الأصوات

الأصوات
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تقنية الكتابة التي سأقوم بتشريحها الآن عند (فرجينيا وولف) لا تتعلق بقصة (البستان) فحسب، وإنما تغطي تقريباً جميع القصص القصيرة التي قرأتها لها حتى هذه اللحظة.. أياً يكن المدخل الذي تبدأ به (فرجينيا وولف) قصتها: (حركة واقعية أو متخيلة .. وصف مشهدي  .. تحليل ذهني) فإنه لابد أن يكون دافعاً لفوران غير منضبط من اكتشاف العلامات الذي يأخذ ـ ظاهرياً ـ طبيعة عشوائية منفصلة عن البداية .. رصد غائم قد يبدو مرتجلاً لإشارات مكانية أو نفسية أو مستدعاة من الذاكرة ليس محكوماً بعلاقات نسقية مع مدخل القصة أو ما سيتبعه مما يمكن أن نطلق عليها نقاط ارتكاز ناجمة عنه أو تنتمي إليه .. إن القصة عند (فرجينيا وولف) يمكن أن تكون على هذا النحو تجسيداً للصراع بين الشذرات اللاشعورية، أو تحريراً لأصوات الهذيان التي يمكن الاعتقاد للوهلة الأولى أنها مخالفة للوعود المنطقية التي خلقتها اللحظات الواعية داخل السرد .. هل ينبغي أن نتذكر الآن (الذهان الهوسي الاكتئابي)، والأصوات التي كانت تسمعها (فرجينيا وولف) وتحدثت عنها في رسالة انتحارها؟ .. لكن الهياج غير المنتظم لمراقبة العلامات لا ينفصل عن بداية النص بل نابعاً من مشيئة غير معلنة لحتميتها .. إن التأمل المبهم التلقائي للإشارات ـ الباطنية أكثر من كونها معطيات لواقع خارجي ـ يحقق صلاتً مع ما يمكن تصور أنها تجليات مدركة ناشئة عن تلك البداية، ولكنها صلات خاضعة لسياق كابوسي يُراوغ التفسيرات والروابط المعقولة .. (فرجينيا وولف) تعود في قصتها إلى المدخل الذي بدأت به بشكل أو بآخر، إلى نقاط الارتكاز الناجمة عنه أو تنتمي إليه كأنها تذكّر بوجود اللحظات الواعية، أو كأنها تذكّر بضرورة الوعود المنطقية التي تلزم الهذيان للتجسد.

تقنية الكتابة التي سأقوم بتشريحها الآن عند (فرجينيا وولف) لا تتعلق بقصة (البستان) فحسب، وإنما تغطي تقريباً جميع القصص القصيرة التي قرأتها لها حتى هذه اللحظة.. أياً يكن المدخل الذي تبدأ به (فرجينيا وولف) قصتها: (حركة واقعية أو متخيلة .. وصف مشهدي  .. تحليل ذهني) فإنه لابد أن يكون دافعاً لفوران غير منضبط من اكتشاف العلامات الذي يأخذ ـ ظاهرياً ـ طبيعة عشوائية منفصلة عن البداية .. رصد غائم قد يبدو مرتجلاً لإشارات مكانية أو نفسية أو مستدعاة من الذاكرة ليس محكوماً بعلاقات نسقية مع مدخل القصة أو ما سيتبعه مما يمكن أن نطلق عليها نقاط ارتكاز ناجمة عنه أو تنتمي إليه .. إن القصة عند (فرجينيا وولف) يمكن أن تكون على هذا النحو تجسيداً للصراع بين الشذرات اللاشعورية، أو تحريراً لأصوات الهذيان التي يمكن الاعتقاد للوهلة الأولى أنها مخالفة للوعود المنطقية التي خلقتها اللحظات الواعية داخل السرد .. هل ينبغي أن نتذكر الآن (الذهان الهوسي الاكتئابي)، والأصوات التي كانت تسمعها (فرجينيا وولف) وتحدثت عنها في رسالة انتحارها؟ .. لكن الهياج غير المنتظم لمراقبة العلامات لا ينفصل عن بداية النص بل نابعاً من مشيئة غير معلنة لحتميتها .. إن التأمل المبهم التلقائي للإشارات ـ الباطنية أكثر من كونها معطيات لواقع خارجي ـ يحقق صلاتً مع ما يمكن تصور أنها تجليات مدركة ناشئة عن تلك البداية، ولكنها صلات خاضعة لسياق كابوسي يُراوغ التفسيرات والروابط المعقولة .. (فرجينيا وولف) تعود في قصتها إلى المدخل الذي بدأت به بشكل أو بآخر، إلى نقاط الارتكاز الناجمة عنه أو تنتمي إليه كأنها تذكّر بوجود اللحظات الواعية، أو كأنها تذكّر بضرورة الوعود المنطقية التي تلزم الهذيان للتجسد.

في قصة (البستان) يمكن التعرّف على وحشية التنافر بين الجملة التي قرأتها (ميراندا) في كتابها بينما كانت مستلقية داخل البستان: (هذا البلد في الواقع هو أحد أركان العالم، نعم، ضحكة البنات تبهج على نحو أفضل…)، وبين توبيخ المعلمة الغليظ لأطفال المدرسة أثناء ترديدهم جدول الضرب، وضرب أحدهم فوق مفصلات أصابعه حتى تدميها، وكذلك الولد الصغير ابن راعي البقر الذي يجمع ثمار التوت الأسود، ويجرح إبهامه بالأشواك بينما من المفروض أن يكون في المدرسة، ونحيب العجوز الثمل، والعظات النكدة، والنساء البائسات اللاتي يؤدين صلاة شكر في الأبرشية .. كل شيء في الواقع يكذّب هذه الجملة أو على الأقل يُشكك في صلابتها، لكن (ميراند) الغافلة في بستانها تغفو داخل حلم يحوّل كل حقيقة بائسة إلى محرك لتأكيد البهجة المتخيلة التي قررها الكتاب؛ فبينما كان الأولاد يرددون جدول الضرب، وبينما كانت المعلمة توبخهم، وتضرب أحدهم حتى ينزف كانت (ميراندا) تشعر كأن الأرض تحملها كما لو كانت ورقة شجر أو ملكة أو كما لو كانت تطفو فوق صفحة البحر والنوارس تصرخ من فوقها في السماء .. صيحة الرجل السكران جعلتها تشهق بنشوة غير عادية إذ بدا لها أنها تسمع الحياة ذاتها .. الترانيم والأجراس والصلاة في الكنيسة كل ذلك أصبح بمثابة حفل زفاف لـ (ميراندا) .. كانت مستغرقة فيما بين النوم واليقظة بما يسمح لها إدارك الوقائع والعناصر المحيطة بجسدها، وتمريرها إلى الحلم لإكسابها التوهج المناقض لطبيعتها الأصلية .. كأن (فرجينيا وولف) تركز على فكرة أن الحضور الأساسي للبستان ـ وفقاً لإرادة الجملة المدونة في الكتاب الذي كانت تقرأه (ميراندا) ـ لا يوجد إلا في داخلها، وبالتالي سيكون مصيره التحطم عند لحظة الإفاقة ـ إفاقة الوعي المحتملة في لحظة قادمة من عُمر (ميراندا)، وليست الإفاقة من غفوتها في البستان ـ إذ لن يُسمح له بأن يوجد كعالم حقيقي .. لنلاحظ كذلك السخرية المتدفقة من المقارنة بين المهازل التعيسة التي تحاصر (ميراندا) في غفوتها، وبين (التأخر عن موعد الشاي) باعتباره خطأً لا يجوز، أو ربما حتى انتهاكاً لسلطة المجتمع الفيكتوري الصارم التي تُقدس هذا الموعد.

لكن بما أننا نتحدث عن سلطة المجتمع الفيكتوري لماذا لا تكون إغفاءة (ميراندا) ـ على نحو مضاد للتأويل السابق ـ هي إعادة إنتاج لعلاقتها بأصوات المعلمة والأطفال وبالولد الصغير ابن راعي البقر وبنحيب العجوز الثمل وبالعظات النكدة وبالنساء البائسات اللاتي يؤدين صلاة شكر في الأبرشية حيث يمثل كل هؤلاء الحياة التي حُرمت منها نتيجة أحكام هذا المجتمع؟ .. ربما كان حلم (ميراندا) هو الاندماج والتوحد بتلك الحياة حيث يوجد البستان الحقيقي الذي لم يوجد في الكتاب.

أفكر في أنه ربما لو كان الأمر في يد كاتب آخر لاستبعدت قصة (البستان) الفوران غير المنضبط من اكتشاف العلامات التي أخذت ـ ظاهرياً ـ طبيعة عشوائية منفصلة عن البداية أي لحظة إغفاء (ميراندا) في البستان .. ربما لن يجد مبرراً للرصد الغائم الذي قد يبدو مرتجلاً للإشارات المكانية ـ داخل حلم (ميراندا) وخارجه ـ اللامحكوم بعلاقات نسقية مع مدخل القصة أو ما سيتبعه مما يمكن أن نطلق عليها نقاط ارتكاز ناجمة عنه أو تنتمي إليه .. أي شذرات لاشعورية كانت تريد (فرجينيا وولف) تجسيد صراعاتها، وأي أصوات هذيان كانت تسعى لتحريرها في قصة (البستان)؟ .. إن (فرجينيا وولف) تعتمد على رؤية العلامات كفضاء نصي لتسرب وتحوّل نصوص في نصوص أخرى .. بهذا ربما تكون الإشارات المكانية أبعد من أن تكون مجرد (أشياء واقع) بل هي نصوص يقع كل واحد منها عند ملتقى مجموعة من النصوص الأخرى؛ يعيد قراءتها ويؤكدها ويكثفها ويحولها ويعمقها في نفس الوقت مثلما تقول فرضية التناص عند (باختين)، أي أن الهياج غير المنتظم للمراقبة لدى (فرجينيا وولف) مشغول بكيفية صياغة التحولات المتتالية للرموز النابعة من بداية القصة .. التأمل المبهم التلقائي يقصد تفحص التجليات الناشئة عن تلك البداية وطريقتها في قراءة التاريخ .. تاريخ اللحظات الواعية حينما تخضع لسياق كابوسي، كأن النظم المنطقية هي المسؤلة عن إيقاظ شهوة التناص، وهو في قصة (البستان) ـ أي التناص ـ يبدو متجهاً إلى الطبيعة قادماً من قراءات (فرجينيا وولف) المبكرة وفي مقدمة هذه القراءات كتب أبيها .. في هذا الجزء من رسالة لصديقتها (فيتا ساكفيل) يمكن العثور على ما يمكن تسميته بجوهر الفضاء النصي الذي تنقلت عبره الآثار المتغيرة لوعي (فرجينيا) في سبيل التفكيك والتجاوز: (هل تتخيلين في أي بيئةٍ نشأتُ ؟ لا مدرسة أقصدُ إليها؛ أقضي يومي مستغرقةً في التأمل وسط تلالٍ من كتب أبي؛ لا فرصة على الإطلاق لالتقاط ما يحدث خلف أسوار المدارس: اللعب بالكرة، المشاحنات الصغيرة، تبادل الشتائم، التحدث بالسوقية، الأنشطة المدرسية، وأيضًا الشعور بالغيرة ! “… هل كانت كتب أبيها سر تحوّل (الأشياء) إلى (نصوص) خاصة مع الانتماء إلى أسرة شديدة المحافظة .. لن أضع علامة استفهام.

(فرجينيا وولف) استخدمت (ميراندا) في البحث عن لاوعي الجملة التي قرأتها في الكتاب، والمختبيء في النظام الدلالي لمكونات البستان القائم على ذاكرة معرفية عن البلد الذي هو أحد أركان العالم! .. حينما فعلت ذلك كأنها كانت تقرأ اللاشعور الذاتي، وتحاكم التاريخ المتناثر في جسدها .. لنقرأ هذه الفقرة: (وهي راحت تقتفي أثر الخطوط التي خلّفها الرجال والعربات والطيور، والرجل الراكب، على أرض القرية، إلى أن بدوا جميعاً كأنما يُجرفون للخارج في كل اتجاه، جرفتهم دقة قلبها) .. كأن (ميراندا) ـ تحت وطأة الخوف من السلطة الصارمة للمجتمع والذي تمثل في دقة قلبها ـ كانت تزيح من داخلها الكائنات التي تحمل الحياة الحقيقية المحرومة من التوحد بها حيث يمكن لعيون هذا المجتمع التي تراقبها بشكل أو بآخر أن ترصد وجودهم في حلمها.

(فرجينيا وولف) كانت تقتفي أثر أصوات الهذيان أي كانت تحاول تحريرها من قمع الوعي وهو ما ظهر في هذه القصة كمرآة للتناص .. إذا كانت مقاربتي للعلامات كفضاء نصي لتسرب وتحوّل نصوص في نصوص أخرى لها ارتباط بأفكاري عن نزع الفواصل وتحويل العالم إلى نص هائل فإن هذا التناول للعلامات يرتبط أيضاً بـ (تيار الوعي) الذي اجتمع في صدارته (جيمس جويس) و(هنري جيمس) و(فرجينيا وولف)، وإذا كان هناك من وضع يده على اتفاق بين تداعي الذاكرة ومرض (الذهان الهوسي الاكتئابي) مثل الكاتب (توماس كارمنجو)* فإنني أجد إغراءً في وضع التناص باعتباره تفاعلاً نصياً يحدث داخل نص واحد بحسب (جوليا كريستيفا) كتعريف آخر لنشوة الكتابة، وللبقاء كذلك في السرير أياماً طويلة دون فعل أي شيء.

Carmango, Thomas. (1992). The Flight of the Mind: Virginia Woolf’s Art and Manic Depressive Illness. Berkeley, CA: University of California Press

البستان

فرجينيا وولف

ترجمة: فاطمة ناعوت

غفَتْ ميراندا في البستان، فيما كانت مستلقيةً فوق مقعدٍ طويل تحت شجرة التفاح. كان كتابُها قد سقط داخل حشائش العشب، وإصبعها مازال كأنه يشير إلى جملة (2):” هذا البلد في الواقع هو أحد أركان العالم، نعم، ضحكةُ البناتِ تبهجُ على نحو أفضل….”، وكأنما قد سقطت في النوم عند هذه النقطة بالضبط. أحجار الأوبال(3) في إصبعها كانت تتلألأ بضوء أخضر، ثم بضوء ورديّ، ثم تشعُّ ضوءًا برتقاليًّا من جديد حين تتسرب إليها أشعةُ الشمس عبر أشجار التفاح، وتملأها. في ذلك اليوم، وبمجرد أن يهبَّ النسيم، كان فستانُها الأرجوانيّ يترقرقُ متموّجًا مثل زهرةٍ عالقة بغصنٍ؛ تحني الحشائشُ رؤوسها؛ وتحوّمُ الفراشات البيضاءُ دافقةً من هذا الطريق ومن ذاك الطريق، بالضبط فوق وجهها.

على مسافة أربعة أقدام في الهواء فوق رأسها كانت التفاحات معلّقةً. وفجأةً، علتْ ضجةٌ حادّةُ النغمةِ كأنما رنينُ نواقيسَ من نحاسٍ مشقوق تُقرَع بعنف، بغير انتظام، وعلى نحوٍ وحشيّ. لم يكن ذلك سوى أطفال المدرسة يرددون جدول الضرب مجتمعين في صوت واحد، يُستوقَفون من قِبَل المعلّمة، يوبَّخون بغلظةٍ، ثم يبدأون من جديد في تسميع جدول الضرب مرّة بعد مرّة.

لكن هذا الصخبَ مرَّ على ارتفاع أربعة أقدام فوق رأس ميراندا، مخترقًا أغصان التفاح، ثم ضاربًا رأسَ الولد الصغير ابن راعي البقر الذي كان يجمع ثمارَ التوت الأسود من سياج الشجيرات، بينما من المفروض أن يكون في المدرسة الآن، ما جعله يجرحُ إبهامَه بالأشواك.

في الجوار، ثَمَّ نحيبٌ منعزلٌ وحيد–حزينٌ، بشريٌّ، وحشيّ. بريسلي العجوز كان في الواقع شديدَ الثَمَلِ حدَّ العماء.

آنذاك، الأوراقُ الأكثر ارتفاعًا في قمّة شجرة التفاح، منبسطةٌ مثل أسماك صغيرة في مواجهة زرقة السماء الحزينة، على ارتفاع ثلاثين قدمًا فوق الأرض، كانت الأوراق تحفُّ بصوت جرسٍ يدق برنينٍ موسيقيٍّ عميق وحزين. ذاك هو الأرغن في الكنيسة يعزف أحد التراتيل القديمة والحديثة. الصوتُ حلّق سابحًا في العلا ثم تشظّى إلى ذرّاتٍ دقيقة بأجنحةِ سربٍ من عابري الحقول كان يطير بسرعة هائلة — من مكان لمكان.

ميراندا كانت ترقد نائمةً على بعد ثلاثين قدما لأسفل.

وإذن، أعلى شجرتيْ التفاح والكمثرى، على ارتفاع مائتي قدم من ميراندا التي كانت ترقد نائمةً في البستان، ثمة أجراسٌ تقرع على نحوٍ متقطّع مكتوم، عظاتٌ نكِدة، لأن ستَّ نساءٍ بائساتٍ من الأبرشية كُنَ يؤدين صلاةَ الشكر بينما كبير القساوسة يرفع الدعاء للسماء.

وأعلى ذلك، وبصوتٍ ذي صريرٍ حادٍ، كان السهمُ الذهبيّ لبرج الكنيسة، الذي يشبه ريشة الطائر، يدور من الجنوب إلى الشرق. الرياح تغيّرت. وفوق كل شيء آخر كانت تدمدم وتطلق أزيزها، فوق الغابات والمروج الخضر والتلال، وفوق أميال من ميراندا التي كانت ترقد في البستان نائمةً. كانت الرياح تجرفُ كلَّ شيء دون تمييز، بلا عينين ولا عقل، لا شيءَ قابلته كان بوسعه الصمودُ أمامها، إلى أن، دار السهمُ إلى الجهةِ الأخرى، الرياحُ تتحوّل إلى الجنوب مرّة أخرى. على مسافة أميال للأسفل، في فراغٍ بسعةِ ثقبِ إبرة، كانت ميراندا تقفُ منتصبةً وتهتفُ بصوتٍ عالٍ: “أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي!”

ميراندا نامت في البستان — أو ربما هي لم تكن نائمة، لأن شفتيها كانتا تتحركان خفيفًا خفيفًا كأنما تهمسان :” إن هذا البلد في الواقع هو أحد أركان العالم . . . نعم، ضحكة البنات . . . تتوهجُ. . . تتوهجُ….. تتوهجُ.” (4) بعد ذلك ابتسمت ثم تركت جسدها يغوص بكامل وزنه فوق الأرض الهائلة التي أخذت تصعدُ، ميراندا تفكر: كي تحملَني فوق ظهرها كما لو كنتُ ورقةَ شجر، أو، ملكةً، (هنا كان الأطفال يرددون جدول الضرب)، أو، تستأنفُ ميراندا، ربما أجد نفسي ممددةً في استرخاء فوق منحدر شاهق ومن فوقي تصرخ النوارسُ. كلما طارت لارتفاعاتٍ أعلى وأوغلتْ في السماء أكثر، تكملُ ميراندا، بينما المعلّمة توبّخ التلاميذ وتضرب جيمي فوق مفصلات أصابعه حتى تدميها، كلما بدا انعكاسُها(5) أعمقَ داخل البحر – داخل البحر ، أخذت تكرّر، بينما راحت أصابعُها تسترخي وشفتاها قد أُغلقتا بلطفٍ كأنما بدأت تطفو فوق صفحة البحر، آنذاك، حين علت صيحةُ الرجل السكران في الأفق، سحبت ميراندا شهيقًا عميقًا بنشوةٍ غير عادية، إذ تخيّلت نفسها تسمعُ الحياةَ ذاتها تصرخُ عبر لسان خشن فظ داخل من فم قرمزيّ داعر، خلال الرياح، خلال الأجراس، وخلال الأوراق الخضراء الملتوية لثمار الكرنب.

بطبيعة الحال كان حفل زفافها حينما عزف الأرغن لحن الترانيم القديمة والحديثة، وعندما قرعت الأجراس بعد أن أقامت النساء الستُّ الفقيرات صلاة الشكر في الكنيسة، راح الصوتُ المتقطّع المكتومُ النَكِدُ يدفعُها أن تفكر أن هذه الأرض ذاتَها ترتعد تحت حوافر الحصان الذي كان يركضُ نحوها بسرعة ( “آه، يجب عليّ أن أنتظر وحسب!”، تنهدت بحسرة)، وبدا لها أن كل شيء قد بدأ الآن يتحرّك، يصيح، يمتطي صهوةً ما، كل شيء بدأ يطير حولها ونحوها وخلالها وفْق تشكيل منتظم.

ماري تقطّع الأخشاب، تفكّر؛ بيرمان يرعى الأبقار؛ عربات اليد قادمةٌ لأعلى من ناحية المروج؛ الرجل الراكب – – وهي راحت تقتفي أثرَ الخطوط التي خلّفها الرجالُ والعرباتُ والطيورُ، والرجلُ الراكب، على أرض القرية، إلى أن بدوا جميعاً كأنما يُجرفون للخارج في كل اتجاه، جرفتهم دقّةُ قلبها.

تبدّلت الرياح على ارتفاع أميال في الهواء؛ الريشة الذهبية لبرج الكنيسة أصدرت صريراً حادًّا؛ فقفزت ميراندا عاليًا وصرخت:” أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي !”

ميراندا نامت في البستان، أوَ هل كانت نائمةً، أم هل هي لم تكن نائمة؟

فستانُها الأرجوانيّ كان ممدودًا ومنشورًا بين شجرتيْ التفاح. كان هناك أربع وعشرون شجرة تفاح في البستان، بعضها يميل قليلا، والبعضُ الآخر ينمو مستقيمًا على نحو رأسيّ بجزعٍ منبثقٍ لأعلى، الذي يتمدد بدوره في اتساعٍ ثم يتشعّبُ إلى فروعٍ وأغصان تتحوّر إلى قطرات مستديرة حمراء أو صفراء. كل شجرة تفاح كان لديها فضاؤها الكافي. والسماء كانت على قدِّ مسطّح الأوراق بالضبط. حين كان نسيمُ الهواء يعصفُ، كانت خطوط الأغصان المقابلة للسور تنحني قليلاً ثم تعود. أبو فصادة كان يطير حذوَ القُطْرِ من ركنٍ إلى ركن. وعلى نحوٍ حذرٍ كان طائر الحَجَل المغرّد يحجل على ساق واحدةٍ ساعيًا نحو تفاحة تسقط على الأرض؛ ومن جانب السور الآخر جاء عصفورٌ يرفرفُ فوق العشب تماماً. أغصان الأشجار العلوية كانت موصولةً بالأسفل عن طريق تلك الحركات؛ والكلُّ كان مُحكماً وموثوقًا بأسوار البستان. لعدة أميال للأسفل، كانت الأرض مشدودةً بإحكام إلى بعضها؛ متموّجًّةً عند السطح بسبب الهواء المتذبذب المتمايل؛ وعبر أحد أركان البستان كان الأزرق-الأخضر(6) مشقوقًا طوليًّا بشريط أرجوانيّ(7). الرياح تتغيّرُ الآن، عنقودٌ من ثمر التفاح كان قد قُذف عاليًا جداً حتى أنه خبط ومحا تماماً بقرتين كانتا ترعيان في المرج. ( “أوه، سوف أتأخر على موعد الشاي !!”، صاحت ميراندا)، بينما التفاحُ راح يتدلى من جديد باستقامة، فوق السور.

………………………..

كُتبت عام 1923

2 – ‘Ce pays est vraiment un des coins du monde oui le rire des filles éclate le mieux . . .’ – الجملة بالفرنسية (ت)

3 – opals حجر كريم يتغير لونه تبعا للضوء الساقط عليه – يسمى أيضًا عين الشمس (ت)

4 – ‘Ce pays est vraiment un des coins du monde oui le rire des filles………… éclate… éclate …….. éclate ‘ – الجملة بالفرنسية (ت)

النوارس

6ـ ربما خط الأفق عند التقاء السماء بالخضرة (ت)

7ـ فستان ميراندا ربما ! (ت)  

مقالات من نفس القسم