اختصارات حول الفانتازيا

اختصارات حول الفانتازيا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لا يؤسس كل تحديد فانتازي لحتمية ما يُسمى بالواقع وحسب فهو فضلاً عن تعيين المنطق الذي تخضع إليه قوانينه، والحدود التي تنتهي عندها سلطته، وطبيعة الانتهاكات المقوّضة لمسلماته يخلق كذلك ركائزاً بديهية لتاريخه .. هو شكل من أشكال إنتاج الحقيقة إذ يؤدي تمييز حقل الفانتازيا إلى عزله عن نظام من الإدراكات الحاسمة لعناصر الوجود: الشروط التكوينية، والأنماط المستقرة والمتغيرة لصراعاتها، وأيضاً الجذور الثابتة في الماضي التي تضمن للتصنيف والبرهنة الحماية من الشك .. فلنتأمل مثلاً القوة الجازمة لتعريف مصطلح (الفانتازيا)   (Fantasy)  في معجم المصطلحات الأدبية المعاصر: (عملية تشكيل تخيلات، لا تملك وجوداً فعلياً، ويستحيل تحقيقها) " 1" ، أو لتعريف مصطلح (الفانتازيا الأدبية) في نفس المعجم: (عمل أدبي يتحرر من منطق الواقع والحقيقة في سرده، مبالغاً في افتتان خيال القراء)"2"  .. لنتأمل كذلك توصيف (ميلين كلاين) للفانتازيا في كتاب (أدب الفانتازيا مدخل إلى الواقع) لـ (تي . ي . ابتر) بأنها (القوة الدافعة وراء استبطان الواقع)"3" .. الواقع هنا قد يكون يقيناً ظاهراتياً (حقيقة فينومينولجية) أي يتمركز في بنية حسية تتوفر لتجاربها معطيات مباشرة، وبالضرورة قادرة على أن تخلق خطاباً يمكنه الإجابة عن التساؤلات المطروحة حول ماهيته .. تُعد إذن (الفانتازيا) ارتكاباً مضاداً للمضمون العقلي المثالي للظواهر، فهي كسر لهيمنة العلاقات الممكنة بين الأمور المعقولة.

(ويبدو أن الظواهرية تؤكد بأن إدراكنا للعالم هو إدراك لمعطيات حسية وحسب فالحديث عن الأشياء ليس إلا حديثا عن معطيات حسية عن هذا الشيء نفسه وهكذا تتكون الأطروحة الظواهرية على الشكل التالي : الأشياء الطبيعية ليست سوى بُنى منطقية من المعطيات الحسية إذاً “إن الأشياء إمكانات دائمة للإحساس” كما يقول مِل.

قد يتم توجيه انتقاد إلى المقول السابق “إن الأشياء إمكانات دائمة للإحساس” هو أن الفكرة ذاتها عن الشيء تتضمن أن وجوده ممكن من دون إدراك وبناء على ذلك لا يصح القول إن كل حديث عن أشياء مستقلة عن الحس يمكن اختزاله إلى حديث عن خبرة معتمدة على الحس. ويجيب المفكرون الظواهريون على هذا الاعتراض بأن الأشياء، في رأيهم، يمكن أن توجد غير مدرَكة، وكل الذي يؤكدونه هو جملة فرضية، وهي أنك إذا قلت ’’س’’ موجودة فكأنك قلت إن المعطيات الحسية المناسبة، في ظل الظروف الصحيحة، سوف تحصل. وفي رأيهم فكرة الشيء الذي لا ينتج معطيات حسية أبداً هي فكرة بلا معنى)”4″.

بالربط بين (الأشياء الطبيعية) و(البُنى المنطقية) و(الظروف الصحيحة) و(المعنى) سنحصل على العديد من الاعتقادات المتلازمة أهمها تموضع العالم داخل نطاق ذهني مستوعب، وبالتالي فـ (الحدوث) القابل للتبرير هو الخاضع لقرارات ذلك النطاق كما أن تجاوزه (الخيال العجائبي) يعني الخروج مما يمكن أن نُطلق عليه المنطقة الأصلية، أو متن الوجود، أو ما يُسمى بـ (الواقع).

إن تفكيك التصور عن ثنائية (الواقع/ الخيال) وإذابة النقائض المحتملة بينهما سيقودنا نحو اكتشافات متلازمة أيضاً: انزياح الوجود عن ما يُعتقد أنه مركز له، وبالتالي فأي (حدوث) لا يشترط الخضوع لنسق سابق كي يمكن تبريره، ولذلك سيتحول التجاوز إلى ممارسة منطقية غير مصنفة كخروج عن أساس ما ـ حيث لا يوجد أساس بداهةً ـ ولن يُفرض انتماءها إلى هامش إذ أن المتن صار ملغياً، وأصبح العالم امتداداً منزوع الفواصل ـ أكبر من مجرد واقع وخيال ـ لا يحظى فيه نوع معين من الظواهر بقيمة مثالية أو أفضلية قياسية أو مكانة معيارية تتخطى نوعاً آخراً من الظواهر .. حينئذ لن يكون بوسعنا تمييز الفانتازيا بل لن نكون في حاجة إلى ذلك.

إذا كان الوعي بالغرابة في مقابل المألوف يمثل استجابة تلقائية لا يمكن تفاديها فعلى تلك الاستجابة أن تكون بداية التعارف وليس نهايته .. أتحدث عن مهمة النقد في الخروج بالعجائبي من الرواية إلى الوجود، أي تعيين غير الممكن ـ بحسب الظن السائد ـ في قلب الممكن المفهوم وليس مجرد الاكتفاء بلذة الوقوف عند ما تم الاعتياد على تسميته بـ (العوالم الموازية) .. أفكاري هنا لا تقصد المقارنة أو الاستبدال أو الإحالة إذ لا يزال كل ذلك خاضعاً لسلطة التنميط والفرز، وإنما أقصد إعطاء الفانتازي ثقل الحتمية، وإلزام المنطق، وسطوة القانون؛ فالغرائبية ـ وهو ما يفترض في تصوري أن يتكفل به جهد جوهري في عمل الناقد ـ يجب الكشف عن كونها ليست انصرافاً عن الواقع بل هدم لما يُعتقد أنها حدود له تحافظ على بقائه كمجرد (واقع) .. إن أشكال السرد الروائي التي تُقدم انحرافات طاغية عن ذاكرة متخمة بأساليب تقليدية وموضوعات مستهلكة ينبغي أن يكون لها نفس السلطة التي تتمتع بها (أشياء الواقع) حينما كان مجرد واقع ولكنه لم يعد كذلك بعدما صار وجوداً مفتوحاً، لا نهائياً، أكثر مراوغة وتوحشاً من أن تحكمه ثنائيات متعارضة .. الخبرة العجائبية إذن لا تؤثر أو تساهم في إنتاج الحقيقة وحسب وإنما تخلق التاريخ أيضاً، فاللحظة الحاضرة شارك في قرار (حدوثها) وفي الكيفية التي حصلت بها أساطير وحكايات شعبية وقصص خيالية، فردية وجماعية مختلفة .. بشكل أكثر تحديداً يمكن القول أنه لا يمكن إرجاع الزمن إلى ذاكرة دون الأخرى أو منح القدرة لتجارب على حساب تجارب مغايرة .. يقول (خوليو كورتاثر): (الفانتازي والملغز ليسا فقط الخيالات العظيمة في السينما والأدب والقصص والروايات. بل حاضر فينا أنفسنا، في تكويننا النفسي، ولا يستطيع العلم ولا الفلسفة أن يقدما لنا إلا تفسيرات بدائية وأولية)”5″ .. على النقد أن يتفحص دائماً دور الفانتازيا في تشكيل أجسادنا إذ لم تعد هي الأخرى مجرد (فانتازيا) بعدما فقد ما يُسمى بالواقع أبوابه المغلقة. 

بالعودة إلى فقرة سابقة فالعالم حينما يصبح امتداداً منزوع الفواصل ـ أكبر من مجرد واقع وخيال ـ سيتحول حينئذ إلى نص هائل أي يمتلك الخطاب الذي ينظم الأحداث قوة الأحداث نفسها، ويكون للسرد سيطرة اللاسرد ذاتها”6″ .. طموح الناقد تجاه ذلك الوجود المفتوح، اللانهائي حسبما أرى هو اللعب بما يمكن اعتباره كافة الاحتمالات المتساوية للرموز .. تشريح المعاني في ضوء المراوغة والتوحش .. الحرص على حرمان اللغة من أي مرجع حيث لا يوجد ما يضمن عدم تمظهر الكينونة في أي صورة أخرى، ولا يوجد ما يقدر على تعطيل عمل الفكر سواء في محاولات التصنيف أو الإيجاد .. أتذكر الآن المقارنة التي عقدتها في قراءتي لـ (نهاية السيد واي) لـ (سكارليت توماس) بين دعابة الفانتازيا في الرواية، وكتاب (مدخل إلى التفكيك) لـ (ميشيل رايان): (مع كل خطوة داخل (الظاهر) أو (الحسي) يسقط رسوخ ما مصحوباً بارتداد للنقطة الأولى .. قدم في يقين، والقدم  الأخرى في أنقاضه .. البقاء للعمى إذن كسلطة مهيمنة على كل نسق فكر أو سياق استنتاج محدد ـ لاحظ أن الذهن لم يعد إذن كياناً مغلقاً، والذكريات توقفت عن أن تكون حصناً سرياً ـ وهو ما تُحركه غريزة (العودة الدائمة للاكتشاف) تحت إلحاح أطر التفسير المنهكة)”7″.

أريد الآن أن أطرح تطبيقاً شخصياً: في روايتي (خلق الموتى)”8″ يتعلم أبي بعد أن تجاوز السبعين القرصنة الإلكترونية ثم يقوم بالاستيلاء على أحد المنتديات على الانترنت ليروي من خلاله في فصول متتابعة حكايات عن ماضيه ـ لا يهم الآن صدقها أو كذبها ـ مستخدماً توقيع (احتمال مستبعد) .. هذا ما يمكن أن يبدو غريباً .. لكنه الآن بعد (حدوثه الروائي) صار ممكناً، ولم يعد محاصراً داخل (العجائبي) إذ أصبح (المألوف) لا وجود له بل أصبح هناك عالم لا يمكن أن تُجزم معه أن لتحول أبي إلى (هاكر) لقبه (احتمال مستبعد) سلطة على جسدي أضعف من سلطة أي فعل آخر قام به أبي داخل ما سيتم تسميته في المقابل بـ (الواقع) .. فلنلاحظ تعمدي استخدام كلمة (أبي) ليس لأنني أتقمص الآن شخصية الراوي في (خلق الموتى)، ولكن لأنني لازلت أفكر في ذلك العالم منزوع الفواصل ـ أكبر من مجرد واقع وخيال ـ الذي يمكن للرواية ونقدها تحويله إلى نص هائل .. نص ينتقم من الموت اللازمني الطافح من تلك العبارة: (هذا مجرد خيال)، ويحرص كل الحرص على أن يضمن خلود التشوش الذي يستمتع به كل المشغولين بالموثوقية”9″.

……………………….

*شهادة خاصة بالمائدة المستديرة التي عُقدت تحت عنوان (الرواية والفانتازيا) بملتقى القاهرة للرواية العربية

…………………………

الهوامش

1ـ معجم المصطلحات الأدبية المعاصر، سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني / بيروت، سوسبرس الدار البيضاء، ط1، 1985: 170.

2ـ المصدر نفسه: 170.

3ـ أدب الفانتازيا مدخل إلى الواقع، ت . ي . ابتر، ترجمة صبار سعدون السعدون، دار المأمون، بغداد 1989: 236.

4ـ الفينومينولوجية ونظرية المعرفة ـ فراس سراقبي / الأوان 14 نوفمبر 2009.

5ـ الشعور بما هو فانتازي ـ خوليو كورتاثر، ترجمة أحمد عبد اللطيف / أخبار الأدب 18 أكتوبر 2014.

6ـ كتب (جوناثان كلر) في دراسته (القصة والخطاب في تحليل السرد) ترجمة خيري دومة بموقع (أنفاس نت) في 22 نوفمبر 2014: (على المرء لكي يجعل من السرد موضوعًا للدراسة، أن يميز بين السرد واللاسرد، وهذا يتضمن بالضرورة أن السرد ينقل متوالية من الأحداث. وإذا كان السرد يُعرَف بأنه تمثيل لسلسلة من الأحداث، فإن على من يقوم بالتحليل أن يدرك هذه الأحداث، وأنها تقوم بوظيفتها وكأنها أمر لا علاقة له بالخطاب أو بالنص المدروس، كأنها شيء له وجود سابق على عملية التمثيل السردي، ومستقل عنها، وأن عملية السرد قامت بعد ذلك بنقلها).

7ـ دعابة التفكيك أو العلاقة بين نهاية السيد واي واللمبي 8 جيجا ـ ممدوح رزق / دروب 8 نوفمبر 2014.

8ـ رواية خلق الموتى ـ ممدوح رزق / سلسلة إبداع الحرية 2012.

9ـ كتب (تيم باركس) في (بحث في الموثوقية) المنشور بـ (نيويورك ريفيو أوف بوكس) وترجمته أماني لازار بمدونة (الأماني) في 16 فبراير 2015: (بهذه الطريقة أفسر الموثوقية: مهما كانت وسائل الكاتب العديدة التي يعيد تأليف مادته من خلالها، فهي مميزة باعتبارها مادته. قد نقول إنه منصاع/ة للحاجة، أو لمصدر الإلهام، حتى عندما يشرع في عمل من نوع مختلف. بتناولنا لكاتب جديد، قد يكون من الصعب أن نحدد فيما إذا كان العمل موثوقاً أو لا. في هذه الحالة، من الأفضل أن نستمتع بالتشوش الناجم عن عدم معرفتنا الأكيدة بمدى جدية كاتبنا، بوزن الحجج في كلا الجانبين).

 

مقالات من نفس القسم