أَنْدَلُوسِيَا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 47
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ناصر الحلواني

في مثل الظهيرة، يكون مَقَامُ الشيخ الأنصاري خاليا إلا من خادم المقام، غافيا في ركن رطيب، وإلا من بضع شمعات محطوطة في قاعدة شُبَّاكِه، تُصعِّدُ نورها ونارها إلى النهار الفَرِح بشمسه، تدفئ فضاء المقام الخالي إلا من الكسوة الخضراء الباهتة، والمزيَّنة بالقصيدة المُحاكَة بخيوط الفضة، وتنعكس على زجاج شجرة النبوة، في بروازها العتيق، في صدر الحائط المواجه للباب، وتُلقي بظلال قضبان الشبَّاك على جسد الخادم، النائم، يحلم بإنسية تؤنسه.

وفي مثل الظهيرة، يكون في سطوحه، جالسا في ظل التكعيبة الصغيرة، فوقها أوراق الياسمينة، تحمل عنه دَفق الحرِّ، فيكون لاحتراقها عطر نشوة خفيفة، تذكِّره بالمساء، وبعُرفِ فرس مجدولة شعراته الصهبة، ملضومة بخرزات، بحرٌ لونها وعميقة الزرقة، وبسَرجِه الموشَّى بتفاصيل حكاية شعبية، وبفارس مطهم، شاكي المعارف، مزجَّجٌ مقبض سيفه بتواريق أرابيسك، ومكحَّل بقراءات من فضة بيضاء، تنأى بقابضه عن خِزي التجرُّدِ من النصل، وعلى مضاربه، تركت دماء لا قاها علاماتها، ونهايات حلولها.

وفي مثل الوقت، يصخب الشارع بعياله العائدين من مدارسهم وكتاتيبهم، أو مشاويرهم للأسواق القريبة، أو غاراتهم على الحارات المجاورة، ويرجع الرجال من أعمالهم وتصعلكهم، والنسوان بلوازم يوم، ومشاغل حياتهن.

وأمام باب المقام، يمر الجميع، يحيونه بالفاتحة أو بالسلام عليكم، أو بنظرة خاشعة أو متجاهلة.

وأمام البحر، يقف الفرس بفارسه، يداعب بحافريه زَبَد مويجات لاهية، ترتد إلى بحرها مغسولةً برائحة صهيله.

وأمام كِنِّه، يقف ذكر الحمام المرقَّش، ينفض عن ريشاته رائحة مكانه، وجواره الفارس، يختال في سطوحه، أمام بحر ينتظره، وتحت صهد ينهمر إليه، وإلى تراب الشارع الصغير، ورؤوس العيال الحليقة، وأقدامهم الحافية، يزعقون، فتغيم خيالاته، ويعود للأشياء من حوله وضوحها الصارم، فيتجه إلى غرفته في زاوية السطوح.

يطير ذكر الحمام، يدوِّمُ، يناوش السرب المحلِّق فوق مطرحه، وتهيج رائحة المُخلَّلِ الحادة، المخلوطة بالتَابِلِ والبهُار، تصنعه أم الخير في دُجَى دكانها، وتتداخل حمامات السرب في حومانها، حبَّاتٌ بيضاء فائرة، تتحمم بنور نهار صابح، ويرجع إلى كِنِّهِ، تتبعه النتاية الذاهلة عن سربها، يحطُّ بها على سور السطوح، فتحطُّ، لا يفزعها صوت عصفور الخشب يضربه الصبي إلى أقصى الحارة، أو خبطات طيارة الورق في جدار البيت، تحاول أن تخلِّصَ خيطَها من فخِّه، أو الأشياء من حولها؛ المنضدة الصغيرة المعمولة من خشب صناديق، الكرسي المغزول بالقش الكِتَّاني، وظلهما الغافي يُعرِّشُ على جدار الغرفة المنفردة، تتردد في أنحائه القريبة من السقف خروم لم يصنعها طائر أو عشَّشَ فيها، فبانت مهجورة ومعتمة.

وعلى المنضدة المائلة قليلا، كان كتاب، وعلى الكرسي الوحيد يجلس، يدع للوجد سطوة الانفراد إلى فراغات القلب، يمد كفه التائقة إلى ملمس الكفِّ الحبيبة، يقبض الكتاب، يفتحه حيث زهرة لا تُنبِتُ إلا في جبلِها، تحمل أريج أرضها، تفوح بزهوها القديم، ويقرأ :

وأما العلة التي توقع الحب أبداً في أكثر الأمر على الصورة الحسنة، فالظاهر أن النفس تولع بكل شيء حسن وتميل إلى التصاوير المتقنة، فهي إذا رأت بعضها تثبتت فيه، فإن ميزت وراءها شيئاً من أشكالها اتصلت وصحت المحبة الحقيقية، وإن لم تميز وراءها شيئاً من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة، وذلك هو الشهوة؛ وإن للصور لتوصيلاً عجيباً بين أجزاء النفوس النائية([i])

وتفور المعاني، لتبدأ تملا الفراغات بين الأشياء، تضيئ بعض ظلال الكِنِّ المشغول بذَكرٍ ونِتَايَة يجربان التحليق في الداخل.

وكانت الكلمات تفيض على المنضدة والأشياء بصَبَابةٍ مُعتّقةٍ، تصعد بلاغتها رائقة إلى الخروم المعتمة، فتظل معتمةً في دفء، وتَخطُر في الأنحاء مجازات، تمازج ملامح وجه المهاجرة، يرسمها الآن في أوراقه المحفوظة لها، وتذوب في حروف القصيدة الموشومة في قوس باب حجرته، وتجتاز المسافة، إلى المدينة المحفورة في خشب الباب، إليها كانت المهاجرة، وإليها كان الفارس، بألوانه وأوتاره، وسيمياء معارفه بأسرار الزهر، وعِمارة النور والظل، بتراويح صلاة، وشبق بقدر المدائن، وبسيف مُختَبَر، وفرس محنَّى بالملح وذهب النار، إليها كان، يجول في دروبها المبلَّطة، ويصول في بحور شِعرِها، يمرُّ بشرَّافَات الأعالي الممزوجة بالسماء، وبأبواب الجوز، وتحت تعاشيق من الملاء والفراغ، ترسم نوافذَ، وأمام عيون تفوت أبصارها في نور المشربيَّات مثل تواشيح أندلسية، وفي حروف كتاب عن “الأُلفة والأُلَّاف”، وفي صلوات ليلية بين أعمدة بلقاء، تُراوح أقواسها بين الحمرة والبياض، وفي رحاب قباب تصعد أهلتها إلى سحابات طير صافات، تعبر المدائن، وفوق أسطح البيوت، وتعود، لتحُطَّ في تجاويف أعلى الأبواب، وشبابيك الصحاب، وفي أكنانها، تنفض عن نفسها عناء خوض السبل، إلى الجالس وحده، تأتيه روائح الشوارع، وصخب المارين، وخيالات فارس، فيدَعُ رسومه على مقعده، ويقوم إلى مدينته، إلى بابه المحطوط بين السطوح المفتوح على ممالك وخلفاء، كانوا، وحجرته الصغيرة المملوكة لأسرار ما كان وما سيكون، يرنو إلى قوس الباب، ويرتل:

تناوشني

أطياف الأندلس

فيرتاد ذاكرتي هوى

سلُبُ اللبَّ إلى طَوقِ حَمَامة

فأنزلُ على ابن حزم ناويا الإقامة

فيأخذ بي إلى أنحاء قرطبة

حيث عاش وعشق

وشقَّ عليه عشقُه

حتى مات

ويعود إلى أشيائه، وذاكرةٍ تصعد به إلى كَبِد اللحظة، وسماء تتهادى بزرقتها، ومفتاح قديم، وتساؤل: “أي زمن ينسكب الآن؟”، وتساؤل: “كم من الأزمان يحويها الآن؟”.

وفي أوراقه العائد إليها، تكون صبية، تعدو خلف طلِّها الآخذ في الذَّوبِ، وشيخ يرتل أوراده اليومية، لأجل أن يرى شمسا أخرى، ونِتَايَة مأخوذة باشتهاء أول، وطيارة ورق تتخبط بين حيطان البيوت، وكوب ممزوجة قهوته بالنهار الدافئ، يرشفها، ويُمسك بريشته، وينتظر الصِّحابَ، ويُبحر في أنحاء ورقة بيضاء، مشرَّبةٌ بلونٍ بَرِيقُه النار الفائرة من خشب سُفُنٍ عَدَّت به البحر إلى أندلسه، ينثني إليها، وإليها ينثني، وله تتبدى، فيَشُمُّ لها رائحة الفرس المغسول بماء البحر، وفيها، يرى ملامح السيف المرصَّعِ بغُبارِ خَطوِهِ إليها، فَتلْقاهُ، تتألق في نور الأشرعة المحترقة، مرفرفةٍ بغِلالة تَنشَدُّ إلى قوادمِها، تُريقُ له خرائط الجسد، وتوحي له “أن إليَّ“، فيمتطي صهوة الظل المخلوق من وَقِيدِ خشب السفن الراحلة إلى أزمنة البحر، ويَخُبُّ إلى موقع هجرتها، يَشمُّ لسفرها أريجَ غَارٍ، فيُسميها “رَنْد” وترنو إلى نقطة عينه، فتلمح ذاتها، فتناديه “نُونْ” وتنأى، وإليها يدندنُ:

يا رَنْدُ أسبابُ الوجودِ عالقةٌ

بوِصَالِ نُون حلولي في رائِكِ

إن كان غَارُكِ في الأجيجِ زاهرا

فأنا له عينُ الحصولِ التَائِقِ

ويَغمس الريشة في بقايا القهوة، يمر بها على شطآن المدائن المرتقبة، فتذخر بقوارب الفاتحين، تقبضُ قبضاتهم على مقابض سيوفهم، وعلى الظهور تتأرجح كنائنُ سهامهم، يرسمون خطواتهم في الرمل، ووفي التاريخِ أماكنَ، لها لوعة النَّصلِ، وروعة القصيدِ، ووَرَعِ الوحي الزاحف إلى الشَّطِّ، يسكن أسماء البلاد، وأجساد محارات، تُغيّبُها حوافر الخيل في قلب الرمال، وتدَّخرُها نوارسٌ لها لون السحائب العذراء، تُدَوِّمُ حول أطراف اللهبِ الصاعد في تناغم إلى السماء، تستَدفِئُ بالحَرْقِ، وفوق الأشرعة المُشَرَّعة للأجيج الذَّاهب إلى مواطن حَوَمَانِ الطَّيرِ، يعبرُ الذَّكرُ الزَّاجل، مرقشا، يحمل حول ساقه أخبار الوصولِ، ومفاتيح قُرطُبة.

……………….

  • “طوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف” ابن حزم الأندلسي.
  •  الفصل الأول من رواية “  مَطَارِحُ حّطَ الطَّيرِ  “

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون