أيام أمى

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شعر‏:‏ أحمد عبد المعطى حجازى *

هذه أمى التى ماتت، وقد قاربت التسعين

لم تعرف من الأيام إلا ما انقضى من عمرها

وانطوت آثاره فى صدرها‏!‏

لم تكن أيامها إلا نهارات

 

تسير الشمس فيها من جدار لجدار

لم تكن إلا نهارا ينقضى إثر نهار

لم تكن أيامها إلا نهارا واحدا

 

تقطعه عودا على بدء‏، توافى نولها

تنسج ما يغزله الفجر من العتمة والضوء،‏

وما تحمله الطير لها

 

فإذا ما غابت الشمس‏، وضاقت حولها الآفاق‏،‏

هدت غزلها

ثم نادت أهلها الموتى‏،

وقالت قولها فيهم

 

وشدت فى المساءات إليهم رحلها‏!‏

منذ كانت طفلة، ‏كان لها الفقدان بالمرصاد،‏

لا تمنحها الأقدار إلا ريثما

 

تسلبها الأقدار ما فى يدها

فلها الأمس الذى أصبح عمرا ثانيا

يمتد باليوم الذى تفقده من غدها

ولها من أهله الموتى رسوم فى محاريب

 

تناديهم‏، فلا يسمعها غيرى،‏

ولايبكى سواى‏!‏

وأنا أذكر أمى فى صباها وصباى

كنت طفلا،‏

 

لا أرى فى المرأة الكاشفة الساقين

إلا أنها أمى التى تجلس للمرآة

تفشى عطرها الفواح

أو ترسم فيها كحلها

 

ثم تمشى فى ظلال الصيف كالطيف‏.‏

لها خدان من ورد

وعينان كما لو كانتا

 

من ذلك الحلم الذى تسهر فيه ليلها

كنت طفلا‏، لا أرى فيها سوى أمى

وكانت هى لا تعرف فى الطفل

الذى يملأ من فتنتها عينيه‏..‏ إلا طفلها‏!‏

 

لم يكن إلا أنا فى بيتها

فلمن كانت إذن زينتها

وهى تنادى أهلها الموتى

بما فى صوتها من شجن عذب‏،‏

 

وما فى صمتها

وأنا أتبعها منفطر القلب‏، وأبكى مثلها‏!‏

كنت مسحورا

وكان الموت قد أصبح فى أغنياتها جارا لنا

 

أو شقيقا توأما للراحل الغائب

يأتى معه فى حلمنا

يتراءى الوجه فى الوجه كظل راقص فى الماء،‏

أو مثل فراش حائم

 

من فوق وجه نائم

ينأى بعيدا‏، كلما نادته أمى

وهى تعدو خلفه واولداه‏!‏

وكأنى لم أكن طفلا،‏

 

وأمى لم تكن تلك التى تبكى ذويها

وهى تعدو فى الضحى

حافية محلولة الشعر،‏

كما لو أنها كانت تصلى لإله لا نراه‏!‏

 

وأنا أتبعها فى وحشة الدار،‏

وأعدو معها خلف جمال فاجع

يهرب من ذاكرتى إيقاعه الآن

وتستخفى رؤاه‏!‏

 

هكذا سارت بها الأيام،‏

لم تعرف سوى الفقد،‏

ولم يبق على العهد سوى الحزن

الذى كان لها خلا وفيا

 

مثلما كانت له خلا وفيا

لم تزل تبكى على الأموات حتى لم يعد دمع،‏

وحتى ابيضت العينان،‏

واسود المدى شيئا فشيئا

 

كلما فارقها لون من الألوان

كانت تقتفى آثاره بالذاكرة

وتلاقيه بوجه باسم فى سرها

وتنادينى

كأنى لم أزل فى حجرها‏!‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر مصري

 

مقالات من نفس القسم