إبراهيم داود: كُلنا جالسون على الأرض

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاورته: إسراء النمر

صحيح أن كل شاعر يُشبه شعره، لكنني لم أكن أتوقع أن إبراهيم داود بسيط إلى هذا الحد، بسيط كالماء كما يقول رياض الصالح الحسين، فمن أول لقاء شعرتُ أنني أتحدث مع صديق قديم، صديق دافئ بالأحرى، وهو ما أربكني لأن هذه الألفة يكمن وراءها الكثير من الأحزان.. الكثير من الحكايات التي لم ترو، ولن تروى أبداً.

قال: لا تنتظري أن أقول لكِ كلاماً عظيماً. قلتُ: لا أريد كلاماً عظيماً، أريد كلاماً عادياً.. وأقل من العادي. فابتسم. ابتسامته تشي دائماً بالطمأنينة، فهو ليس مشغولاً بالمعارك، ليس مشغولاً بالمجد، إنه مشغول فقط بالبحث عن مكان آمن وأحضان تدربت كثيراً على الوحدة لتستمتع بوجوده.

داود الذي لا يملك في الحياة سوى الشعر، يتفادى الحديث عنه، كما يتفادى الحديث عن الآلام، فهو لا يحب أن يلعب دور الشاعر الواعظ، ولا يحب أن يظهر كما لو أنه يتحسر على الماضي، إنه يحب أن يتحدث أكثر عن المزيكا، ولكي تعرف ذوقه عليك أن تستمع إلى أغنية “الأولة فى الغرام” عامين على الأقل.

سألني إن كان معي فلاشة، فهززت رأسي بالإيجاب، وأعطيته إياها، وحين عدتُ إلى البيت، وجدتُ الفلاشة بها الكثير من الأغنيات.

لا يتذكر داود إن كانت هناك أغنية معينة تلهمه بالقصائد، ولا يتذكر متى بدأت علاقته بالمزيكا، لكنه يتذكر أن تعرفه المُبكر على السميعة الكبار: خيري شلبي ونجم وعمار الشريعي وعلاء الديب وإبراهيم منصور أفاده في فهم المقامات، وفي تحديدها بسهولة.

المزيكا تمثل له رئة إضافية، فحين يضيق بالكتابة وأهلها، يحتمي بها. كما يحتمي بالمقاهي والبارات، أماكن الغرباء، فبالرغم من أنه يعيش في القاهرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً إلا أنه يرى نفسه غريباً، ويشتد عليه هذا الإحساس كلما تغيرت الشوارع، وكلما غادره الأصدقاء.

يقول في ديوانه الأحدث (كُن شجاعاً هذه المرة): لا يوجد شيء مؤكد/ يوجد كلام/ وخوف/ وبالطبع أمل.

ذهبتُ إليه وكُلي طموح أن أفتح أبوابه المتعددة، لكنهُ لم يسمح لي سوى بباب واحد، أو ربما أنه لا يملك سوى باب واحد!

إبراهيم داود مُحرض ليس فقط على الحياة، وإنما على البساطة، فهو يجعلك تتخفف من كل شيء.

BeautyPlus_20190719111730582_save.jpg

دعنا نبدأ من عند المزيكا، هل بإمكاني التعامل معك على اعتبار أنك كاتب متخصص فيها خصوصاً أن كتابك (طبعاً أحباب) كان به حضور كبير للمطربين؟

لا تتعاملي معي على أنني متخصص في شيء، أنا مجرد شاعر وحيد، والوحيدون كما تعرفين لديهم عطش للطمأنينة، والمزيكا من الأشياء التي تُطمئنني، لذا أحب أن أكون دائماً في حالة سماع. المزيكا بالنسبة لي علاج واحتياج إنساني. وليس في الأمر أي شيء من الرفاهية، أو أي رغبة في التميز. أنا نشأت في بيت ريفي بسيط، واعتدتُ منذ صغري على الجلوس جوار الراديو، وعلى التردد على الموالد والحضرات، وكنتُ محظوظاً بأصحابى السميعة، أصحابي الذين ليسوا بمثقفين أو بموسيقيين، أصحابي العاملين في المقاهي والورش، الذين يلفتون انتباهي إلى مقام بعينه، والذين يروون لي حكايات الآلاتية، أصحابي هؤلاء لا يختلفون عني في شيء، هُم أيضاً بحاجة إلى الطمأنينة.

هل أنت متطرف في حبك للمزيكا.. تنحاز مثلاً إلى مطرب معين،إلى نوع معين؟

لستُ متطرفاً في شيء، أنا متطرف فقط في حبي للنادي الأهلي.

أعرف حبك الشديد لمحمد عبد الوهاب، لذا أريد أن أعرف ردك علىهؤلاء الذين يتهمونكم بالتناقض، لأن الحداثة في الكتابة لابد أن تصاحبها حداثة في المزيكا، وهم يرون أنكم توقفتم عند محمد عبدالوهاب.

من يقول هذا متعسف جداً، ولا يفهم في الحداثة، لأن الحداثة لا تعنى تجاهل القديم. كل ما في الأمر أنني لا أحن إلى المطربين الجدد، لذا لا أعاود سماعهم. كما أنه ليس ضرورياً أن يكون كل جديد حداثياً. أغاني المهرجانات على سبيل المثال ليست حداثية، لأنها في رأيي تحض على العنف، لكنني في الوقت نفسه لا يمكنني أن أصادر حق الناس في سماعها، لأن الفقر وقلة الحيلة وعدم الثقة في المستقبل هو الذي أنتجها. من يتهمنا بالتوقف عند عبد الوهاب هو نفسه الذي يتهم عبد الوهاب بسرقة الألحان. سأحكى لك موقفاً، مرة كُنا جالسين في حانة في شارع التوفيقية، وكان هناك شخص يردد هذه العبارات المحفوظة عن عبد الوهاب، أنه مُخرب، وسارق ألحان، كما كان هناك مجموعة من الشباب الذين يدرسون في معهد الكونسرفتوار، والذين جاءوا بآلاتهم ليستريحوا قليلاً، والذين استفزهم بالطبع الكلام، فما كان أمامهم سوى أن يعزفوا ويغنوا لعبد الوهاب حتى يسكت هذا الرجل. لنجد الحانة بعد ساعة من الغناء المتواصل ممتلئة بالناس. الناس الذين قد يكونون يدخلون الحانة لأول مرة في حياتهم.

 تريد أن تقول إن عبد الوهاب استطاع أن يوحد الناس على شيء؟

بالضبط. عبد الوهاب وسيد مكاوي ومحمد الموجي وبليغ حمدي وزكريا أحمد وأم كلثوم وشادية وعبد الحليم وغيرهم. فميزة كل منهم أنه جاء حاملاً معه أشواق أهله. الغناء لفترة قريبة كان يساهم في تماسك المصريين، التلاوة كذلك.

من أقرب المقرئين إليك؟ 

الشيخ مصطفى إسماعيل طبعاً.

والشعشاعي؟!

أحن بين الحين والآخر إلى عبد الفتاح الشعشاعي، وإلى عبد الباسط عبد الصمد ومنصور الدمنهوري والمنشاوي. لكن يظل مصطفى إسماعيل هو الأقرب إلىّ، لأنه يُدخلني في حالة من الشجن، ويجعلني أشعر أنني خفيف، ومغسول تماماً، كأن صوته ينزع صدأً ثقيلاً كان يمنع القلب من الرؤية. مصطفى إسماعيل أخذ بيدي في محطات من العمر لم تكن فيها الأحوال كما ينبغي. أذكر مثلاً حين كنتُ مجنداً في قوات حرس الحدود، وذهبتُ إلى مقهى ضيق جداً في الأنفوشي لأبدد فيه المخاوف التي سيطرت عليّ بسبب مرض أمي وبسبب الترحيل. كان الوقت حينها متأخراً، ولم يكن في المقهى سوى ثلاثة رجال يجلسون في وقار وينصتون لمصطفى إسماعيل وهو يتلو سورة الحاقة. طلبتُ منهم أن أجلس معهم فوافقوا بفتور. في البداية تظاهرت بالاستماع، ولم أتكلم، ولم يتكلموا، لكنني بعد لحظات أحسستُ بالدماء وهي تصعد إلى رأسي، وبالسماء وهي تفتح أبوابها لي، فبكيت.. بكيت بشدة، وهو ما جعل الرجال يقتربون مني بحنو وعطف نادرين. ومن حينها وأنا مسكون بصوت مصطفى إسماعيل.

قلت إنك تكتب عن مصطفى إسماعيل لتكتشفه.. ماذا اكتشفت؟

هو أعظم قارئ للقرآن الكريم في الأعوام المائة الماضية.  مصطفى إسماعيل نهض بالتلاوة كما نهض عبد الوهاب بالموسيقى. وأجمل ما فيه أنه استفاد بفطرته المصرية الريفية الخالصة من تراث المصريين في الحكي والغناء والذكر، بحيث يخطفك صوته ويذهب بك إلى عوالم غنية بالإشارات والإيحاءات الذكية.

هل تنشر تسجيلاته النادرة بين أصدقائك بدافع ديني؟

لا أبداً، أنشرها بدافع الحب.

وتدافع عن مدرسة التلاوة أيضاً بدافع الحب؟

مدرسة التلاوة المصرية لا تقل أهمية عندي عن السد العالي أو السكة الحديد أو المشاريع الكبرى التي يتحدثون عنها الآن. ورغم أنني لستُ من عشاق مصطلح القوى الناعمة، لأنه اُبتذل، إلا أن هذه المدرسة ظلت لفترة طويلة تهوّن على المصريين وتساعدهم على العيشة. هذه المدرسة للأسف تم استهدافها – كما تم استهداف كل شيء – من الوهابيين، والذي أنقذها التسجيلات التي ننشرها فيما بيننا.

أدافع عن مدرسة التلاوة وعن رموزها بدافع وطني في المقام الأول لأني أريد لمصر أن تعود.. مصر المتدينة المُتسامحة السميعة.

الفكرة أننا لا نجد كثيرين يتحدثون عن هذه الأمور..

أفهمك. هناك اعتقاد لدى البعض أنه لكي تصير تقدمياً، لا يجب أن تتحدث عن الدين، والقرآن. ورغم أنني يساري، إلا أنني لا أستطيع أن أرفض القرآن لسبب وحيد أن الناس يؤمنون به، وأنا مع الناس في أي شيء.

BeautyPlus_20190717163955633_save.jpg

-هل القرب من البسطاء يفيد الشاعر، أو بمعنى آخر، هل على الشاعر أن يتبنى قضايا البسطاء؟

لستُ مشغولاً بوظيفة الشاعر، ولا أقيم علاقة مع أحد كي يُلهمني. أشعر بالألفة والونس والراحة مع البسطاء، لأنني أكون معهم على طبيعتي. هم لا يريدون مني شيئاً، ولا يعرفون سوى أنني إبراهيم. إبراهيم الذي لديه تراث ثقيل من الأحزان. إبراهيم الذي يبحث عن البهجة، والذي عثر عليها في لحظات قليلة من العمر. البسطاء يذكرونني بأهلي، وكثيراً ما أهرب إليهم بعد أن أنهى جلساتي مع أصدقائي الفنانين والمثقفين.. أحبُ البسطاء ويحبونني لأسباب لا يعلمها إلا الله.

-أعتقد أنهم السبب في أن تكون علاقتك بالقاهرة فريدة من نوعها..

نعم، الناس فتحوا لي بيوتهم، وأخذوني إلى عوالمهم الغنية. أنا موجود تقريباً في كل مكان. في بولاق الدكرور، وفي الأباجية، وفي الغورية، وفي حوش آدم، وفي وسط البلد، وفي عابدين، وفي فيصل، حتى في المهندسين والزمالك.

-كيف تعرفت على القاهرة؟

تعرفتُ على القاهرة بمنطق المكفوفين إذ كان عليّ أن أمسك الشبابيك لأعرف أنها شبابيك، والأبواب لأعرف أنها أبواب. كان عليّ أن أصعد المآذن، وأرقص مع موسيقى الزجاج المعشق. لقد قررت من البداية أن أكتشف بنفسي -وبدون مساعدة أحد- الأماكن والطرقات، وأعظم الاكتشافات بالنسبة لي هي الطرق الجانبية، لأنها تُشعرني أن أسرار المدينة لا تنفد أبداً. القاهرة تناسب رجلاً مثلي؛ مشَّاءً وحزيناً. جئتُ إليها فور تخرجي في الجامعة. وكان لابد من آخرين أشعر معهم بأنني في بلادي، وفي لمح البصر صار لي أخوال وأعمام. وكنتُ محظوظاً لأنني أترك دائماً انطباعاً جيداً في البيوت التي أعيش فيها. أنا عشتُ تقريباً في 15 بيتا، لأنني طيلة الوقت ليس معي المال الكافي لأشترى بيتاً، ولأنني لا أحب الاستقرار. في هذه البيوت التقيت برجال يسندون الأيام بأجسادهم، وبنساء يبحثن عن أسباب للسعادة، وبدراويش لا يجدون في خطواتي ما يزعجهم.

-بيت الفاجومي من البيوت التي احتضنتك.. كيف كانت الحياة معه، وما الموقف الذي لا يمكن أن تنساه؟

عشتُ مع الفاجومي أجمل سنوات عمري، فكان يسمح لي بمقاسمته غرفته المكونة من سرير عريض يطل على الحارة وثلاجة أيديال 12 قدماً وكنبة في مواجهة الشقة المقابلة. السرير بالطبع له، والكنبة لي. في بيته عرفتُ “نُص” مصر، وتعلمتُ أن الحياة هي أهم مصادر المعرفة وأن الغناء أعظم ما فينا حتى لو كانت أصواتنا لا تصلح. الفاجومي احتضنني من قبل مجيئي إلى القاهرة، إذ كان يتردد كثيراً هو والشيخ إمام على قريتنا في بركة السبع، ليزورا رجلاً اسمه محمد جاد الرب. الفاجومي مدرسة كلها بهجة وعلاقات وقمار. لن أنسى أنه بكى في ليلة شتوية ممطرة لأنه لم يكن يعرف ماذا يفعل لي، لأن حرارتي كانت مرتفعة جداً، ولم يكن هناك وقتها موبايلات أو صيدليات قريبة كي يستعين بأحد ليُسعفني. الفاجومي والحارة والشقة المقابلة التي كان يسكنها الحاج إسماعيل وزوجته الطيبة وعربي وسحر ومنى جزء من تاريخي.

-كنت صديقاً أيضاً للأبنودي. ألم تجد صعوبة في الحفاظ على علاقتك بهما والاثنان خصمان؟

نجم والأبنودي أستاذان كبيران. نجم انتخبته اللغة الخام ليكون لسان الفقراء ضد الظلم، والأبنودي يعرف من أين يأتي الشعر ويعرف كيف يقوله. كنتُ أرى أننا بحاجة إلى الاثنين لنشكل فريقاً جباراً ضد أعدائنا، لذا لم أتورط يوماً في “التسخين” بينهما، ولم أسمح للخلافات التي بينهما أن تؤثر على علاقتي بأي منهما، صحيح أنني كنتُ أهاجم الأبنودي على بعض آرائه ومواقفه، لكنه ظل صديقي حتى آخر يوم.

-وماذا عن أصدقائك الآخرين، أي منهم لم تكن تتوقع غيابه؟

كلهم تقريباً: خيري شلبي، وحلمي سالم، وإبراهيم أصلان، وعمار الشريعي، وعلاء الديب، وسيد حجاب، وجمال الغيطاني.. هؤلاء كانوا عزوتي، وناسي، ولم أكن أتصور أنه سيأتي اليوم الذي أعيش فيه بدونهم، ولم أكن أتصور أنني سأعجز عن استدعائهم.

-قبل عشرين عاماً كتبت أنك تشعر بقوة خرافية تدفعك لممارسة الحياة بشكل وحشي.. هل لا يزال لديك نفس الشعور؟

لم أتوقف يوماً عن حب الحياة. بإمكاني أن أفعل أي شيء. أن أرتاد أماكن خطرة، أن ألقى بنفسي في الجحيم، أن أغني، أن أرقص، أن أحب، أنا بحاجة دائماً لأن تكون بصحبتي امرأة، امرأة أشعر معها بالأمان، امرأة لا تُشعرني أنني أرتكب جُرماً حين أصمت، أنا -كما ترين- لا أتكلم كثيراً، ولا أدعي أن لديّ ما أقوله، أنا بحاجة فقط للألفة، الألفة التي يستهين بها كثيرون، والتي تدفعني لأن أمشي طويلاً، ربما ألتقي صدفة بشخص أعرفه. الحياة بالنسبة لي فرصة لا تعوض، لذا أريد أن أعيشها كما ينبغي، وكما يرضي ضميري. أنا حتى الآن لم أحسم أمري تجاه أشياء كثيرة، لأنني لا أعرف أي شيء بشكل نهائي. أريد من الحياة أن تسير بهذا الإيقاع الهادئ الذي تعودته منها. أريد أن تمنحني دائماً القدرة على الكتابة، والقدرة على الفرح.

-لماذا سيطرت مشاعر الهزيمة إذن على ديوانك (كن شجاعاً هذه المرة)؟

في هذا الديوان أرثي الحلم الذي عشتُ من أجله. أرثي ثورة يناير. لكن على المستوى الشخصي، لا أشعر أن الحياة هزمتني، ولا أشعر في نفس الوقت أنني انتصرت عليها. عشتُ دون رغبة في الامتلاك، أو المجد. وظيفتي الرسمية استلمتها وأنا عمري 38 عاماً، لأنني كنتُ أرفض كل الفرص التي ضد قناعاتي والتي كان بإمكانها أن تُحقق لي الرفاهية. عنواني لم أغيره إلا حين وصلتُ للأربعين، لأنني لم أكن أمتلك بيتاً في القاهرة.. أنا حتى الآن لا أمتلك بيتاً في القاهرة، أعيش في شقة إيجار، وليست لديّ مشكلة في ذلك.

-ما السبب وراء شعورك بالوحدة؟

أشعر بالوحدة لأنني محاصر بالأكاذيب، ولأنني لا أستطيع مجاراتها، أو محاربتها. أشعر بالوحدة لأنني أعمل في مهنة لا تحترم عشاقها. أشعر بالوحدة لأنني أجاهد كي أكون على طبيعتي، ولأنني أكتشف كل ليلة أن شيئاً ما فاتني.. كان يجب ألا يفوتني. أشعر بالوحدة لأن البيوت تموت مثل أصحابها، ولأن الشوارع تضيق. أشعر بالوحدة لأنني لم أعد الريفي الذي دخل المدينة بأقماره، ولأن المدينة لم تعد مضيئة كما كانت. أشعر بالوحدة لأنني لا أعرف نهاية للطريق.

BeautyPlus_20190719105807025_save.jpg

-“لم أكتب سطراً واحداً له قيمة أدبية حقيقية”.. هذا ما يقوله أنطون تشيخوف، وهذا ما تقوله أنت أيضاً، أليس كذلك؟

نعم. حين أعيد قراءة ما كتبته، أشعر أنني ضيعت عمري في أشياء بلا قيمة، وأنني كان يجب أن أكتب شعراً أفضل من ذلك، وأكثر من ذلك.

-لكنك لست مُقلاً، لديك ثمانية دواوين، وميزة ما تكتبه أنه بسيط، وخالٍ من الزخارف.

منذ ديواني الأول، وأنا أحاول أن أكون بسيطاً، وأن يكون لي بصمتي، وعالمي الخاص، ولم أدَّعِ يوماً أنني أمتلك يقيناً، أو شيئاً لأعلمه للقارئ، لأنني لستُ جالساً على دكة أو منبر، والقارئ ليس جالساً في مستوى أدنى. بالعكس، كلنا جالسون على الأرض. ما أطمح إليه دائماً أن نصير أنا والقارئ أصحاباً، وأن نشعر معاً بالونس. الشعر هو الشيء الوحيد الذي يجعلني متماسكاً، لذا أنا أكتب دائماً في قصيدة ما.

-طيب، هل ترى مثلاً أن الصحافة عطلت مشروعك الشعري؟

ليس لديّ مشروع شعري. أكتب دون خطة، ولا أعرف حتى الآن كيف أصدرت هذه الدواوين. أما بالنسبة للصحافة فقد دخلتها على حس الشعر، إذ قرأ لي يوسف إدريس قصائد متناثرة، ولما أعجبته سأل د. غالي شكري -بالصدفة- عني، ومن حسن الحظ أن الأخير كان يعرفني، فحدد لي معه لقاء، ومن أول دقيقة صرنا أنا ويوسف إدريس صديقين، واقترح عليّ أن أترك المحاسبة وأعمل في الصحافة، لأن المهنة -حسب قوله- بحاجة إلى الموهوبين، وتوسط لي كي أعمل كمحرر ثقافي في مكتب الوطن الكويتية بالقاهرة، ومن حينها وحتى اليوم لم أشعر أن الصحافة عطلتني، بالعكس الصحافة مهمة جداً للشاعر -أو الكاتب- لأنها تُدربه على الاستجابة.

-لماذا تكتب السرد؟

لأن لديّ حكايات كثيرة لا يحتملها الشعر، ولأن السرد يُحرضني على كتابة الشعر، ولا أشعر بالمناسبة أنني بذلك أخون الشعر، لسببين أن ما أكتبه من سرد يُشبهني تماماً، ولأنني لستُ مشغولاً بتصنيف ما أكتب، فالكتابة عندي ضرورة، إنها وسيلتي الوحيدة لأقول إنني حي.

-كيف ترى حال الشعر الآن؟

رغم الحصار المفروض على الشعر، إلا أنني أراه في أفضل حالاته. الرواية -على عكس ما يروج له النقاد المتحذلقون وعلى رأسهم أستاذي وصديقي الدكتور جابر عصفور- في تراجع. لأن الرواية بنت الزمن، والمدينة، والروائيون الآن سواء الشباب أو المتقدمون في العمر يرون أن الرواية بإمكانها أن تُكتب في ليلة أو ليلتين. وحتى لا أظلم أحداً، توجد حالة رواية حلوة، لكن لا توجد رواية عظيمة سواء في مصر، أو البلاد العربية.

-في النهاية أريد أن تقول لي ما الشعر؟

الشعر هو كل ما يخطف القلب.

…………

*عن “أخبار الأدب”

مقالات من نفس القسم