إثر حادث أليم: فن التشريح السردي

إثر حادث أليم: فن التشريح السردي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. حمدي النورج

لا يقف جوهر الحكي عند التقاط أشتات الصور المتراكمة المنسية التي نمر عليها صباح مساء..تلك لعبة محفوظة ومحفورة في وعي كتاب الجيل..وهي أيضا خطرة كونها تعزف علي كثير من تجليات النقد القديم والمستورد إلينا في صورة مشوهة مهلهلة...اكتب بغير المفهوم عن المفهوم او اكتب المفهوم عن غير المفهوم..واحفر في أخاديد النص واجعله ممطوطا بلاستيكيا ...حالة يعاني منها كتاب الجيل من المبدعين وحالة إسراف كلامي وبني خطابية يتقنها جيل النقاد غير المتذوق.

في ندوة احتفالنا بصدور رواية (إثر حادث أليم) للمبدع المتمرس ممدوح رزق..وإنما جاء تمرسه من واقع ذوقي ونقدي… ذوق كونه يتقن حيوية الحرف وحركة الكلمة ونقدي كونه أيضا يكتب نقدا منهجيا مغاليا في تنظيره الغربي وفي ذلك عتب…استشرت في حالتنا الاحتفالية ناقدنا والمبدع الكبير سيد الوكيل ما رأيك في نقد المبدعين.. فقال هو في صفاء عسل النحل لو صح…وإنما يتأتي نقده من ذائقة إبداعية خاصة…قلت ولو كان المبدع ناقدا، قال أشد جلدا علي نفسه من غيره.. قلت ولو كان الناقد مبدعا، قال يخاف أن يكتب شيئا وعلي ذلك قل عدد النقاد المبدعين وكثر عدد المبدعين النقاد…وفي سمات خطاب ممدوح رزق ينبغي النظر باحتراز إلي كونه مبدعا قبل كونه ناقدا..وعلي ذلك سيتحمل منا أن نقول له وفيه، وإنما المسكوت عنه في نصه الروائي غير موجود وعلي حد احتفاء فوكو بالمسكوت يكون الكاتب قد هضم جملة من التقنيات الفنية الديناميكية بحق…طريقة سردية وخطاب تراكمي بنّاء.. يعزف علي بنية الاستقصاء الفني الحاضرة…بجرب التخطيط ثم فن التحبير ثم التلوين ثم الذهاب الي منطق التشريح الذي بدأت به القراءة..تبدو الشخصيات ابنة الموقف، وتبدو أوصافها كأنها لبست أوصافها بدقة لتناسب ظرف حياتها…وفكرة المسكوت عنه بما يعني سفور النص جاءت من رغبة ملحة لاكتشاف الذات…ماذا يعني أن تكون طفلا تمرح بهاجس ذكريات سقط أغلبها وتعيش في حالة من التهويمات البسيطة الملتقطة في شفرات خاصة تأتي إليك وسط ذكريات الأم التي تحاول جاهدًا الآن يا الأربعين أن تستطلع ولو مشهدًا واحدًا مكتمل الدلالات عن أثر الأم التي علمتك أول درس في حياتك…يكفيك ما في يدك ولا تتطلع الي مافي يد غيرك…حتي لو كانت أمك بسيف الحياء…لا يأتي خطاب ممدوح رزق مباشرًا ممجوجًا لكنه يأتي شفيفًا حييًا عندما يخبرنا بأن جوهر حياتنا يبنيه الحب.. الحب فقط الذي نتعلمه من عيون الأشياء …إنه يقرأ حركة الأشياء وخطابها ويستعيد مرويات غدت تراثبة في صورة نقول حية لحياة عمود الإضاءة السارح المراقب. .إثر حادث أليم هو فن التذكر الحاد الكاسر في جرأة لنمطية النوع الأدبي ومحاولة التعليب الماكرة…إنه التجريب الواعي المفرط في البوح.. المؤمن بصدق التذكر الرافض لكونها مذكرات…ومن ثم يصرح في جرأة أيضا بأنه فن رواية..عبر سبع مسودات قابلة للمحو لا الإثبات.. هي حالات من التذكر الذي يقنعنا السارد بصدقها وفي الوقت ذاته يقنعنا بعدم يقينها.. تلك لعبة من المراوحة المقلقة… فعل القلق الذي سيطر كاملا علي الذات السارة…يلتقط في عجالة مشاهد من أفلام فترة الثمانينيات بغية التوثيق والتسجيل ثم يبطل فعله بتضمين ما هو أهم حيث الإعلانات والمباريات واللقاءات وأهم الاغنيات واللقاءات السياسية وحركة الشارع واللوحات… تبدو الذات الساردة متشرذمة كتشرذم أبناء جيل الثمانينيات الذين أكلتهم الدنيا ثقافيا وفنيا وسياسيا…حالة من الأسف والقلق وسؤال حائر يلوح لماذا تطغي الأجيال علي بعضها ولماذا لا يتزحزح أحد من مكانه أو حتي يفسح طريقا لغيره..ممدوح رزق لأجل هذا اتبع جملة من الإجراءات الموظفة بدقة منها رغبته المستمرة في اتساع أفق الدلالات المقدمة بالرغم من غلبة البناء التجسيدي الممثل مع حالة القصدية المتعمدة في إسراف من بنية العنوان: (إثر حادث أليم ـ رواية).إلي نهاية الرواية. كذلك حالة القصدية في فعل البوح. هذا الغرض يؤكده النوع الأدبي أو الجنس الأدبي الواضح بمعنى إشمالي حيث يمكن تسمية الرواية بالسيرية .. أي إنها سيرة ذاتية يمليها البوح… لكنها مفعمة بطائفة كبري من آليات التخييل لكنني لا أستطيع أن أسميها تخييلا واقعيا ـ إنها واقعية بالفعل.ولا أستطيع أن أسميها تخييلا ذاتيا ـ إنها ذاتية بالفعل.و لا أستطيع أن أسميها تخييلا بصريا إنها رواية بصرية شاملة بالفعل.ولا أستطيع أن أسميها تخييلا جماليا.. إنها راصدة لحي ميت حدر بالفعل ‘ ولو اتفقنا على اعتبار أنها رواية سيرية فأمامي فعل البوح الذي يعتبر شرطًا أساسيًا في كتابة السير الذاتية .. لماذا نكتب السيرة الذاتية .. قد تبتعد المذكرات عن هذه الحالة قليلا حيث التوثيق التاريخي الأمين باعتباره شهادات .. فعل البوح واضح وبكثرة عبر تقاطعات المشاهد السردية. وحول فعل التجريب المتعمد تلوح لنا عبر اللوحات السردية حالة غموض والتباس أخرى ‘ هذا الالتباس المقدم بين حضور ووقوع فعل التذكر (الأب أم الابن) .. يحاول الكاتب أن يقنعنا بأنه يكتب مذكرات أمليت عليه من والده، ومع كون الكاتب من مواليد 1977 يكون عمره أربعين سنة .. وبافتراض أن الوالد أملى عليه طفولته (أي طفولة الوالد) وهذا لن يكون البتة .. إذن الكاتب يكتب طفولته هو لا طفولة الوالد التي تبعد عن فترة الثمانينيات. إن لغز كاتب المسرح وحكاية أجاثا كريستي سنة 1984 تعني أن عمر السارد وقتها كان سبع سنوات .. وأعتقد أنها السنة الأولى التي بدأ منها الكاتب فعل التذكر .. السنة السابعة من عمره .. والظن أنه يقول لا يريد أن أتذكر .. مثلما مرت سبع سنوات من عمري بلا تذكر وكذلك السنوات الأخرى وإن انطوت على أفعال الحكي الآتية التي قسمها أيضًا لسبع مسودات لتعادل المخفي من عالم التذكر عنده حيث السنوات السبع من عمره الأول. الشاهد أيضًا أن السنوات السبع مثلت حال الجميع بالكامل مع التركيز على السينما باعتبارها مرآة كاشفة وبعض المشاهد الموصوفة مع ندرة في الحديث عن الشأن السياسي وظني أن الكاتب يراها فترة موت سياسي .. أو ربما هذا هو ما يهم الطفل .. أن يكتب عالمه الخاص .. من فعل القصدية أيضا ما تمثله المقطوعات الشعرية أو جملة القصائد المبثوثة داخل الرواية. من الاستشهاد ببيلي كولينز حتى قصائده نفسه. (ص4) قصائد حول بلوغ العاشرة. ـ المسودة الأولى (قصيدة) مكتوبة عن الجرح (للبالغين فقط). ـ المسودة الرابعة (بأمل أن تغفر لنا الرمال المتحركة هذه الضوضاء الخفيفة). ـ المسودة الخامسة (الحبل السُري). والظن أن هذه القصائد تتمثل داخل الوعي وانفتاحه عند الشاعر بما يعني أيضًا فكرة القصدية التي أردت تأكيدها.و فعل القصدية أيضًا تمثله اللوحات البانورامية، الكاشفة في نهاية كل مسودة والمعبرة عن (إعلانات الأفلام والمنتجات .. أشهر الأغنيات والأفلام الأجنبية .. ماركات السيارات .. أفلام الكارتون .. أهم المقطوعات الموسيقية .. الروايات والقصص .. الأحداث .. الأزياء .. الشعراء: فؤاد حداد وسيد مكاوي) وفي الظن أن الفنون ونجاحة الفنون الشعبية هي الكاشفة بحق عن حركة المجتمع. هناك أيضا حالة الاستبطان المتبعة في تحري سلوك الشخصيات .. وهي ليست حالة تنماز بها الرواية .. هي حالة كتابة .. منهج حكي .. أو هكذا يكتب ممدوح رزق .. الاستغراق الكامل في فعل المحاججة النفسية بينه وبين الشخصيات وهذا لا ينفي تنوعه. خذ مثلا لهذا الرأي من خلال الوقوف ما يلي:(جسد باتجاه نافذة مغلقة ـ بعد كل إغماءة ناقصة ـ انفلات مصاحب لأشياء بعيدة ـ النمو بطريقة طبيعية). والسابق بالتأكيد يجعلنا نعيد قراءة العناوين في مجمل الأعمال .. لكن بما أن العنوان (إثر حادث أليم) قصدي فهو أصلا بنية غير مكتملة .. هناك ما ينقص سواء على مستوى الابتداء أو الإخبار…إما أن يكون المبتدأ مخبأ بقصد (محذوف) تفصيلات محذوفة، أو البنية الإخبارية ناقصة .. هذا معناه محاولة لجذب انتباه المتلقي وفتح آلية اندهاشية جذابة في العنونة .. ـ إثر حادث أليم ؟! … ماذا؟ـ السيء في الأمر؟! … ماذا؟ـ بعد صراع طويل مع المرض؟! … ماذا؟. أخيرًا… كسر أفق التوقع من خلال الاعتماد على البنية والحدث…والحق هناك جملة من الروايات تستطيع أن تتوقع سلوك البطل وتحول الحدث .. ربما أغلب الروايات قديمًا لكن المدهش حقا أن ممدوح رزق يكسر أفق توقع المتلقي .. هو يتذكر كي لا يتذكر .. أي ما يكتبه .. ليس فيه ما يدعو للتوقع .. محاولات هائمة. هناك أيضا بنية المفارقات غير اللغوية .. سلوك الطفولة بكل جماله، وهناك فعل المراوغة الأسلوبية والتي ظهرت في البدايات والنهايات، ومع أن الحكي أو السارد طفل، لكنه يراوغ في سلوك الكبار. من ذلك ص59 (التعامل مع البلطجي .. هذا الهاجس والخطر الذي يتمثل لنا دائما ..) كيف يقع مع الطفل .. (كان الارتباك ستارا لذلك الحائط الصلب الذي اصطدمت به غفلتي على نحو مفاجئ بعدما رأيت في الحياة من بإمكانه أن يخاطر بالابتعاد عن الباب الذي أقف عنده منذ زمن دون أن أنجح في عبوره .. لم تكن عندي مشكلة في التغاضي حالا عن كافة العوائق المنطقية) (ص60 ـ 107 ـ 109 … إلخ). وهناك فعل التوليد العباري المائل للتجسيد: فمن سمات النص السردي عند ممدوح رزق البدء بالإجمال ثم الجري وراء التوليد العباري المجسّد من خلال البنية اللغوية الأولى .. يمارس ما يسمى بفعل التوليد العباري المجسّد، وهذه الحالة الأسلوبية تستدعي جملة من الأشياء: المعاينة أو المشاهدة الحقيقية للشيء. التركيز على التفصيلات غير الواضحة. القدرة على التقاط المتناقض في السلوك أو البيئة. الصبر للإبداع حتى النضوج. ولعل هذا الأمر يمثله هذا الوصف أفضل تمثيل ص (13) (مريلة. (تيل) (لونها بيج) (ذات جيبين واسعين مكوية مفرودة ـ تغلق بأزرار خلفية ـ لها حزام يمر عبر فتحتين كل منها في جانب، ثم يربط من الظهر..). وكذلك (وصف الكرافتة) (كبيرة ـ ثقيلة ـ منسوجة من الصوف السميك المضلع، كان احمرارها غامقًا .. لها أستك .. رفيع .. من النوع الذي يستخدم في الكلوتات). هذه الآلية ليست موجودة في الشيء المادي فقط .. هناك أمثلة على التوغل المهندم في نفوس الشخصيات عبر هذه الآلية الجذابة الساحرة: هناك أيضا حسن الإصغاء للعوالم المهمشة..‘وهي العوالم التي تحدث الفارق دائما .. التاريخ يقول ذلك وكل الثوريات يقودها المهمشون ومن ثم كان الالتفات الآن للدراسات الثقافية التي تهتم في أساسها بالبحث في هذه العوالم وأزماتها وكيف تصوّر الأزمات ونوع خطابها وما تفكر فيه وكيفية الاستحواذ عليها عبر ما يسمى ببلاغة الجمهور وسلوك السلطة ولعل ميشيل فوكو من أوائل الذين التفتوا إلى ذلك .. هذا العالم المهمش بدا واضحا عند ممدوح رزق: عامل الفرن الذي يجلس طيلة الليل ولا يبيع الفينو إلا بهواه وبخاصة من يهوون حرفة الصيد مثله ص 14.. من سمات التجريب في الرواية عند ممدوح رزق: ـ تراجع صوت الأيديولوجيا في النص ـ تراجع حركة التاريخ في النص ـ صعود صوت الذات والفرد والوعي ـ الوعي بالبناء الاستيطيقي (الجمالي) للشكل الروائي – الوعي بحركة السرد – اعتمد السارد الذي يحكي في إطار صيغ كبرى أحداثا ووقائع – ابتعد كثيرًا عن أقوال الشخصيات أو عرض الأقوال، واعتمد السارد أيضًا إلى جانب الحكي الخطاب كآلية حاملة للتنوع.

…………..

*جريدة (أخبار الأدب) ـ 20 مايو 2018

مقالات من نفس القسم