إدوار الخراط.. ذلك الطود الأدبى الشامخ

إدوار الخراط.. ذلك الطود الأدبى الشامخ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

فى 4 أبريل عام 1960، استقل الكاتب والأديب إدوار الخراط -أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية- الطائرة، لخوض أول مغامرة خارج البلاد، سافر بالطائرة ليلا، وكانت الرحلة ممتعة -كما يكتب فى مذكراته- وجديدة وشائقة، وكانت الليلة مقمرة، وفاجأه سحر القمر عندما كانت الطائرة تعبر المحيط الأطلنطى، وانعكاس إضاءة هذا القمر على الأمواج التى كانت خفيفة ورقراقة، كانت الرحلة، رحلة عمل إلى كوناكرى، بعد استقلال غينيا بشهور قلائل، وكان إدوار يعمل آنذاك فى منظمة التضامن الأفرو آسيوى، بعد سلسلة أعمال عديدة كان يتنقل فيها القاص والأديب الذى يتخفى فى ثياب موظف منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضى.

بعد هذه الرحلة، توفر لإدوار الخراط أن يسافر إلى معظم بلاد العالم، تلبية لمؤتمر هنا، أو استجابة لندوة هناك، ولكنه لم ينسَ فى كل تلك السفريات أن يتعرّف على ثقافة الشعوب التى يكون ضيفا عليها فى هذه الأسفار، وكان هو شغوفا بتلك الثقافات، وقد لعبت دورا كبيرا فى تطويره وتجويده لما يكتب.

ويربط إدوار ربطا وثيقا بين الحياة الواقعية دوما، وبين التجليّات الإبداعية، إذ يقول فى سيرته الذاتية: «إن المغامرات فى الحياة تقابل نظيرتها فى الكتابة، من الممكن القول إنه فى أيام الصبا المبكّر كانت لى مغامرات عاطفية وفكرية وسياسية وحياتية، تنقلت من عمل إلى عمل، وغامرت بالوقوع فى هوّة التبّطل، وانعدام الموارد المالية، الآن المغامرة -دعك من العاطفية- قل نطاقها إلى حد ما، وأصبحت تتركز فى الضرب فى متاهات الخيال والتجريب والتكشّف».

والكتابة عند إدوار الخراط بدأت فى فترة مبكرة جدا من حياته، وكانت فى البداية تناوشه عملية الترجمة، إذ إنه ترجم قصة تمثيلية عنوانها «فى الغابة»، وهو فى الحادية عشرة من عمره، ولكنها لم تنشر، وظلّ محتفظا بها طوال هذه السنوات بغلافها المصفر الخشن، وفى العام التالى ترجم رواية اسمها «السهم الأسود» من الإنجليزية للعربية، واحتفظ إدوار بالمسودة دون تحرير ولكن ضاع منها الكثير، واستمرت تجارب إدوار فى الترجمة فترة ما، حتى استطاع أن يدخل فى عالم الإبداع والتأليف، وقد دخله مبكرا كذلك، ولكن كانت الترجمة هى حقل التجريب الذى أوصله إلى عالم الإبداع، وكانت الترجمة بابا واسعا لكى يتعرف على كل أدباء وكتّاب العالم.

وفى 15 مايو 1948 تم القبض على الخراط ضمن مجموعة كبيرة من المناضلين الذين كانوا منخرطين فى التنظيمات اليسارية، وكذلك كل من اقترب من شبهات المقاومة ضد الإنجليز والقصر الملكى والإقطاع، وكان إدوار فى تلك الفترة، التى لم يتجاوز فيها الثانية والعشرين من عمره، قد انخرط فى النضال السياسى، معتنقا الفكر الماركسى، خصوصا التيار التروتسكى، الذى كان ميّالا بطبيعته نحو التجديد الفنى فى مصر وفى العالم، وكانت قد تكوّنت مدرسة كاملة فى هذا الاتجاه قادتها جماعة «الخبز والحرية»، التى أصبح اسمها فى ما بعد «الفن والحرية»، وأصدر رواد هذه المدرسة مجلة اسمها «التطور»، وكان من أبرز قادتها جورج حنين وأنور كامل ورمسيس يونان وألبير قصيرى وجويس منصور وفؤاد كامل وكامل وعبد القادر التلمسانى وغيرهم.

وكان من طبيعة من ينتمون إلى التيار التروتسكى، أن يقرؤوا بنهم، ولأن إدوار كان نهما بطبعه، فالتقت نوازعه وهواياته إلى هذا التيار الفكرى والفنى والسياسى الذى لعب أهمّ الأدوار فى مجال الفن.

بعدها راح إدوار الخراط يكتب القصة القصيرة بطريقته الخاصة، محاولا أن يخرج عن القواعد المتعارف عليها فى كتابة القصة، هذه القواعد التى أرساها اثنان من أهم كتّاب هذا الفن فى التاريخ، وهما الفرنسى موباسان، والروسى أنطون تشيخوف، والقصة عند الكاتبين، هى عبارة عن بداية ووسط وحبكة ونهاية، أو اكتشاف أو لحظة تنوير، كما كان يقول نقّاد الأدب، ولكن إدوار الخراط آثر أن يكتب نفسه وهواجسه وأحلامه وطموحاته ومغامراته بأسلوب آخر، وهذا ما جعله فى عقدى الخمسينيات والستينيات كاتبا غير منتشر مثل آخرين.

نشر إدوار مجموعته القصصية الأولى «حيطان عالية» عام 1959، وجاءت كتابته معبرة عن هذا الحسّ التجريبى العالى، هذا الحسّ الذى لا ينقل الواقع الاجتماعى كما هو. وكان إدوار لا يعطى التفاتا كبيرا أو صغيرا لما انتشر وساد آنذاك فى الحياة الأدبية والثقافية، أى هذه الكتابة الواقعية بكل تجلياتها النقدية والاجتماعية والاشتراكية، لدرجة أن هذه الواقعية راحت لتنفى العملية الإبداعية نفسها، لذلك لم تلفت مجموعته المتميزة فى ذلك الوقت نظر أحد من النقاد أو الكتّاب، فى ظل انجرافهم المحموم لهذه الواقعية التى كان يمثلّها يوسف إدريس فى القصة القصيرة، ونجيب محفوظ فى الرواية.

وظل إدوار مشغولا فى عمله الوظيفى طويلا، حتى أصدر مجموعته القصصية الثانية «ساعات الكبرياء» عام 1972، ولكنها لم تحرّك المياه الأدبية نحوه، إذ كانت هيمنة الكتابة الواقعية فاعلة بشكل كبير، حتى أن نشر روايته الأولى «رامة والتنين» عام 1979، بعد أن تجاوز عمره الخمسين بثلاثة أعوام، وأحدثت دويّا كبيرا فى الحياة الثقافية، وهذا يعود إلى بضعة أسباب، أولها أن يوسف إدريس رائد المدرسة الواقعية فى القصة، بدأت هيمنته تخفت كثيرا، بعد توقفه عن كتابة القصة، واتجاهه نحو كتابة المقالات، والأمر الثانى أن جيلا من الكتّاب الجدد راح يعيد النظر فى الكتابات الواقعية القديمة، ويبدع نوعا آخر من الكتابة، وكانت كتابات إدوار الخراط نموذجا صارخا للتجديد، يتجاوز كل الأشكال والألوان الإبداعية القديمة، وانفتحت طاقة الاهتمام بإدوار الخراط، وصارت له مدرسة واسعة من التلاميذ، الذين راحوا يحتذون طريقته فى الكتابة، للدرجة التى أطلق البعض على عقدى الثمانينيات والتسعينيات بالحقبة الخراطية فى الأدب، وهذا يعود إلى إنتاجه الغزير والبديع، الذى راح ينشره فى شكل متواتر، وكذلك هذا التأثير الواسع والعميق الذى تركه هذا الكاتب المصرى الكبير إدوار الخراط فى الأجيال المعاصرة، وما زال هذا التأثير واضحا حتى الآن.

 

مقالات من نفس القسم