجمل ما فينا.

هو مثل مجموعة من اللاعبين يلعبون لعبة جماعيَّة فى ملعب خفىّ بداخلنا، لا نشعر بهم إلا عندما يصلون إلى لحظة النشوة، فنسمع هتافهم وصراخهم المنتشى، وننتشى معهم، واللعب بالطبع يحتاج إلى مهارة طبيعية، وخططًا داخلية سريَّة.

يبدو ما يحدث أيضًا مثل عصا سحرية تلمس شيئًا بداخلنا، وتُغيِّر كل شىء، لكنَّ السحر يحتاج إلى بيئة خاصة، والكثير من الأعمال السريَّة غير المرئية، العصى ليست إلا شكلاً أدائيًا، وجماليًا.

الأمر فى جميع أحواله يعتمد على موهبة طبيعية، وعمل داخلى عظيم صامت، وغير مرئى.

ربما يقول كاتب، والكل يقولها فى وقت ما: “فلتأتِ الكتابة وقتما تأتى، لا يهم”، أو تكون الجملة أكثر حِدَّة: “تأتى أو لا تأتى، لا يهمِّنى”، أسأل هنا: هل الأمر كذلك فعلاً؟ تأتى أو لا تأتى، لا نبالى؟ فلماذا نحزن كل هذا الحزن عندما فقط تعاندنا الكتابة؟.

عندما نقول: “لتأتِ الكتابة وقتما تأتى”، ونبدو لا مُبالين، فإننا فى الحقيقة نتمنى وقتها أن عُمَّال المنجم بداخلنا يعملون، وأن اللاعبين يلعبون، وأن العصى السحرية تحاول بكل طاقتها لتُخرِج أفضل ما لديها، ربما نُلهى أنفسنا بأىّ شىء، هو فى الحقيقة لا شىء، وننتظر أن يُخرِج لنا عُمَّال المنجم تلك الماسة، ننتظر صيحة النشوة من اللاعبين، وظهور النجوم اللامعة عند طرف العصى السحرية، فتلك أيضًا طريقة لتخليق الإلهام، ألا نحاول مراقبته، هو لا يريد إزعاجًا وإلحاحًا، مثل شخص يحب العمل بمفرده، وسينجزه بهذه الطريقة، الفرديَّة، على أجمل وجه.

جوهر الإبداع أن تكون وحدك.

الكتابة لعبة فرديَّة.

الإلهام ليس فقط لحالات الأدب والفن والعلم، يمكن أن يكون فى كل شىء بالحياة، لمن يتفانى بقلبه وعقله وروحه وجسده، ويثق أن تلك اللحظة موجودة، وتستحق، تخيَّلْ شخصًا ينتظر الإلهام، دون أن يبذل شيئًا، فقط ينتظر، وشخصًا آخر يسعى لتخليقه من روحه ومشاعره وكل تفصيلة فى عالمه، أيهما يحصل عليه؟ مَنْ منهما يستحق، ومستعد؟.

أن تحصل على ما تستحق، هذا عدل، أن تستحق ما تحصل عليه، هذا جوهر العدالة.

ليس كل عمل أدبى أو فنى يُعتبر إلهامًا، ربما يُنجِز شخصٌ ما عِدَّة أعمالاً فنية أو أدبية، ولا يكون فيها أىّ شىء له علاقة بالإلهام، وربما هناك جملة واحدة، موسيقا يعزفها موسيقىٌّ دون أن يتعمَّد شيئًا محددًا، رسم مُتسرِّع بقلم رصاص، أو حتى تصرُّف ما فى حياة عادية، أو جملة، نظرة، كلمة، وتكون إلهامًا كاملاً.

الإلهام هو أنْ تشعر، تعرف، أنَّ وجودك فى حدّ ذاته قادر على أن يكون إلهامًا، تشعر بأن الضوء الذى أضاء بداخلك لن يضيع منك، وأنه حصل على وقته كاملاً ليتشكَّل من روحك ونفْسِك، لن يمارس معك الألاعيب، هنا ليُفرحك، يكافئك، هو الهدية التى كنتَ تُعِدُّها لنفسك، دون حتى أن تعرف، أو ربما كنت تعرف، فقط تعرف أنك لا تعرف متى ستحصل عليها، لكنها قادمة لا محالة، وستعرفها عندما تأتى، لا يمكن أن تخلط بينها وشىء آخر، هى ابنتك، روحك.

هناك فارق بين الإلهام والأفكار اللامعة البرَّاقة: الأفكار قد تهرب إن لم ننفذّها أو نُدوِّنها على الفور، تبدو متعجلة كأن لديها مواعيد أخرى، الإلهام لا يفعل ذلك، يبقى معنا، لا أحد غيرك فى حياته، أنت قصة حبه، يمنحنا كل الوقت لنتأمله، هو لك وحدك، الأفكار البرَّاقة يمكن أن نتوقُّع بعض أوقاتها، وأن نصنع لها فِخاخًا، الإلهام يأتى دون توقُّع، يختار لحظته، نحصل على الأفكار اللامعة فى كثير من الحالات بسبب مؤثر خارجى، ربما تفصيلة صغيرة تضىء شيئًا بداخلنا، فتشتعل الفكرة، الإلهام تشعر أنه نابع منك بالدرجة الأولى، يندفع مثل بركان، يمرُّ مثل شعاع ضوء، يترقرق مثل نبع ماء، هو روح تولد داخل روحك، الأفكار اللامعة تمنحنا نظرة أفقية، حتى مسافة محدودة، وتشعر معها بأنك فى حاجة إلى ما يُكملها، الإلهام يمنحنا رؤية من أعلى، كاشفة، تشعر معه بحالة من الكمال، وأنك حصلت على خريطة الكنز، الأفكار اللامعة بها شىء عملى، صلب، الإلهام بطبعه رومانسى، وحالم.

الإلهام، اللحظة النور، سَمِّها ما تشاء، لكن لا تنس، ولا تتنازل عن أنها صنيعتك بالدرجة الأولى، تخلَّقَتْ منك، هى ابنتك، دفَعَتَ فيها من أجمل وأغلى ما فيك، لم تسقط على رأسك من الفراغ، لم تتعثَّر بها فى طريقك، لو كان الأمر كذلك، لكان من الممكن أن يتعثَّر بها غيرك، أىّ أحد، لكن، ما كان لك من إلهام لا يكون لغيرك أبدًا، لأنه نابع منك، أنت مَنْ خلقته.

رغم ذلك، أفكر فى أسرار العالم، وأن هناك ما لا نعرفه، وسيظل هناك ما لا نعرفه، خاصة فى الأمور التى تتعلَّق بممارسات الروح والقلب، أحب أن يبقى جزء من كل شىء بلا تفسير، فقط ألمسه بروحى ومشاعرى، أفهمه بإحساسى، والإلهام لائق بهذه اللمسة، وهذا الفَهم.

أحب فى العالم تلك الغرابة الجميلة، المُحَفِّزَة للروح كى تحلم، تطمح، وتتوقَّع كل شىء، وتُصدِّق أن بإمكانها أن تفعل كل شىء، حتى ما لم يخطر بأحلامها، أحب أن يحتفظ العالم بتلك المساحات غير المفهومة، فلولا ما لا نفهمه، ما كان لشىء أن يكون مفهومًا.

لا يصفو عقل الإنسان إلا بعد أن يمتلئ بالأفكار، ولا يصفو قلبه إلا بعد أن يمتلئ بالمشاعر.

……………

*نُشِرَ فى “أخبار الأدب”

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار