أول الكلام

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طفلي الحبيب القادم،

أشعر بالرهبة وأنا أخط هذه الكلمات. إذ ما معنى أن أستبق وجودك بالرسائل؟!

أمر مربك ومحير بالنسبة لي أن أبدأ في البوح، أنا التي اعتدت التخفي خلف شخصيات روائية، تحمل كل منها شذرة منى، ومع هذا يفصلها عني محيطات من الاختلاف.

ذات يوم، كتب كافكا، صديقي الأقرب إليّ من أصدقاء أعيش بينهم، إلى ميلينا: “كتابة الرسائل.. تعني أن تعري نفسكَ أمام الأشباح، وهو شيء لطالما كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر. كتابة القُبل فيها لا يعني أنها ستصل إلى مكانها المقصود، بينما على العكس، يتخطفها الأشباح على طول الطريق“.

الآن، أفهم ما يعنيه كافكا، أكثر من أي وقت مضى. وعلى الرغم من هذا أثق، ربما لأن رسائلي إليك مكتوبة بحبر التوق ومداد الشغف، أن أشواقي ومعاني كلماتي، حتى ما غمض منها عليك، ستصلك يوماً ما كاملة غير منقوصة. لن تتخاطفها الأشباح، بل ستحملها لك، منذ هذه اللحظة، حوريات طيبات، سوف يكنّ رُسلاً بيننا. وفيما بعد، سأعاود حكيها لك المرة بعد الأخرى.

ها أنا أتعرى، مجازياً، أمام مراياي العديدة محاذرةً عدم الغرق فيها كنرجس حسن النية. ها أنا أكتب لتعرفني! عسى أن تكون كلماتي بطاقة تعارف أولى بيننا!

لا! أوقن أنك، بالغريزة وحدها، تعرفني كما أعرفك.

هناك، في داخلي، تعيد تكويني كما أساهم في خلقك. أحدس أنك تسمعني حين أتحدث، وتنصت لصوتي حين يُغني فجأة، أو حين أتشارك معك مقطوعة موسيقية بينما أستغرق في روتيني اليومي.

في آخر زيارة للطبيب، قال لي، ضاحكاً، وهو يتابع صورتك عبر شاشة “السونار”: انظري! ها هو جنينك. هذا رأسه وهذا عموده الفقري.

كدتُ أدمع من فرط رقة وهشاشة ما أرى. بدوت لي كرسم “كروكي” يسبح في سوائل الرحم. معجزة خلق صغيرة تتشكل بداخلي.

تخيلتني إيزيساً جديدة تجمع أشلاءك، كما جمعت إيزيس الأولى أشلاء أوزوريس التي وزعها أخوه/ قاتله “سِت” في أرجاء الأرض. كأنني أنتظر اندماج العضو بالعضو حتى يتكون الجسد النهائي وتولد كأوزوريس. غير أنه لم يولد على يد إيزيس، فقط عاد للحياة. أنت إذاً حورس جديد يمنح حياتي معنى إضافياً.

أعد الأيام في انتظار رؤيتك، “وجودك” يمنحني القوة والطاقة على مواجهة عنف الواقع وقبح السياسية. يهبني الأمل في أن الأحلام في متناول اليد. وأن الفوضى الضاربة في كل شيء حولي إلى زوال.

بفضول مندهش سألني صديق، حين تحدثت معه عن رسائلي إليك: هل هذا توثيق ذاتي للثورة؟ أهو رصد لمصر في لحظتها المرتعشة الحالية وهي تحاول أن تستفيق من آلامها؟ أم مجرد رسائل أم لجنينها؟

حبيبي السابح في فضاء حنون يخصك وحدك، لن أنشغل بهكذا أسئلة، وأعرف أنك ستفهمني دونما حاجة لشروح. ستقرأ كلماتي حينما تكبر، وأراهن أنك ستشعر بإمتنان ما لأني حاولت أن أصف لك أحوالنا عشية مجيئك. حاولت أن أكون ذاكرة تتكئ عليها كعكاز يساعدك على عيش ما لم تعشه.

لطالما شكوت من أني أمتلك ذاكرة كالغيم! تبدد ذكرياتها بحمق سحابة تتنازل طوعاً عن ما تكتنزه من مطر. ذاكرة كالغيم تحجب عني تفاصيل وحكايات كثيرة من عوالم طفولتي. كم كنت أتحايل على أمي بأقصى ما يملكه طفل من مكر، كي تدلني على ما لم أعشه، وما لم أعي عليه.

حياة هادئة على مقربة من نهر!  هذا ما كان يخطر على بالي حين أفكر في حياة أمي بينما تحكي لي. لكن حين أسترجع، الآن، ما أعرفه من هذه الحياة تبدو لي حياة شاقة، لم يكن للراحة من مكان فيها. يؤلمني أكثر أني لا أعرف إلاّ أقل القليل عن طفولتها: شذرات متناثرة كانت تسردها في لحظات صفوها، فتبدو كما لو كانت تُبحر بي في فضاءات أقارب لم أعاصرهم، وأماكن تغيرت كأنها لم تكن. وسرعان ما تقطع حديثها بلا تبرير، ربما لأن ذكرى ألم ما خايلتها ونغصت عليها نشوة الحكي.

من هذه الشذرات كونت فكرة عن حياة متخيلة لها، أسد ثغراتها بالخيال. عن طفلة جميلة بملامح أرستقراطية لا تتلاءم مع الواقع الريفي الخشن الذي ولدت فيه، بعد أقل من شهرين على حريق القاهرة في يناير 1951، وقبل “ثورة” 1952 بما يزيد قليلاً عن العام.

ذكرت لك منذ قليل أن لي ذاكرة كالغيم، مراوغة ولا تستقر على حال. وأضيف أن عينيّ كانتا مشدودتين دائماً نحو البعيد، خلف البحار والمحيطات. لطالما حلمت برؤية ما وراء الأفق، بلمس ما لا يُلمَس. لطالما اغتويت بالمُحال، وفي خضم هذا انشغلت عن الممكن والمعاش، وها أنا استعيده عبر الكتابة.. الكتابة إليك تحديداً، أي إلى نفسي. أشيد معك بالكلمات حياتي من جديد، أستدعي الهارب والمتواري، وأستل الذكرى من بين براثن العدم كي أنسجها في تعقيدات لحظتي الحالية.

أكتب إليكَ على أنقاض عالم يتداعى، وكلي أمل في أن العالم الجديد الذي سيقوم على أطلاله سيكون عالماً أفضل. لا أستطيع مجرد تخيل أنك قد تعيش في ظل فاشية عسكرية، أو دينية، أو، وهذا هو الأخطر، في ظل تحالف هاتين الفاشيتين.

أدون، بينما أقلِّب الأفكار في ذهني: عمَّ يفترض بي أن أحكي لكَ؟ عن القاهرة المدينة التي تحترف القسوة، أم عن محطات الوقود الخاوية من البنزين والسولار في حين تنشر الصحف صور عربات تفرغ حمولتها منهما في الصحراء أو في المصارف المائية دون أن يبادر أحد المسؤولين بالتصدي لهذا.

هل أحدثك عن الطوابير الممتدة أمام المخابز ومستودعات توزيع إسطوانات الغاز؟ أم عن الانفلات الأمني والبلد المتروك للصدفة في حين يتفرج المسؤولون عن ادارة المرحلة الإنتقالية، بشماتة كأنما يقولون للشعب: أتريدون الحرية؟ ها هي!

كل هذا سيجئ وقته في رسائل تالية، لكن الأفضل أن يبدأ الكلام بامرأة وحيدة تسير، بنصف وعي، في شوارع مدينة ملونة بالثورة ومعجونة بالجنون. مدينة عجوز تدمن الضجيج، مثقلة بتجاذبات السياسة، ومنهكة تحت وطأة أزمات مفتعلة.

ترتب هذه المرأة المدينة بعينيها، تعيد رسمها في خيالها. تمحو تفصيلة هنا، وتضيف أخرى هناك. “تفلتر” المشاهد أمامها، وتنّقي الهواء من عوادمه بروائح البهجة.

وحده الصوت يثقل عليها ويصيبها بالوهن. مدينتها (مدينتك أنت أيضاً خلال شهور من الآن)، مدينة الأصوات المتعانقة في رقصات هيستيرية صاخبة، لا تني تحاصر أذنيها بضوضائها، بينما لا تكف هي عن تجوالها الأبدي، كأن المشي، وحده، هو ما سيساعدها على الفهم.

أصوات جديدة، تذكِّرها بعام هو الأهم والأصعب في عمرها،  أُضيفت إلى القائمة الطويلة المعتادة: هتافات غضب وأزيز رصاص وصراخ لا ينقطع.

هذه المرأة المشغولة بترويض الوقت عبر اللعب المراوغ بالكلمات، تجلس في هذه اللحظة في شرفة منزلها، وهي تنسج، في انتظار وصولك، خيوط حكايات مهداة لك. تضع يدها على بطنها، كأنما تحتضنك. تداعب نادين، أختك التي ستبلغ العاشرة في يوليو القادم، وتبتسم حين تسمعها تتحدث عنك كأنك وُلِدت بالفعل.

سأخبرك بسر: نادين هي الأكثر فرحاً بك. تنتظرك بشغف أم. أجهدت نفسها في كتابة قوائم بأسماء الذكور والإناث كي نختار منها اسمك. تتعامل مع الأمر كرسالة مقدسة.

هل تعرف أنها من بين دوافعي لكتابة هذه الرسائل؟ كثيراً ما تسألني عن كل ما يخص فترة حملي بها، وسنواتها الأولى. عن حياتي أنا وأبيها قبل مولدها.

قبل سنة تقريباً زارتني صحفية أجنبية لإجراء حديث مطول معي حضرته نادين التي كانت تنصت بإهتمام لأجوبتي الخاصة بنشأتي، وانتقالي للعيش في القاهرة بمفردي في عمر الثامنة عشر، وصعوبة سنتي الأولى في هذه المدينة التي صرت لا أتخيل حياتي بعيداً عنها.

بعد أن غادرت الصحفية، سألتني نادين بلوم: لماذا لم تحكِ لي من قبل عن كل هذا؟!

في تلك اللحظة شعرت بغصة، وسألت نفسي: كيف لم أنتبه أني لم أفعل؟ كيف توارت التفاصيل التي كونتني، في غفلة مني، عن أقرب إنسانة إليّ؟

معك أحاول تدارك الخطأ. أشعر الآن، بسبب ما مررنا به من يناير 2011 حتى هذه اللحظة، أن لدي ما أرغب في البوح به، خاصة أني لا أدري هل مصر التي ستفتح عينيك عليها ستكون مصر التي عرفتها أنا أم ستتحول، إذا سيطر عليها الإسلاميون المتشددون، إلى بلد آخر ينكر نفسه ويتبرأ من حضارته القديمة؟!

هيا، ليكن هذا أول الكلام بيننا!

 

القاهرة.. يونيو 2012

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم