“إنهم يثورون في درج الكومودينو”.. ثورة من وطأتهم النعال

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 26
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد علواني

فجأة ومن دون مقدمات تقحمنا دعاء البادي؛ صاحبة المتتالية القصصية “إنهم يثورون في درج الكومودينو”، التي صدرت مؤخرًا عن دار تويا، في النص مباشرة ودون سابق إنذار، وكأنها تقول النص كالثورة يأتي فجأة وبلا إعداد أو تخطيط_ وليعذرنا رفاقنا الماركسيين في هذا الرأي.

تروي دعاء البادي قصتها هذه بتكنيك “الأصوات”، وهذا هو التكنيك الأنسب للثورة _ التي يجري الكتابة عنها والتأريخ لها هنا_ فمن أهم فضائل هذه الثورة أنها تعطي لكل إنسان الحق في الكلام، وفي التعبير عن وجهة نظره كيفما شاء وبالطريقة التي شاء.

تتناول هذه المتتالية ذات الثمان وعشرين قصة وقائع أسرة مصرية مكونة من الحاج صابر وزوجته صفية وابنهما أحمد_ بالطبع هناك بعض الشخصيات في المتتالية، لكن هذه الأسرة هي محل الأحداث وفي بيتها تجري القصة؛ فعبر أحاديث منزلية عائلية تتسرب الثورة والحديث عنها، وهل الثورة في الواقع إلا فعل مفاجئ؟!

قلت لها وأنا أناولها زجاجة الزيت:

  • ياصفية اتقي الله. أنا ما بحبش القلقاس، وما أظنش في حد عاقل بيحب القلقاس.

قالت وهي تقبض بيمينها على مقبض الطاسة وتفرك الثوم مع السلق بيدها اليسرى:

  • نعمة من الله، هتعترض؟!
  • الناس نفسها اعترضت ونزلت الشارع يا صفية. الناس غضبانة يا صفية
  • يغضبوا أو ما يغضبوش، إحنا مالنا؟

قلت بغيظ:

  • وحياتك لأنزل معاهم وأمسك لافتة “الشعب يريد إسقاط القلقاس”

هي نفسها ذات الثيمة الأساسية في المتتالية: تمرير الثورة عبر أمور عادية، والناس في الواقع يثورون لأجل أمور عادية تتعلق بوجودهم الضيق واهتماماتهم المحدودة، قبل أن يثوروا من أجل أشياء تتخطى وجودهم الخاص.

 

يطرح علينا هذا النص قضية أخرى، وهي تلك المتصلة بعلاقة الأدب بالتاريخ، فالأدب هنا يؤرخ لثورة المصريين في 2011، لكن الموضوعية، كما بات مشهورًا في حقبة ما بعد الحداثة، ليست إلا وهم كبير، فعلى الرغم من استعانة الكاتبة بثلاث شخصيات مختلفة في الرؤى والتوجهات، غير أنها، وفي نهاية المطاف، انتصرت لوجهة نظر معينة، ربما تكون وجهة نظرها هي نفسها.

والحقيقة، أنه لا غضاضة في ذلك، طالما لم يدع الكاتب أن رأيه خير معبّر عن هذه الحقبة التي يجري التأريخ لها، أو أنه “مالك الحقيقة المطلقة”، فضلًا عن أن الكاتب، وكما يعلمنا أستاذة ما بعد الحداثة، يموت عقب الانتهاء من كتابة نصه، ويكون للقراء الحق المطلق في الإتيان بالتأويلات التي تناسبهم، والتي يلتمسونها في هذا النص أو ذاك.

ليس بإمكاننا رصد تاريخ تطور هذه الأسرة عبر النص، وإنما الذي تطور هو الثورة ووعي الناس بها بما فيهم الحاج صابر نفسه. وفي هذه المتتالية مفارقة غريبة جدًا: فـ”دعاء” لم تقل شيئًا لكنها تمكنت، عبر رمزية معينة، من قول كل شيء، انظر إليها مثلًا وهو تقول: “ومشي العجوز وبقي العسكري هذه الجملة في سياق السردي عادية جدًا؛ فهي كلمات رجل عجوز يسأل جنديًا “إنتوا بتعملوا إيه هنا يا ابني؟”، ولكنها في سياق الثورة_ المكتوب عنها هنا_ تعني الكثير، بل تلخص وببراعة مسار هذه الثورة برمته.

ويبدو أنه وحتى تتمكن الكاتبة من الحديث عن الواقع قامت بترميزه، فللقول الصريح تبعات لا تخفي على أحد، لكن ليس على الأدب سلطان، بل بإمكان المؤلف عبر آليات سردية معينة _ كالرمزية المستخدمة هنا_ أن يقول ما يريد دون أن يقول شيئًا.

في النص أيضًا نوع من “العادية” بمعنى أن المتتالية برمتها تتحدث عن أمور عادية جدًا ولكن بطريقة ساخرة كذلك، وربما تحاول “دعاء” عبر هذه “العادية” أن تستأنف مشروع “أدب الهوامش والمهمشين” وأن تستعيد مشروع نجيب محفوظ برمته، وتواصل الكتابة عن أبطال الظل والحارات.

وعلى كل حال، فإن هذا النص مكتوب عن المهمشين ولهم، إن حكاية ترصد الكيفية التي وقعت بها صخرة الثورة على أذهان هؤلاء المعوزين والمهمشين، والكيفية التي تطور بها هذا الوعي كذلك.

السخرية هنا حاضرة وبقوة، (البعض لا يشد السيفون، ثورة القلقاس، يوم حُرقت الطاسة، القلقاس يعلن تنحيه)، والحقيقة أن هذه السخرية في موقعها، بل ولا يناسب النص غيرها، فكيف يمكننا الكتابة عن الثورة ومآلاتها إلا عبر السخرية؟! أليس من المثير للسخرية أن يكون ما نحن فيه الآن نتيجة لهذه الثورة؟!

والسخرية هنا دليل سخط على ما آلت تلك الثورة لكنها بشير ثورة جديدة، وتحضرني هنا المقولة النظرية لـ”هربرت ماركيوز” “الحساسية الجديدة”، تلك الحساسية التي تعني استخدام السباب والشتم، والجرافيتي، والسخرية وغيرها من أجل هدف واحد هو التثوير.

تذكرني هذه السخرية المستخدمة هنا، بـ “لا جدوى ألبير كامو”، فاللا جدوى عند هذا الأخير ليست إلا نقد للعالم، إنها كمن يخرج للعالم الظالم والأناني لسانه، وكذلك “السخرية” في هذا النص، ليست إلا سخرية من مآلات الثورة بشكل خاص.

لكن بقي سؤال مهم: ثورة من هذه التي يجري الحديث عنها هنا؟ في الحقيقة إن الثورة في هذا النص _ الذي وإن كان قد رصد وربما أرخ لوعي الكثير من طبقات المجتمع التي عاصرت الثورة_ هي ثورة من وطأتهم النعال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتب مصري

 

مقالات من نفس القسم