احتكار الحقيقة وتجريم نسبيتها ..

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فاتن نور

 ربما حرية التعبير من أكثر القضايا الحيوية والشائكة في التأريخ الإنساني. وعلنا نجانب الصواب إذا قلنا أن نظم الحكم في العالم قد تطورت تبعا لتطور مفهومها، فكلما اتسعت مساحتها أزدهرت بطرح أفكار جديدة ورؤى جريئة تستحث الجدل الفكري لإنتاج معرفة نوعية. وفي يومنا هذا باتت حرية التعبير جزءا لا يتجزء من حقوق الإنسان، الإنسان العالم والآخر الجاهل، الضال والمضَلِل، المركب نفسيا والمعافى، المتشكك والمتيقن، المؤمن وغير المؤمن، الأسود والأبيض والأصفر..الخ. فعلى مستوى الأفراد يكون انتاج الغث متوقعا كناتج عرضي لا محال تحت مظلة حرية التعبير مثل انتاج السمين. أما على مستوى المؤسسات الدينية أو السلطات، فهي مطالبة أكثر من الأفراد وبما يمليه عليها الدين نفسه، بالتعبير عنه والتفقه فيه، عن الرسل والأنبياء، عن رموزه وأبطال تاريخه وعن كافة قضاياه وشؤونه، بحرية مسؤولة تحترم عقل الإنسان بما لا يوقع الضرر بالمجتمع أو يقود الى تضليله أو تجهيله.

 

ونتساءل، هل قدمت مؤسسات العالم الدينية حقائق موضوعية مجردة عن الأديان لأتباعها ولم تسطر تسطيرا لصياغة الحقيقة كما تريدها أو تظنها أو كما ترغب في تسويقها؟

وأيهما أكثر ضررا، الخرافات والأكاذيب القادمة من فرد أم من سلطة دينية؟

أن نتصور العالم مثاليا من حولنا، فهذا ضربا من جنون نحسبه أو خيال، فحرية التعبير المتاحة للجميع نظريا، ليست متاحة بشكل مثالي على مستوى التطبيق حتى في العالم الغربي الذي نعده متحضرا، فثمة عوامل كثيرة قد تحد منها فيصطدم إنسانه بخط أحمر هنا أو هناك أو بخروقات مرحلية تبعا لظروف سياسية أو أمنية أو عنعنات رجعية. فلمعاداة السامية أو اللاسامية، قانون واضح في سبع دول منها النمسا وفرنسا وسويسرا. ولإنكار الهولوكوست أو محرقة اليهود، قانون في تسع دول منها النمسا وفرنسا وسويسرا والمانيا وأيطاليا. ولمنع استعمال الرموز النازية كالصليب المعقوف، قانون في خمس دول منها النمسا وفرنسا أيضا.

ومع أن القوانين هذه مقننة على مستوى العقوبة الجنائية التي تتراوح وحسب اطلاعنا، بين دفع غرامة مالية بما يعادل مئة دولار أمريكي الى ثلاثة الآف تقريبا، أو السجن لبضع سنين ممكن اسقاطها بدفع غرامة مالية، عدا النمسا التي قفزت الى عشرين سنة كحد أقصى، ومع انها لا تلزم إلا أهل الدول التي شرعتها، فنعت اليهود بأحفاد القردة والخنازير أو انكار المحرقة مازال قائمًا أو مجلجلا في أطراف العالم ومنها الطرف الإسلامي؛ فأن قطاعات كبيرة من الأفراد والنخب الثقافية والمنظمات الإنسانية في العالم تقف ضدها وتحاول التصدى لها لتعارضها مع حرية التعبير.

وبتقديرنا قوانين كهذه أينما وجدت أو سنت ولأي سبب كان أو غرض، تقود الى التشكيك بالحقيقة المراد ترسيخها بقوة القانون أكثر من تأصيلها. وهي محاولة غير مجدية لاحتكار الحقيقة، إن كان ثمة حقيقة، مثلما احتكرتها الكنيسة أبان انحطاط أوربا الحضاري في عصورها الوسطى. أو بتعبير آخر، هي محاولة بائسة لتجريم “نسبية الحقيقة“.

ولكن، ومع وجود مثل هذه القوانين، لا يمكننا أن ننكر القفزة الجبارة في مجال حرية التعبير التي قفزها العالم الغربي وفي فترة قياسية، هذا لو علمنا أن بريطانيا منحت حرية التعبير لأعضاء البرلمان داخل قبة البرلمان البريطاني في الربع الأخير من القرن السابع عشر، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعد معارضة الحكومة الفيدرالية جريمة يعاقب عليها القانون، بينما كانت مساحة حرية التعبير المقننة لرجل الشارع الأمريكي تذرع وتقاس بلون جلده، واليوم يحكمها رجل أسود يصول صولته للفوز بدورة انتحابية ثانية. لقد سمح العالم الغربي بالكثير الذي مازلت دول العالمين العربي والإسلامي تعده خطوطا حمراء صارمة يُهدر دم من يتجاوزها ويُسارع لتصفيته جسديا دون مقاضاة قانونية.

فهل يسمح العالم الإسلامي بتقديم دعوى قضائية بمعطيات تاريخية، تتهم الحوزات العلمية بتقديم شخصية مزيفة عن الرسول محمد أو تزوير شخصيات الصحابة، مثلما أتهم القس الإيطالي “لويجي كاتشيولي” الكنيسة الكاثوليكية عام 2000 بتقديم شخصية مزيفة باسم يسوع المسيح، رافعا دعوى قضائية ضدها في المحاكم الإيطالية؟.

من الحماقة سن قوانين تجرم اشياءً غير معرفة، من الصعوبة حصرها أو تحديدها بدقة ضمن مفاهيمها المطروحة أو اصطلاحاتها مثل القوانين آنفة الذكر، أو من السهولة أن تمتد وتتسع  كيفيا لتشمل حظر قراءة التأريخ الإنساني وفرض التعتيم عليه، أو تجريم البحث والتمحيص والمقارنة في التراث الديني السحيق وانتشال حقائقه المغيبة أو الغائبة عن العامة. ولأن الأمة الإسلامية خير أمة “تقرأ”، فأول آية أنزلت على نبيها هي “اقرأ”،  فالمتوخى أن تتصدى لمثل هذه القوانين البائسة ولا تعتكز عليها للمطالبة بالمزيد تحت أي شعار.

 أن نعبر عن الحقيقة كما نراها، أو كما توصلنا إليها أو وجدناها ملقاة لنا في الطريق فتمسكنا بها كغنيمة؛ حق لا ينتزعه قانون من رأس عاقل أو مجنون. وقد عبر الفيلسوف الألماني شوبنهاور عن الحقيقة كما تخيلها بقوله “الأديان مثل الديدان المضيئة، لكي تشع تحتاج إلى الظلمة“.

فيما عبر الفيلسوف الأمريكي مارك تويني عن حقيقة بداية الأديان كما تصورها، بقوله ” اخترعت الأديان عندما قابل أول نصاب أول غبي“.

ولم يذهب شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء في السعودية المتوفى عام 1999، لم يذهب بعيدا بتقديرنا عن المقولتين أعلاه في تصوراته عن الحقيقة، ولكن بفارق استثنائي ذي شقين، الأول يطيح بجميع الأديان عدا دينه الحنيف، أما الثاني فتكفير من لا يدين بدينه، إذ يقول:

 (( من اعتقد أنه يجوز لأحد أن يتدين بما شاء، وأنه حر فيما يتدين به، فإنه كافر بالله عز وجل، لأن الله تعالى يقول ” وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ” فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن دينا سوى الإسلام جائز، يجوز للإنسان أن يتعبد به ، بل إذا اعتقد هذا، فقد صرح أهل العلم بأنه كافر كفرا مخرجا عن الملة)).

وذهب ما ذهب إليه بن باز كثيرون من قبله وبعده من العلماء والمشايخ وخلفهم جماهير غفيرة من الأتباع المجاهدين، المدججين بالقاعدة الشرعية والعقلية التي تقول “من ادعى شيئا فعليه الدليل”، والدليل إنتقائي غالبا، يلقط من النص القرآني حسب العرض والطلب كما انتقاه بن باز. فيما يرى آخرون أن تصورات بن باز ومن حدا حدوه، إساءة عدائية تحريضية ضد جميع الأديان سماوية كانت أو وضعية.

وربما الفيلسوف البريطاني” جون ستوارت”  أحد رواد الفلسفة الليبرالية في القرن التاسع عشر، حسم أمره لصالح البحث عن الحقيقة المجردة أو الإقتراب منها بقوله:

إن البشر جميعًا لو أجتمعوا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان لهم أن يسكتوه، بنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهــم لـو تسنت لــه القوة والسلطة، فأننا لو اسكتنا صوتاً فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة، وإن الرأي الخاطئ ربما يحمل في جوانحه بذور الحقيقة الكامنة، وإن الرأي المجمع عليه لا يمكن قبوله على أسس عقلية إلا إذا دخل واقع التجربة والتمحيص، وإن هذا الرأي ما لم يواجه تحديًا من وقت لآخر فإنه سيفقد أهميته وتأثيره” ..

ونختم بقولنا: من العقل والحكمة إلاّ نحتكر تقديم الحقيقة، أن لا نسعى الى تجريم نسبيتها. ومن السلامة المرورية أن لا نتصور كل الطرق الضيقة، تسير باتجاه واحد.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فاتن نور

كاتبة – العراق

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

الصورة من فيلم: طرق كيروستامى –  2005

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار