أيقونات الكفراوى القصيرة المليئة بالحنين

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حوار :مروة كمال

سعيد الكفراوى الذى اكتشف جماعته وعرفها على المستوى الروحى، وراحت تشكل عالم القرية المصرية فى أعماله الإبداعية، كاشفة عن ولعه بأزمان منقضية، وأماكن مندثرة، وأشخاص أصبحوا بسبب التقدم فى العمر ميالين للعزلة، يدون الذاكرة الجماعية لهذا كله فى كتابة أشبه بالأيقونات، تمنح الشخوص والأماكن خلودا ملهما. جمع الكفراوى أربعة وثلاثين قصة منتقاة من مجموعاته المختلفة، ليضمها كتابه «شفق ورجل عجوز وصبى»، تلك القصص يلونها الحنين وجدليات الحياة والموت، عنها وعن الفضاءات التى يسبح خلالها قلمه يدور هذا الحوار..

  • لماذا كل هذا الحنين، والعودة المتجددة إلى عوالمك الأثيرة فى القرية.. هل هو المخزون القديم لهذا العالم.. ألا ينضب ذلك المعين؟
  • الكفراوى: سألوا كبير المقام الكاتب الكولمبى جارسيا ماركيز: كيف كتبت هذه الكتب. أجاب: كتبها الحنين. ثمة ولع بما انقضى، وأنا أحاول أن أقبض على ما فات ولو من كل عام يوم. فى قصة «قصاص الأثير» يصرخ السارد: غايتى أن أستحوذ على كل زمن يضيع.. هل فى إمكان أى مخلوق أن يستحوذ على لحظة زمن انقضى.. الفوت يضيع الحنين ويأتى به.. وأنت طوال الوقت أسير لأشياء حدثت يوما ومضت. أتساءل كثيرا هل الحنين هو الذاكرة من بعيد؟، يأتى ذلك الصوت، تعقبه لمعة من ضوء على المكان، وثمة أشخاص كانوا هنا ومضوا، وذكريات عشتها عبر أحداث بعينها تأتى الآن عبر ضباب العمر. كاتب القصص الجيد، اكتشف جماعته وعرفها على المستوى الروحى، وسمع ذلك الصوت الذى وصفه «باسكال» يوما بأنه يأتى عبر الآماد البعيدة فيرعبنى.. وتجربة أى كاتب فى العالم تتلخص فى الطريقة التى عاش بها حياته وأنا بالرغم من وجودى فى المدينة فإننى ما زلت أشعر بالوحشة فى تلك المدينة ودائما أنظر إلى أهل المدن كأنهم أشخاص منعوا بغير إنسانية من ممارسة حياتهم، هناك أتعرف بحرية أكثر، رغم تغير الظروف والأحوال، وهناك أيضا الجدليات التى كونت وعيى بالكتابة والتى أعزف على أوتارها تلك السنين. وسط هذه التجارب أصبحت صاحب هذا الصوت الذى ينشد تلك المنطقة الغامضة من أرواحهم، حتى عندما أكتب عن المدينة فلا أنشغل إلا بتلك المواقف التى تفجر الدهشة والسكينة. وربما فى أغلب الحالات الحزن وهى أحوال ينشغل بها ابن القرية والمدينة على السواء. من هنا تتواصل التجربة عبر أساطيرها وحكاياتها، وإعادة التقاط الخفى منها حتى يتوقف النشيد بفعل انتهاء العمر أو كما قالت أستاذتى سيزا قاسم « إنها رحلة فى ذاكرة الوجود».
  • يرى الناقد السورى صبحى حديدى « أنّ جوهر إنسان الكفراوى متغاير متبدّل متعدّد، كيف ترى ذلك؟.. وهل هناك جوهر إنسانى ثابت؟
  • الكفراوى: فجأة ننتبه إلى أن هذا الإنسان قد تبدل، أعنى أصبح غير ما كان سلفا والتغير حقيقة ثابتة فى جوهر الإنسان، الثابت يعنى الموت، ونحن من غير أن نشعر نعيش واقعا ملتبسا، ومتغيرات تحدث حولنا كل يوم. هكذا يتغير العالم ونحن أيضا، جرت تحت الجسر الكثير من المياه. تعمقت تجاربى، وكثرت أسئلتى حول نفسى والآخرين.. غيرتنى قراءاتى حتى هؤلاء الذين أكتب عنهم قد تغيروا. كنا نراهم يجلسون هناك فى رحبة الوقت على النهر، أو على رءوس الغيطان يسمرون ويقصون أجمل القصص.. تأملى ما حدث لهم، فى السفر والإقامة، تغير الثقافة والقناعة بالعيش، إحساسهم بالميتافيزيقا وعلاقتهم بالأدب. حتى إحساسهم بالحرية تغير».. يتقصى الأمان أهله، ويحيرهم السؤال، ويتعرف على فضولهم القديم، سيجد كل شىء قد تغير. وبطل قصة «كوتسيكا» فى مجموعة «يا قلب مين يشتريك» غير بطل العشاء الأخير فى مجموعة «مدينة الموت الجميل»، يعود تأثير الزمن علينا بالتغير وتغير الأحوال دلالة على مرور الزمن الذى له فى الفن معنى الخلود والحضارة.
  • نعيش الآن زمن الرواية.. ونشاهد حضورها الطاغى فهل يأتى ذلك الحضور على حساب القصة القصيرة فعلا؟
  • الكفراوى: من غير شك الشكل الروائى أجدر الأشكال على التعبير عن متغيرات حياتنا، وحياتنا تتغير بشكل يثير الرثاء، وهى فى حقيقتها تحتاج إلى ملاحم للتعبير عما يحدث فيها. كانت صنيعة د.جابر عصفور « الزمن زمن الرواية» إيذانا برحيل كتاب القصة إلى الشكل الروائى يكتبونها الآن فى الاستراحة بين إنجاز رواية ورواية أو ربما لكى تأتى بقرشين. أعتقد أننى من المؤمنين أنه لا يوجد زمن يخص نوعا أدبيا، أعنى يشكل فضاء لرواجه «كل الكتاب العظام من كتاب القصة يعيشون ويؤثرون وجميع من احترمت كتاباتهم فى القصة القصيرة ما زالوا يبدعونها، الزمان فضاء لكل الفنون الجيدة. وأرى أن «كاترين مانسفيلد»، و«تشيكوف»، و«كافكا» و«إدجار آلابو»، و«يوسف إدريس» ومحمد مستجاب هم أسياد الكتابة فى هذا الزمان. العالم والإنسان يحتاج للشعر والقصة كما يحتاج إلى الرواية، المهم أن تكون الكتابة جيدة فتهبها الخلود. والصوت الحقيقى يؤثر مادام يخرج من نص حقيقى. سأكون سعيدا حين أشرع بكتابة روايتى الأولى وأحتشد لذلك، لكن وما دامت لم تكتب بعد فأنا فرح بما أكتب، وأثمن تقدير النقد لهذه الكتابة، وحفاوة قارئ لم أكن أعتقد فى وجوده.. دعينا نبحر ما نود كتابته على نحو أفضل أما حكاية الوجود والوجود فهذا شىء آخر.
  • دعنا نتكلم عن التكوين والمرحلة الأولى فى حياة المبدع ووعيه، عن المنابع والمرجعيات التى أغنت وجدانك ككاتب وإنسان؟
  • الكفراوى: أنظر إلى الماضى وأندهش وأتأمل تلك الحياة التى خرجت منها.. لطفل قروى مثل ملايين الأطفال الذين يعيشون فى قرى مصر، يكابدون العوز والحاجة، ينتمى لعائلة من فلاحى مصر، هؤلاء الذين يبذلون ويخدمون الأرض وينتظرون الحصاد، وعبر طقوس عاشها هذا الطفل، ومعارف اكتسبها وبشر اقترب منهم وحواديت وحكايات سمعها، وفضاء ليلى على أرض تروى. أتذكر عندما اصطحبنى أبى ذات ليلة لأسوق الثور المربوط فى الساقية، كانت الدنيا فى غاية الظلام ونجوم ذلك الزمن لامعة ومبهجة وترصع السماء كحبات اللؤلؤ وهوى شهاب أضاء السماء، صرخت وجاء أبى وعمى من آخر الأرض وأنا أرتعش.. حتى الآن لم أعرف لماذا صرخت ولكننى بعد ذلك كلما رأيت نجما يهوى تذكرت ليلة الساقية تلك. أسرتنى الطقوس فى المياتم والأفراح وليلى الختان والموالد لأسياد شيوخ الطريق. اكتشفت الموت عندما رحلت بنت ضريرة كانت معنا فى الكتاب، وأمرنا سيدنا أن نسير فى جنازتها وحين واروها التراب انفحمت بالبكاء وتعرفت وقتها على معنى الرحيل والفراق. الزمن فيما أكتبه كما وصفه أستاذى الراحل شكرى عياد. زمن بئر يعكس معنى الحضارة والخيال، والبشر الذين أحبهم يسكنون ذاكرتى الفردية، ومن خلال الكتابة أحاول الكلام عن ذاكرة الجماعة. كما أن المكان فيما كتبته سواء فى القرية أو المدينة يتسم بالسحر، ويحمل خبرات من عاشوا فيه. أيضا ثمة شىء مهم قبضت عليه د. سيزا قاسم عندما تساءلت «كيف استطاع الكفراوى أن يستعيد الماضى ويستحضره؟ ليس الماضى الجميل ولكن فى قدرتنا أن نعيش فى أزمنة مختلفة، أن نتخلص من نير التاريخ».
  • فى أعمالك تتجلى عادة جدلية الحياة والموت وتضفى على قصصك شجنا لافتا.. فما سر هذا الحضور الظاهر للموت؟
  • الكفراوى: لم تقدس أمة من الأمم الموت مثلما قدسه المصريون.. انظر لتلك المقابر البهيجة التى اسمها الأهرام.. الموت فى شرع المصريين لا يعنى نهايه بل هو بداية الغرقى والمقتولين والمحروقين والذين ماتوا من الضنى لا يتركون البيوت بل تظل أرواحهم مقيمة حتى يضجر أهل الدار فيدفعونهم للرحيل، وهذا معتقد مصرى حميم.. و«الصفتى» فى «ستر العورة» لم يغادر الدار إلا بعد أن طلبت زوجته منه ذلك «اتركنا فى حالنا علشان أقدر أربى العيال». الحياة والموت يفضيان إلى الشجن، وأنا واحد من البشر يدمى قلبى الفوت والرحيل ويلتبس عليا الأمر ويحيرنى كلما اقتربت من تلك المنطقة الغامضة كروح الإنسان والزمن يتفجر الشجن والموت أيضا. وكما يقول د. صلاح فضل فى دراسة شديدة الأهمية عن كتابى «دوائر من صينى»: هكذا تلتقى الأزمنة فى المكان ذاته، وتفجر شخوص الماضى كل طاقة الشجن فى الحاضر ويطل الألم الرهيب والألوان المتغيرة توقظ ما حضر من قبل فى ذاكرة الإنسان عندما يتوهم أنه على حاله».
  • أشرت فى أحد الحوارات معك إلى علاقتك بوالدك حيث أصبحت إيجابية بعدما سمع لك قصة قصيرة تذاع فى الراديو وهو جالس مع العمدة؟
  • الكفراوى: رحم الله والدى ذلك الفلاح الأمى الذى كانت خبرته بالدنيا والناس والحيوان تكفى بلدا بحاله، صوته الخفى يخترق كل نصوص قصصى ريفية أو مدنية، فى أحيان كثيرة تأخذنى الجلالة وأظل أحكى وأحكى وعندما أتبين الصوت الذى يتكلم فى النبرة والإيقاع واللهجة أكتشف أنه صوت أبى.. كان يزدحم بخبرة الوجود وكان مشحونا بسرد الحكايات والنوادر وكان من الأحرار الدستوريين فى زمن كان فلاحو مصر كلهم وفديون، أحب عبدالناصر إلى درجة العشق وأطلق عليه صفات الأبطال ومحرر العبيد، العادل الذى رد الحقوق، هازم الاستعمار، وبطل العروبة.. وكان يصرخ فى وجهى: عارف يا جاحد لولا عبدالناصر دهوت كت لفيت بيك انت وإخواتك وأعمامك أشحت بيهم على الأبواب وكان المالك طردنا شوف عمل إيه فى الأغنياء. حبسهم فى الأقفاص زى البهايم وحط فى بق كل واحد فيهم بلغة.. حتى جرت المقادير بهزيمة يونيو.. وكان أبى يرى مجلس الشعب يرقص فرحا بعودة البطل بعد التنحى ينظر إلى التليفزيون بعين حمراء وسمعته يقول بيرقصوا بعد ما كسروا نفسنا، اخص على فعل الرجالة، ومن وقتها لم يأت بسيرة عبدالناصر ولا مرة حتى غادر الدنيا فلم يزرف عليه دمعة.
  • تحيا فى العاصمة، وتكتب عن قرية غادرتها.. ألم تستوقفك القاهرة إبداعيا، ولماذا لا يظهر تأثيرها عليك؟
  • الكفراوى: من قال إننى غادرت القرية؟ بيتى وأرضى وأهلى هناك، والقصص التى كتبتها عن القاهرة أكثر من قصص القرية، لكن ثمة إحساسا أننى كاتب قروى تشكل القرية وجدانه ورؤاه. هل تذكرين «بيت للعابرين» كلها قصص مدينة ونصف قصص « دوائر من حنين» وقصة البغدادية «وقصص قصيرة من سدرة ونصف قصص كشك الموسيقى وقصص ياقلب مين يشتريك» إلا واحدة، هكذا شاء النقد أن أكون فلاحا وأنا نفسى صدقت والمهم فيما أكتبه.
  • كيف ترى كتابات الشباب الآن.. وهل ترى أنهم قادرون على الإضافة مثلما أضاف جيلك للإبداع المصرى؟
  • ثمة موجة جديدة فى الأدب المصرى تحمل تباينا مختلفا وتؤكد معانى تمثل إضافة للكتابة المصرية فما بين شفوية السرد، ومشاهد من التفاصيل اليومية، والمفارقة التى تكسو قوانين الثبات، واختراق المحرم بقيمه الموروثة، والجرأة غير الأخلاقية على هذا الاختراق، وتذويب الكتابة أى اعتبارها سردا عن الذات. والقفز على القيم، قيم المواطنة والانتماء وتقديس روح الفرد، واعتبار أن العالم قرية واحدة لا وطن فيها لأحد والحفاوة بالجنس بكل صورة السهلة والعنيفة إضافة إلى تقديم سرد جديد مغاير. هذا بعض ما تقدمه الكتابة الجديدة وأنا أذكر هنا أن نفس المعانى قدمتها الكتابة عند الأجيال السابقة، عاشوا نفس الهامش ومارسوا نفس أشكال الكتابة، وغامروا، وقدموا مشروعاتهم المهمة فى الإبداع العربى. رهانى على بعضهم لأن أغلبهم لم يكتب سوى عمل واحد ونحن ننتظر إبداعاتهم الجديدة فى مقتبل الأيام، وعلىّ أن أكتب كتابة جيدة حتى يكتب الآخرون أيضا فلا كتابة جيدة تخرج من كتابة رديئة.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلا عن جريدة الشروق الجديد القاهرية

مقالات من نفس القسم