الإلهام المؤجل

موقع الكتابة الثقافي art
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شيرين فتحي

اليوم، وبينما كنت أقف قبالة الميكانيكي في انتظار أن يلحم الجزء الداخلي من إطار السيارة بعد استخراج أحد المسامير منه،والتي كانت السبب في خروج الهواء من الإطار بعد كل مرة أعيد فيها ملأه بالهواء من جديد، جاءتني بعض الجمل الملهمة والتي تخص أحد الأعمال القديمة التي لم تكتمل.

لم يكن العمل قديما بالمعنى الحرفي ولكنّي كنتُ قد بدأتُ في كتابته وتجميع بعض أفكاره من سنوات، ولأسباب غير معروفة لم أتمكن من إتمامه. أو ربما لم أكتب فيه سوى عدة صفحات وإن ظلت الأفكار تتلاعب في رأسي من وقت إلى آخر. مثل تلك الأعمال أظل محتفظة بها لبعض الوقت على الديسك توب لأراها أمامي على شاشة اللاب  باستمرار كلما فتحته كمحاولة لتحفيز نفسي في أن أحاول إتمامها أو حتى معاودة الكتابة فيها في أقرب وقت. ولكن حين يطول الانقطاع، أبدأ في إخفائها بعيداً عن عيني في ملفات أخرى بحيث لا تصطدم بها عيني كثيرا فيحبطني عدم القدرة على معاودة الكتابة فيها.

المهم انهمرت عليّ بعض الجمل بينما أنا واقفة عند الميكانيكي الذي لا يبعد عن بيتنا كثيرا، والذي تقع ورشته بالقرب من الطريق السريع التذي تنتهي به حدود مدينتي. في تلك النقطة بالضبط التي أغير فيها اتجاه السيارة كل مرة كي أعاود دخول المدينة من جديد وأنا على شفا عدة أمتار بسيطة للخروج. لم يكن معي لحظتها قلم أو ورقة. وحتى هاتفي النقال كانت بطاريته قد لفظت أنفاسها الأخيرة في ساعات الصباح أثناء تواجدي في العمل. لم أجد بداً من محاولة تسجيل الأفكار في رأسي. كان عليّ أن أتلقى الأفكار الجديدة وأعيد ربطها بما أذكره من جمل وأحداث قديمة ومكتوبة. كان عليّ أيضا أن أكرر الجمل الجديدة التي خلقت للتو في رأسي كي لا أنساها.

اعتبرت انهمار الجمل المتتابع والمفاجئ هذا هو إشارة لمعاودة الكتابة مرة أخرى في ذاك العمل، قد تكون الإشارة كاذبة كغيرها من الإشارات، ولكن ربما أيضا قد تكون الإشارة التي ظللت في انتظارها قرابة الخمس سنوات.

عملٌ آخر أتممته بنفس الطريقة. بدأت في كتابته في 2014 ولكني لم أتمكن من إتمامه. كتبت قرابة العشر صفحات ثم انقطعت، ولكن ظلت فكرته الرئيسية مركونة في أحد الأماكن في رأسي. أماكن كثيرة في رؤوسنا تشبه الأدراج . نضع فيها نصوصا وذكريات وأشخاصا وأحداثا كثيرة نريد الاحتفاظ بها في هدوء، بعيدا عن صخب الحياة والأفكار التي تمر يوميا برؤوسنا، كأنَّنا نريد الاحتفاظ بها كما هي نقية وبيضاء كما ابتدأناها بالضبط.

 نحفظ النصوص غير المكتملة في داخل تلك الأدراج انتظارا لللحظات المناسبة، أوالإشارات التي تمنحنا الإذن لإستئناف الكتابة في تلك النصوص من جديد.

عندما عرضتُ تلك المخطوطة التي تمكنت من إتمامها أخيرا بعدما أنهيتها خلال شهري نوفمبر وديسمبر من العام الفائت2018  على إحدى الصديقات المحترفات للكتابة أيضا. بدت مرتاحة ومعجبة بالفكرة ولكنها أخبرتني أنها تشعر أن بعض الأحداث ناقصة. أو أن العمل في حاجة لبعض الزيادات. تلك الجملة دوما كفيلة بمنعي من الكتابة. لا أستطيع ان أكتب بإيعاذ أو بإشارة من أحد. ورغم ذلك حاولت أن ألقي نظرة أخيرة على العمل، ظللت أفكر لفترة فيما يمكن إضافته أو حذفه ولكني لم أشعر بأي رغبة في تغيير أي جزء مما كتبت. شعرت بعد انتهائي ومراجعتي المكثفة للعمل أنه قد انتهى بالفعل. ظلت الأحداث والجمل تنهمر على رأسي لقرابة الشهرين. في كل مرة كنتُ أنتهي فيها من تسجيل تلك الأفكار وكتابتها وإعادة دمجها في داخل الأحداث. كان ينتابني سؤال وحيد: متى سأعرف أن الحكاية قد انتهت. متى ستتوقف البطلة عن إلقاء حكاياها في رأسي؟ ففي كل مرة كنت أعتقد أن هذا هو الانهمار أو الالهام الأخير، ولكن لم تكن تمضي بضعة أيام حتى تبدأ البطلة مجددا في الظهور لتلقي على مسامعي حكايات أخرى تخصها. حتى بعد كتابة مشهد النهاية، ظلت هناك أحداث أخرى تُضاف أو تحذف في داخل العمل الرئيسي. دائما مشهدي البداية أو النهاية هما أهم جزء فيما نكتبه سواء كان المكتوب قصة أو رواية أو حتى مقال كهذا. العثور على جملة افتتاحية مناسبة أو حتى العثور على مشهد ختامي مميز هو بمثابة إذن بالحياة لخلق جديد. حتى لأني أظل غير مرتبطة بتلك النصوص التي لا أعثر لها على بدايات أو نهايات مناسبة. واحد من المشهدين يكفي لتتعلق بالنص حتى تنهيه بينما غياب كليهما إشارة بأن نصك لمن يكتمل الآن وربما أبدا.

انتهى العمل حين توقف الإلهام. مشهدا البداية والنهاية يرضيانني بنسبة كبيرة. هذا يعني أن جنيني قد اكتمل بل وقد بدأت لحظاته الأولى على الأرض. هنا يأتي دور الكاتب كأم تعتني وتربت. لكن ليست لها أية قدرات على تغيير الخلقة. النصوص كالأطفال لا تولد كلها بنفس درجة الاكتمال. بعض الأطفال تولد بنقص أو عيب خلقي ما. لكن هذا لا يعني أن هذا الطفل قبيح أو سيء، ولا نملك حتى   الاعتراض على مشيئة الخالق أو وصفه بالإهمال أو عدم الاهتمام بمراحل تكوين هذا الجنين ليصل إلى الحياة على تلك الهيئة. لا يجب أيضا أن ننكر أن لكل خلقة جمالها وروحها حتى لو كانت تبدو ناقصة للعين. فكل نقص يقابله اكتمال في مكان آخر. وفي كل الأحوال لن يكون بملكك أن تعيد الطفل مجددا إلى داخل الرحم من جديد في محاولة لإعادة تكوين ما نقص منه. هكذا بعض النصوص أيضا قد يراها البعض ناقصة أو غير مكتملة ولكن الخالق أو الكاتب هنا قد بذل ما في وسعه لخلقه ونفخ روحه فيه. انتهت  مدة حمله به والتي تختلف بالطبع من نص لآخر. هذا بالطبع لا يعني أن كل كتاباتنا المنتهية هي أعمال كاملة وجاهزة للخروج والطباعة ومواجهة القراء. وإلا لما كان لكل مؤلف مهما كانت درجة شهرته أو قدراته نصوصا مغمورة في أدراج مقفلة وقد تظل حبيسة فيها إلى الأبد. فهناك أعراض لا يدركها إلا صاحبها، بالضبط كالجنين الذي يقرر أن يخرج فجأة إلى الحياة حتى ولو كانت حياته هي الثمن. كل ما يملكه المؤلف إزاء تلك المواقف أن يوجه جلَّ عنايته للنص الوليد بإحساسه وبعقله وبالمراجعة المكثفة للتأكد أنه قد أعطاه أقصى مالديه من اهتمام ورعاية. بينما تظل خلقته الأولى تشكل ملامحه وحياته وجماله الذي لا يجب أن يفهمه الجميع بنفس الدرجة.

 

مقالات من نفس القسم