الأنساق الثقافية المُضْمَرة: تأمّلات نقديّة في كتابة منصورة عزّ الدين

الأنساق الثقافية المُضْمَرة: تأمّلات نقديّة في كتابة منصورة عزّ الدين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

 -1-

في المرحلة التي أعقبت ما بعد الحداثة، بدأ النقد الثقافييتجه نحو وظيفة "التفسير/التأويل"، سعيا إلى إلقاء الضوء على ما وراء النصوص؛ أي ما يتوارى خلف "الخطاب discourse" من أنساق مضمرة وتشكيلات خطابية مسكوت عنها. فالتاريخ نص، والنص ليس إلّا تاريخًا بمعنى من المعاني. وبلغةٍ أخرى، فالتاريخ سرد والسرد تاريخ، أو هومقولة أو فئة سردية narrative category، بمعنى واسع لبعض "اللاوعي السياسي" الذي ألحَّ عليه فريدريك جيمسونFredric Jamesonكثيرا في كتاباته. لقد تنبّه كثير من الباحثين إلى هذا الأمر، وصرنا نسمع عن التاريخانية الجديدة والماركسيين الجدد، كما تردّد كثيرا القول إن النقد الثقافي لا موضوعَ محددًا له، كما أنه لا يتمتّع بتعريف محدّد أيضا؛ إذ تنهض دراسات النقد الثقافي على تحليل الممارسات الخطابية التي تأتي إلينا في شكل أبنية أدبية مرتبطة بمفهومي "المعرفةKnowledge" و"السلطةPower" معًا. وما يفعله النقد الثقافي، أو الناقد الثقافي بالأحرى، هو أنه يحفر في المضمرات الدلالية الكامنة وراء أي خطاب جمالي ظاهر. ولأن هذا الخطاب الجمالي الذي يتجلّى عبر مفهوم "المتن" أو "النص" قد صنعته "المؤسسةInstitution" -بعلاقات إنتاجها المعقّدة والمختلفة، والمنحازة سلفًا- فلابد من توجّه الباحث الثقافي نحو إلقاء الضوء على علاقة المعرفة بالسلطة والمؤسسة اللتين أسهمتا في تشكيل هذا الخطاب الجمالي أو ذاك، على نحو من الأنحاء دون غيره. وليس "النص"، في النقد الثقافي، سوى وسيلة لاكتشاف حيل الثقافات وألاعيبها في تمرير أنساقها وتبطين السرود والنصوص بغاياتها الضمنية لا المعلنة. وهذه نقلة نوعية في مَهَمّة (أو وظيفة) العملية النقدية؛ ذلك أن الأنساق هي المراد الوقوف عليها بالتفسير والتحليل والتأويل وليست النصوص في حدّ ذاتها. من هنا، لن يصبح "النص"، في ضوء مفهوم النقد الثقافي، معزولًا بصفة كلية عن علاقات إنتاجه التاريخية والاجتماعية والثقافية، ولا عن نسقه التأثيري والمصادر التي يمتاح منها كي يكتسب وجوده وهويّته، كما اعتادت أن تقوم بذلك الكثير من المناهج الشكلانية والأسلوبية والبنيوية، وغيرها من المناهج النصّية Textual Methods بصفة عامة؛ فمُضْمَرات الخطاب فعل إنساني تاريخي متأثّر بالمجتمع ومؤثّر فيه بالقدر نفسه.

عندما يسمع معظم الناس مصطلح “النقد الثقافي”، للمرة الأولى، يفترضون أنّه سيكون، غالبا، نقدًا أكثراً شكلية واهتمامًا بالجماليات والبلاغيات من “الشكلانية” ذاتها. إنهم يشكّكون في أنه سيكون نقدا “مثقّفا” في كل من موضوعه وأسلوبه.لا شيء يمكن أن يكون أكثر “واقعية” من الحقيقة ذاتها. وفي واحد من أهداف النقد الثقافي، أنكلمة “الثقافة” -بأل التعريف- تُعارض كل ما هو جديد؛ لأنها تفكّر دائمًا في “الثقافة العالية” أو “الراقية”. يريد النقّاد الثقافيون أن يجعلوا من مصطلح “الثقافة” مصطلحًا يشير إلى الثقافة الشعبية، جنبًا إلى جنب إشارته إلى تلك الثقافة التي ترتبط بما ندعوه “الكلاسيكية”. ومن المحتمل أن يكتب النقّاد الثقافيون عن “رحلة عبر النجوم”، بينما هم يحلّلون في الوقت ذاته رواية “يوليسيسUlysses” لجيمس جويسJames Joyce (1882-1942)؛ لأنهم يريدون تحطيم الحدود الفاصلة بين المستوى العالي أو الراقي والمستوى المنخفض أو المتدنّي. أو بصيغة أخرى، إنهم يريدون تفكيك ونقض التراتب الذي يوحي به هذا التمييز بين المستويين. إنهم يريديون أيضا أن يكشفوا عن الأسباب، السياسية في بعض الأحيان، التي تجعل من منتجٍ ما منتجًا جماليًا أعلى قيمةً من غيره .

إن كتابة ناقد ثقافي ما عن الكلاسيكية المبجّلة ربما تركّز على  فيلم سينمائي أو حتى مسلسل هزلي، أو ربما تنظر إلى مثل هذه الأعمال في ضوء بعض الأشكال الأكثر شيوعا لقراءة المادة الفنية. فرواية من تأليف جين أوستن إما أن يُنظر إليها في ضوء الرومانسيات القوطية، أو تُقرأ بوصفها دليلا على: “كيف تتصرّف السيّدات؟”، وذلك كانعكاس لبعض الأساطير أو الاهتمامات الثقافية المشتركة. كما أن قصةً شهيرةً ،كنا نقرؤها ونحن صغار، مثل “مغامرات هكلبري فين” Huckleberry لمارك توينMark Twain(1835-1910) يمكن رؤيتها على أنها انعكاس أو تشكيل للأساطير الأمريكية حول مفهوم “العِرْق”، وما يتصل بجنوح الصبيان وإهمالهم، أو بوصفها مثالا دالا على الكيفية التي ترجع بها النصوص إلى الوراء، صاعدًا فصاعدًا، حتى ملامسة الحدّ المزعوم بين “الثقافة المتدنّية” و”الثقافة الراقية”. إن واحدةً من مسرحيات شكسبير التاريخية، ربما تكون قد بزغت بوصفها عملاً شعبيًا استمتع به ناس عاملون، قد تصبح لاحقاً -كما أشار بعض النقاد الثقافيين-  “عملا مسرحيا مثقفا”، يتمتع به فحسب أصحاب الامتيازات والفئة المتعلّمة .

-2-

من هذه الزاوية الثقافية، يمكن تناول بعض الأفكار والمفاهيم وطرح بعض التأمّلات وتحليل بعض الأنساق التي شيّدت عليها منصورة عز الدين نصوصها، منذ مجموعتها القصصية الأولى (ضوء مهتزّ- قصص/ 2001) وحتى روايتها الأخيرة (جبل الزمرد/ 2014).لا يكاد ينجح قارئ النصّ الأول من مجموعة “ضوء مهتز” (2001) لمنصورة عزّ الدين في محاولة الإفلاتمن غواية إحدى قصصها حتى يسقط في شرك من العلامات المنصوبة، في قصة أخرى، بمهارة وخفّة تراوغ اللغةوالعالم والأشياء. فكل فخّ، أو علامة نصية، تنصبه المؤلفة بوعي وإحساسشديدين يأسران القارئ، ويستقطبان اهتمامه، ويثيران بداخله جماعًا من الذكرياتوالمشاهد عن العالم الأول والبيت القديم، حيث أشجار الياسمين، وعروق تكعيبة العنب،وزهور الجلاديولس الحمراء، وأشجار الخوخ والكافور والصفصاف والطيور البيضاء التيتلامس ماء النهر بأجنحتها، وحديث الجدّات، وغيرهن، عمّن اختطفهم الموت أو أغوتهمالجنّيات، وأبراج الحمام المحاطة بأشجار الرَّمان والنخيل. إن النسق الثقافي الكامن خلف هذه المجموعة القصصية هو نسق الحنين إلى الطفولي أو “صورة الجنّة الأولى” التي تسكن قاع المخيلة الإنسانية، والهروب من أسر الواقع المهترئ والمتفسّخ. وهذا ما قد يفسّر لنا انفتاح فضاء هذه المجموعة، بقصصها الاثنتي عشرة، على عالم متشابك الرموز والدلالات حولالأحلام، واللاوعي، والبيت القديم، وعن المصباح (أو “الشعلة” كما كان يسمّيها جاستونباشلارGaston Bachelard) والألوان، وعن الخيال ومراوحات المخيلة والذاكرة العميقة، وعن فعل الليلوحركة السرد، وشغف العجائز بالحكي.

ومعذلك، يبقى عنوان المجموعة، رغم انفتاحه ومجازيته، عنوانا دالاً يستلهم طاقته من إحدى قصص المجموعة التي تحمل الاسم نفسه “ضوء مهتز”، وهي قصة تدور في فضاء حلمي، أو في واقع يشبه الحلم؛إذ تدلف الراوية إلى بار قديم يقع في الدور الأرضي لإحدى البنايات المصمّمة على الطراز البلچيكي، وبداخل البار ضوء شحيح، ومهتز أيضًا، ينبعث من عدة شموعموضوعة في كُوًى على مسافات متساوية بالحائط، حيث تتخلّق تلك العلاقة الغريبة بينالراوية ورجل الكونتر، والتي تكمن في وجود ندبة تحمل الملامح ذاتها بجسد كل منهما. يحاول رجل الكونترتخليص نفسه من هذه الندبة بسكّينه، بينما الراوية تراقبه وتصرخ ويتحول صوتها إلى مواءٍ ينتهيبأن تناوله السكين وتمدّ له ذراعها ليفعل بها ما فعل بنفسه، في تبادل للأدوار ، كأننا بصدد فعل تطهير جمعي يسعى إلى التخلّص من أسر الذاكرة الملحّة، القديمة والمؤلمة أيضًا.

تدشّن هذه المجموعة القصصية عدة مفاهيم تتقاطع مع الكثير من سمات الكتابةالقصصية الجديدة الآن، حيث تنزلقبانسياب شديد نحو حالة من الاغتراب عن تفصيلات الواقع المعيش؛ لأنه واقع مظلم، أو في أقل الأحوال هو واقعذو ضوء مهتز. لكن قصص المجموعة تنجح في الوقت ذاته في تأكيد أهمية اعتماد السرديّات الجديدة على تقنياتالحلم واللاوعي والذاكرةالتي هي بمثابة مستودع لعالم من الحكاياتلاتنفدغرائبه.

-3-

في مرويّتها الثانية (متاهة مريم)، استطاعت منصورة عزّ الدّين أن تنتقل نقلة أخرى، حيث شَيَّدت روايتها على التمنّع لا التمتّع، المراوغة لا المباشرة، “الأثر” النيتشوي لا الفعل الأرسطي، الشيطنة لا النبوّة، المتاهة لا الصّراط المستقيم، فأقامت نصّها على ثيمة “اللعنة” المتوارَثة في أسرة التاجي (“وإنّ عليك [عليكم] لعنتي إلى يوم الدّين”)، بدءًا بالتاجي الأكبر نفسه، مرورا بزوجته الأولى”صوفيا” (ابنة تاجر القماش الألباني، وأمّ يوسف التي كانت تجري وحدها وراء “حكمة” ما تطاردها وتعرف أنها ستصل إليها)، ثم زوجته الثانية”زينب” المرأة الساكنة التي لا تغادر موقعها في البيت منذ أن دخلته محمَّلةً بإرث عائلة عظيمة النفوذ فانبهرت بالتاجي وذابت شخصيتها في شخصه وأسلوب حياته، وعطفا على الابن “يوسف” التاجي أو “رجل الغموض”- كما كانت تسمّيه مريم- أو الصيدلي الأنيق، وزوجته “نرجس” (أمّ مريم) التي كانت تعشق ذاتها وتتعامل مع جسدها بتبتّل صوفي وقدسية متناهية، ومحبوبته “كوثر” النصف الآخر ليوسف ونقيض نرجس في تذمّرها وطلباتها التي لا تنتهي، ثم العمّ “صالح” والد نرجس المغرم بالجنازات، والخادمة “نور” خادمة صوفيا وكاتمة أسرار يوسف، وأصدقاء مريم: “رضوى” زميلتها في الحجرة التي كانت تسكنها ببيت المغتربات، و”يحيى الجندي” الصحفي الذي أحبّته وتعلّقت به لكنه تركها في نهاية المطاف مع فتاة أخرى، و”إديث” صديقة الطفولة التي جذبت الولد الصغير الذي كان يغازل مريم أيام المراهقة، لكنه هرب مع إديث فلم تستطع مريم مواجهة عم ملاك كأنها المسؤولة عمّا حدث لابنته. وأخيرا “النمر” الرجل ذو الشراسة البادية والصوت الأجش مورّد الحشيش والأفيون ليوسف ذي الذراع المبتورة، أو هو باختصار صاحب التاريخ الموصوم بالدماء منذ علا مدّ هذه الأسرة التاجية الملعونة.

وهنا، يمكن القول إن النسق المضمر وراء تاريخ عائلة التاجي هو نسق اللعنة الجمعية التي جعلت من تاريخ عائلة التاجي تاريخًاموصومًا بلعنة أبدية تطال الجميع من دون استثناء، حيث تتفجّر من هذا التاريخ أنهار من الدماء، منذ أن دهست عجلات عربة التاجي جسد أحد الخدم؛ فكوّنت الدماء ما يشبه بحيرة دموية صغيرة لم تمّح آثارها لسنوات طويلة. أما مريم ذاتها؛ سرّة هذا العالم الروائي ومركز هذه الأسرة التاجية غير الناجية أبدا أو “المرأة الورطة”كما وصفها يحيى ذات مرة، فسوف تنال النصيب الأكبر من لعنة بيت الجدّ المسحور الذي يمكن النظر إليه من زاويتين متضادتين في آن واحد: (البيت بوصفه الجنّة/البيت بوصفه الجحيم).  

-4-

ترتبط صورة الفردوس، في مخيلة الإنسان العربيّ، بصورة جنّات عدن التي رسمها القرآن الكريم باستفاضة، وهي صورة سردية أثيرة تنهض على مفردات الأشجار والخضرة والأنهار التي تجري من تحت الجِنان، ثم تكتمل الصورة بالحور العين والغلمان وكؤوس الشراب التي ينهل أصحابها من أنهارٍ من لبنٍ لم يتغيّر طعمه وأنهار من عسل مصفَّى وأنهار من خمر لذَّة للشاربين، .. إلى آخر المفردات التي تتعامل معها كتب التفاسير وقصص الأنبياء اعتمادًا على مبدأ “الخيال المطلق” أو “الخيال الحرّ”. لكن مرويّة منصورة عز الدين الثالثة (وراء الفردوس)سوف توازي بين صورة الجنة/الفردوس والبيت الريفي القديم، حيث العائلة التي تمثل تاريخًا جمعيًا للذات، العائلة التي قامت على كتفي شخصيتين اثنتين فحسب كانا بمثابة آدم وحواء هما: الجدّ والجدّة (عثمان و رحمة)، ومن سلالتهما خرجت باقي الشخصيات: رشيد، جابر، سميح، ثريا، بشرى، سلمى، جميلة، هشام، .. إلخ. إن النسق الثقافي المضمر في مرويّتها الحالية هو الرغبة في استعادة صورة الجنة/الفردوس، وهي استعادة لا تنفصل بحال عن معاناة الشخصيات من مطاردة فكرة اللعنة الأبدية التي راحت تطارد العائلة، ممثلةً في فكرة “القرين” والقتل والدماء والغيرة التي تنطوي عليها الأنفس البشرية منذ صراع قابيل وهابيل، كما في روايتها السابقة (متاهة مريم). لذلك، تبدأ الرواية بمشهد النهاية حيث تتخذ سلمى رشيد قرارًا بحرق محتويات الأسرة الماثلة في ذلك الصندوق الخشبي الذي يحوي إرث الأب والجدّ من أشياء شخصية وأوراق غير مفهومة سواء من حيث اللغة أو الرموز والعلامات. هكذا، تستدعي الرواية المقولة الشهيرة التي كان الناقد والمفكر الأمريكي فريدريك جيمسون قد أطلقها منذ سنوات في كتابه “اللاوعي السياسي: السرد بوصفه فعلا اجتماعيا رمزيا” عندما قال: “إن التاريخ مقولة سردية”، وهي عبارة توازي ما قاله إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية”: “إن الأمم ذاتها سرديّات ومرويّات”. لذلك، يمكن أن نصف رواية (وراء الفردوس) بأنها سرديّة بحث عن الذات والهوية عبر تعرّف التاريخ الجمعي لأسرة عثمان وزوجته رحمة، تلك الأسرة التي لا تبتعد كثيرا عن أسرة التاجي في روايتها السابقة “متاهة مريم”. فاللعنة مكتوبة على الأسرتين وعلى من يأتي من أنسالهما وأنسال أنسالهما.

إنّ من يتابع كتابة منصورة عز الدين في كتابيها السابقين (ضوء مهتز) و(متاهة مريم)، ويصلهما بروايتها التالية (وراء الفردوس)، يدرك أن هذه الرواية لا تزال تحفر حفرًا عميقًا مدهشًا في المجرى السردي نفسه الذي سبق لها أن شيّدت أركانه وضفافه “(غير) الواقعية” منذ كتابيها الأوّلين؛ الأمر الذي قد يحثّ القارئ على التعامل مع نصوصها السردية الثلاثة باعتبارها نصًا واحدًا أو متنًا كبيرًا، ينهض على عدد من الدعامات التي يقع في القلب منها استقطاب ذاكرة القارئ ومخيّلته ودمجها بمهارة في ذاكرة الرواة والشخصيات، وبطريقة تصوّرنا نحن أنفسنا كما لو كنّا شخصيات قصصية من ورق، وتثير بداخل كل منا جُمَاعًا من الذكرياتوالمشاهد عن العالم الأول والبيت القديم؛ إنه الحنين إلى الطفولي أو “الجنّة الأولي” أو “الفردوس المفقود” الذي يسكن قاع مخيّلاتنا وأحلامنا.

تشترك، أو تشتبك، رواية (وراء الفردوس) مع نصوص الكاتبة السابقة في عدد من الثيمات؛ منهافكرة “القرين”، وجود شخصيات قبطية بمحمولات ثقافية مصرية، انطواء السرد على ثيمة “السِّرّ المكنون”، تداخل الواقعي بالغرائبي والحلمي، الاحتفاء بالأسرة التي تنطوي على فكرة “اللعنة”. كما تثير الرواية عددًا من القضايا الاجتماعية التي ترصد تحولات المجتمع المصري منذ الأربعينيات حتى بداية التسعينينات، وتحديدا من خلال قضية تجريف الأرض الزراعية وبناء مصانع الطوب الأحمر، لتشكّل نصوصها سرديّتها الخاصة بها وبأبناء جيلها؛فتنشغل بالتاريخ الفردي للذات والأب والأم والعائلة والمكان والزمان والقرية والبيت، ..إلخ، بديلًا عن التاريخ الجمعي الذي يتصل بالأساس بنشوء السرديّات الكبرى للمجتمعات والدول والأقاليم.

ثمة مفاهيم كثيرة اشتغلت عليها مرويّات منصورة عز الدين؛ أقصد تحديدًا إلى مفهوم “العلامة” و”اللعب” و”الأثر” عند جاك ديريدا، أو بعض التجليّات لمفهوم “موت الإله” أو “العود الأبدي” عند نيتشه أو “الجنون” و”القرين” عند ميشيل فوكو، أو غير ذلك من مداخل ومفاهيم تنطوي عليها نصوص الكاتبة بشكل لافت للنظر. لكنّ الأكثر أهميةً، من وجهة نظري، أن كتابتها قد غاصت في محليّة خاصة، متصلة بتصورها الخاص جدًا لعالم الريف، بعيدًا عن محاكاة الآخرين، سواء من جيلها أو من الأجيال السابقة.

-5-

في مرويّتها الأخيرة، تشتبك كتابة (جبل الزمرد) مع “ألف ليلة وليلة”، منذ عنوانها الفرعي الذي يحمل عنوان “الحكاية الناقصة من كتاب الليالي”، اشتباكا بنيويّاً ومخاتلًا في الوقت ذاته، حيث تتكون الرواية من 17 فاصلا سرديا متصلًا منفصلًا، تتناوب ما بين الواقعي والغرائبي، في مراوحة بندوليّة بين عالم الليالي بشخصياته المتخيّلة (زمردة/ إيليا، الراعي/ مروج، ياقوت/ نورسين، بلوقيا وجبل قاف،…) وعالم الرواية الواقعي (هدير، نادية، كمال، شيرويت قنديل، كريم خان، …)، فضلا عن سرّة العالم الروائي ومركز الثِّقَل فيه “بستان البحر” التي ينهل اسمها من غرائبية عالم الليالي، اعتمادًا على تركيبيّة الاسم التي هي وجه من وجوه ازدواج الهويّة، وازدواج الوظيفة التي كانت ملقاةً على عاتق شهرزاد باعتبارها منبعَ هذه الصورة التمثيلية التي تُعلي من شأن المرأة، وتضعها في مرتبة الفاعلية لا المفعولية في سلّم الثقافة والتاريخ والاجتماع، ولو على سبيل تفكيك الرؤية النسوية أو نقضها بمرويّات مضادة Anti-Feminist Narratives. لا تنهض مرويّة “جبل الزمرد” على ثيمة واحدة رئيسية، بل ثمة عدد من الثيمات الفرعية المتشابكة تشكّل كلها نسقًا ثقافيًا مضمرًا، مثل ثيمة الرغبة في كشف المخبوء والمتوارِي، أو تعرية السرّ المكنون، أو اللُهَاث وراء المعرفة، أو الهوس حدّ الجنون بفكرة الخلود التي هي فكرة ملعونة تُفضي بصاحبها غالبًا إلى الموت (ولها جذور في مرويّات الكاتبة السابقة كما أشرنا). لكن تبقى ثيمة “المعرفة” وحدها، هنا، هي الهاجس المحوري الذي يسكن شخصيات الرواية جميعها، بدرجات مختلفة، رغم تعدّد مشارب هذه الشخصيات، وتنوّع ثقافاتها، وتباين أعراقها وأجناسها، وتمايز مصادر تكوينها النفسي والاجتماعي والتاريخي.

ولأنّ “جبل الزمرد” مرويّة ثقافية معرفيّة بالأساس، مهمومةُ في جوهرها بتشييد مملكة عريضة من التمثيلات الفنية والجمالية للإنسان المعاصر الباحث عن الحقيقة والمعرفة والتوّاق إلى نسمات الحرية في زمن انتشرت فيه الأباطيل، وعمّ فيه الجهل، وتفشّت فيه أشكال لانهائية من القمع ووأد الحريات؛ فإنها تشكّل تفصيلات عوالمها الداخلية من عدد كبير من الاستعارات والتمثيلات السرديّة الكبرى (كاستعارة التّيه الذي يشبه تيه بني إسرائيل، واستعارة المغناطيس وجبل قاف، واستعارة اللعنة، واستعارة المهديّ المنتظر،…)، والرموز (مثل رمزية الألوان، ورمزية الجبال السبعة، ورمزية الكهف والجبل، ورمزية قلعة آلموت،..)، وتراوح مستويات السرد بين الغرائبي والواقعي (مثل تعدّد الرواة، وتباين مستويات الحلم، وتناسل الحكايات،..)، وتكاثر مستويات التناصّ (ما بين القرآن، والتوراة، ومتن الليالي، وحضور أنفاس بعض المتصوّفة كالنفّري والتوحيدي وفريد الدين العطّار، وغير ذلك..). وعلى الرغم من هذا الزخم التناصّي والامتلاء الثقافي والارتواء الدلالي والسيميولوجي، لا تخلو مرويّة “جبل الزمرد” من مناوشة الثورة المصرية التي جعلت منها الراوية -ومن ورائها “المؤلّفة المضمرة” بالطبع- إطارًا موازيًا أو معادلًا موضوعيًا لإطار بستان البحر التي جمعت بين ملامح الواقعي والغرائبي باقتدار.”جبل الزمرد” مرويّةُ ثقافيةٌ مضادةٌ لـ”ألف ليلة وليلة” في ظاهرها، نقضٌ لتداعيات الثورة المصرية 2011م وملابساتها في باطنها، تشريحٌ لجوهر الإنسان الباحث عن أسرار الوجود ومسالك الخلود ودروب المعرفة الخلّاقة التي تضع حياته على حافّة الجنون أو التّيه أو الموت.

-6-

استطاعت كتابة منصورة عز الدين أن تضعنا في فضاء سرديّة عربية جديدة، تشتغل على نفسها، وتنهل من طبقات وحفريّات تتكئ على عدد كبير من المفاهيم المتشابكة التي ذكرتُ بعضها في كتابي (سرديّات بديلة/ 2012م)، مستفيدةً من أفكار جاك ديريدا، وفريدريك نيتشه، وميشيل فوكو، وجاستون باشلار، وإدوارد سعيد، وبول ريكور،ومن حكايات ألف ليلة وليلة ونصوص المتصوّفة، والحكايات الغرائبية، .. إلخ. إن كتابة منصورة عز الدين تُحاوِر عددًا غير قليل من المقولات الثقافية والجمالية التي تجعل من الجسد الروائي، أو الجسد القصصي عامةً، مادةً لنسيج عريض من الأنساق الثقافية، المعلنة والمضمرة (أولها: نسق الحنين إلى الطفولي والهروب من أسر الواقع المتفسّخ، ثانيها: نسق اللعنة التي تلحق بالفرد والجماعة معًا، ثالثها: نسق الرغبة العارمة في استعادة صورة البراءة والعذرية ممثَّلةً في أمثولة الجنّة،رابعها: نسق الجنون بالمعرفة المتصلة بسؤال الوجود والخلود والموت،.. وغير ذلك). وتعتري هذا النسيج المشبع بالأنساق الثقافية المتقاطعة عُقَدٌ وتمفصّلاتٌ مفهوميةٌ تُجذِّر التخييليّ في رحم الثقافي والتاريخي والسياسي، وحتى الغرائبي الفانتازي. لقداستطاعت نصوص منصورة عز الدين، في تصوّري النقدي، أن تُنتج لغةً قصصيةً مختلفة ومتميزة تشير بوضوح إلى تنامي “سرديّة بديلة” في الكتابة القصصية المصرية المعاصرة؛ أقصد إلى تيّار يستعين بتفجير الطاقة القصوى للذاكرة الإنسانية، ويمتاح من رحم الغرائبية، وينهض على توظيف طاقة الأحلام وتعزيز آثارها في تشكيل المعرفة الإنسانية. فالمعرفة قوة والسرد قوة، وكلاهما لا يقلّ أثرًا عن فعل الكتابة ذاته الذي هو فعل اكتشاف ومساءلة ولذّة معرفية مغوية.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم