الأرض الواطئة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 45
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
حسين عبد الرحيم
كان بشعر بالألم ..
غريباً في زياراته المتكررة، جاءه منذ ساعة، غشيما جهولاً هذه المرة، ينخر في عظامه.
منذ شهور تخطت الثلاثين، صار للوخزات مجاري وقنوات، تبثها العضلات في الساقين من خلف ومن أمام، في قدمه اليسرى، فاليمنى، تتمدد الآلآم،، تتناوش منذ عامين مضيا، تسكن فتحتي الأنف، بات هناك مجرى يستقبل العدم، وهو غير العوادم السامة، وثانٍ يستنشق رائحة الدم المتخثر التي زادت في أيامه الأخيرة بعد نزوله للارض الواطئة.
يتقلب في فراشه، يتجاهل أنه مريض، يأتيه خبر المشاجرة، ضربهما لأحمد زغيم، اتفاقهما سويا على قتله أو أقله تعريته أمام جميع الشبيحة وتجار الحشيش، أحمد لاشين يتصل به على محموله، يتأكد مما ذكره من حقائق في مكتب المكافحة فور عودته من القاهرة قبل العيد بليلة، لم يزل بهيبته، يرتدي قميصا أحمر دمويا وجاليه جلدي أسود طلياني. حذاءؤه الردوين يضوى فوق أسفلت الطرقات الطويلة، بات الألم شيئا عاديا، كالصداع .
لايريد الدخول في متاهات علاج وكشوفات وتحاليل، وإشعات، ورقاد وموت آت في موعده، لا ريب، إن كان معافى أو مريضاً ذليلا، هو يكتفي بتسكين كافة آلامه بتعاطي البروفين أقراص بشكل غير منتظم، مرة واحدة، اثنتان، ثلاث، وساعات تزيد لخمسة، مع سيجارة الحشيش، يصل به الحال لنفس شعوره الآن، خدر ليس بلذيذ، هو أشبه ببخر، تبخير، يسير الوخز ببطء دونما تبخر كلي، هو مسكن بشكل ضبابي، يشبه حالته بعد تعاطيه لكأسين من الجون ووكر مع سيجارتين بانجو ونصف قرص ترامادول، وتدريب واع لمدة نصف ساعة على عدم الغياب ولا التغييب. يسمع في حضرتهم تفاصيل البلد والحكم، يثرثرون ويكتفي هو بالصمت، يتردد كل ربع ساعة على الحمام، ينظر لقعر المبولة، يشعر بدونية ما، وبؤس، يرى في المرآة أشباحا كثرا  يشبهونه، وخرس يلين فيلين، فيتمدد وتطفو الملامح أشبه بعلامات وشواهد قبور في حيز ما من داخل عقله، يخاطب شخوصا ما بداخله، ويضحك وحده في النافذة وقت تركه للقعدة كل دقائق خمسة، كل نصف ساعة، كل ساعة، يطل في الشوارع الخالية، يغالب توتره بتحطيم مشاهد متكررة،، ينظر ملابس مبتلة ترتجف على أحبال بلاستيكية.
الوخزات تتجلى من جديد، يدون في وعيه ولا وعيه في آن، يرسم المشهد بحذافيره، يصور بحواسه، يزيد من حدسه، يتخيل ديكورات المشاهد، بمهارة يخطط للديكوباج، في صور ولقطات ومشاهد وحوارات لايقطعها إلا التركيز، هو المخرج ومؤلف النص الحيوي، هو الممثل .. في الواقع والخيال وداخل بلاتوه الحياة التي تتكرر إستيلاد اشباهها، يحفر جروحه بأنامل لاتخشى الوخز ولا تعير الآلام أدنى اهتمام، ويتكرر كثيرا أن يحدث في اليوم التالي ما تنبأ به. ليلة الأمس في سهرة الدخان الأزرق، أو كرات الحشيش الطليقة، ببطء، وكيف صار حال مقابر الأقباط، الأرثوذوكس والكاثوليك، قريبا من البحر. في البلد الساحلي.
الوخز يستمر، يتذكر أخيه الأصغر والأكبر من الأصغر، هم ثلاثة، خمسة، هم عشرة، ستة من الذكور وأربعة من الإناث، وأخير توفي قبل ميلاده بعام، وقيل استشهد في حرب ما، لايعرف كم كان عمره .. وقت الحرب، زمن الحرب، تاريخ الاستشهاد، لا يذكر أصلاً من قال هذه المعلومة وأفاض في الحكاية على مسمعه في طفولته، هناك ؟!!
في زمن ما آخر، بعيد في طيات الذاكرة، لايعلم إن كان عاشه حقا، أم رآه في حلم ما أو كابوس، رؤية لعالم، بشر آخرون. على ضفاف أخرى لعالم وعوالم من مدنا مرتحله على الدوام، ليست لها جغرافية محددة، يجمع سنواته مع الأصغر فالأصغر، مائة وثلاثون عاما واثنين، هم يتشابهون في بعض الخصال ونقاط الضعف والقوة على أرض المعركة إذا لزم الأمر، بعيد عن ثنائية العكس في الخلق، وتسلط قابيل . وهياج هابيل هو لا يحبذ النحت ولا الكتابة في هذة المنطقة، الغريب انه لم يرى إلا نفسه في هذه الصور، على هذه الشاكلة والهيئة، ملامح شيطان آدمي، يسير بنور الروح ولهيب رأسه وشعره الأشعث المحترق حتى لحظته هذه، وتلك البثور التي أحالها رشاش ماء النار إلي أخاديد ونقر وقروح وجروح شبه ملوثة لم تلتئم إلا بحرق دماغه وفروة رأسه بروث الجاموس الفارر من رعاته بعد الفجر ناحية مقابر الجميل، سيشعل أعواد الثقاب من رأسه الجافة المتجلطة قريبا.. سينير لنفسه العالم، سينير الدروب بمشاعل من صنعه حتى ولو كانت بدائية، غير مستساغه ولا مقبولة عند بني آدم هذا الزمان، سيصنع لنفسه علامات في طريق جديد، يضاء بحريق رأسه، وكرات النار التي تطييش من دماغه لتسرج ممرات ودهاليز بحكايا تخصه، تعري الوجود وتطهر الذات حتى ولو زاد توحشه، تفاصيل أخرى لعائلته، لايعلمها إلا إياه بعد الرب، تلك النبوءات التي تنتظره في مدينة الأساطير المرئية، يراها كل ليلة في منامه. هو آمن الآن، ليس عنده أدنى شك في وجود مرض ما مزمن، الوخزات تزيد بعد انتصاف الليل بساعتين، عندما يرى وقد ألقي به في مجرة خرساء، محددة الاتجاهات.. كونا لأهل الصمت والاكتئاب، الفارين من الموت بضحكات السخرية والاستهزاء بعزرائيل، مقهقها كل ليلة وحده. وبعدما ينتهى صديقه رئيس المباحث من رشفته الاخيرة للقهوة المحوجة ..السحرية..والتطلع سويا لقمر مخنوق منذ ليلتين في سماء مدينة الغبار.
……………..
*من يوميات البناية

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون