“أولاد حارتنا” رمزية الانتظار والمبادرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 13
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

غصت “أولاد حارتنا” بالرموز، والعناصر التاريخية التي تمثل مقاطع من أحداث التاريخ الكبرى، والتي لم تفقد تأثيرها إلى تلك اللحظة التي نعايشها.

ومابين الانتظار للحلول المستوحاة من الغيب للقضاء على شرور العالم، وما لابسه من آفات لم يقض عليها غير الاجتثاث الجذري المؤقت بتجارب “جبل”و”رفاعة”و”قاسم”، وما انتهت إليه هذه التجارب، بمرور الأزمان، إلى انتكاسات كبرى، عكست ما فطر عليه البشر من شرور، تتمحور حول الرغبة في الامتلاك وحرمان الغير مما وقع في حوزتهم  بالقوة الغاشمة المتحللة من أي قيم علوية.

وما بين المبادرة في اقتحام ما انتظره الآخرون، تجربة “عرفة”، حيث كانت البدايات هي الشك في وجود من انتظره الآخرون، وتغنت به رباب الحارة، اقتحم “عرفة” هذا “البيت الكبير” ليتأكد من وجود “الجبلاوي”، ليتحالف “عرفة” في النهاية مع من حاربه الآخرون ممن سبقوه، واستقرت في ذاته كراهتهم، ورغبته الجارفة في اجتثاثهم، لتغتاله مشاعر الشعور بالذنب، والإحباط فبعدما يتأكد من كونه كان سَبَبًا في موت “الجبلاوي”. تنتهي تلك المشاعر سريعا لرغبته في أن يحل محل القوى الغيبية ذاتها المتمثلة في “جبلاوي”..

” إن كلمة من جدنا كانت تدفع الطيبين من أحفاده إلى العمل حتى الموت، موته أقوى من كلماته، إنه يوجب على الابن الطيب أن يفعل كل شئ، أن يحل محله،أن يكونه، أفهمت؟!”.

ومع صرخات “شكرون”  

” ياجبلاوي، حتى متى تلازم الصمت والاختفاء؟! وصاياك مهملة وأموالك مضيعة، أنت في الواقع تسرق كما يسرق أحفادك ياجبلاوي!

يا جبلاوي ألا تسمعني؟ ألا تدري بما حل بنا؟ لماذا عاقبت إدريس وكان خَيْرًا ألف مرة من فتوات حارتنا؟!”

تتبين لعرفة خطته الكبرى في إحلال قوة مكان أخرى، فطالما تخلت تلك القوى المختفية المسيطرة عن دورها،إلا في حقب تاريخية استثنائية، فلابد من سيطرة القوة الجديدة المتمثلة في “سحر عرفة” رمز العلم الحديث وسيطرته، وغروره بقدراته التي لا حد لها…ولكن هل ستفلح خطته وتتجنب ما وقعت فيه تجارب غيره من انتكاسات مدمرة؟.

يستطيع عرفة بقوته السحرية/ المعادل الرمزي للعلم الحديث القضاء على فتوات الحارة، رموز القوة الغاشمة، المتحالفة مع قوة رأس المال المتوحشة المتمثلة في” ناظر الوقف” الذي كان يراقب خطة “عرفة” بمكر ودهاء، ولتلتق رغبته برغبة” عرفة” في القضاء على “الفتوات” / قوى الشر الغاشمة المتحللة من كل القيم، والاستئثار بريع الوقف له وحده.

ولكن عرفة يقع في أسر ” ناظر الوقف” في إشارة لتحالف ” العلم” مع ” رأس المال” وحصد شبكات رأس المال المتعدية الجنسية لكل ما ينتجه العلم الحديث من نتائج لا تبذل إلا لمن يملك القدرة على دفع أثمانه الباهظة. وهنا نلمح قدرات نجيب محفوظ الاستشرافية، حين كتابته لأولاد حارتنا عام 1959، وروحه المتشائمة حيال ذروة الصراع بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية، وما ستنتهي له الأمور في أيامنا تلك، وانسحاق وهزيمة تامة لطبقات” الحرافيش” إزاء الأقلية المالكة والحاكمة.

لم تُسَخَر قدرات “عرفة” لصالح فقراء حارته كما كان يأمل، وإنما خدمت السيد الأوحد، المتحكم في مقدرات “الحارة” و المستأثر الوحيد بريع” الوقف” واستشراف آخر، للعالم أحادي القطب.

إلا أن “عرفة” يقف عاجزا ب”سحره/علمه الحديث” حيال الموت الذي لايملك دَفعًا ولا علاجا ناجعا له ..

وفي حواره الكاشف مع ” ناظر الوقف/ القوى العالمية المتفردة” تتضح الأزمة والمأساة معا..

” -لماذا نموت ياعرفة؟

فرمقه بكآبة ولم ينبس فأردف الآخر:

-حتى الجبلاوي مات.

كأن إبرة انغرزت في قلبه، لكنه قال:

– كلنا أموات وأبناء أموات.

فقال في ضجر:

-لست في حاجة إلى تذكيري بما قلت.

-ليطل عمرك يا سيدي.

-طال أو قصر فالنهاية هي تلك الحفرة التي تعشقها الديدان.

فقال عرفة برقة:

-لاتدع الأفكار تكدر صفوك.

-إنها لاتفارقني. الموت…الموت…دائما الموت، يجيء في أي لحظة، ولأتفه الأسباب، أو بلا سبب على الإطلاق، أين الجبلاوي؟ أين الذين تتغنى بأعمالهم الرباب؟ هذا قضاء ما كان ينبغي أن يكون”

ليرتد عرفة ثانية لأحلام العدل وتوزيع ريع الوقف بالتساوي لضمان حد أدنى من السعادة تقف حائلا لهذا القدر الغير محتمل من التعاسة، يرتد العلم الحديث بعجزه الظاهر إلى أحلام العدل وتوزيع الثروات على أبناء الواقف بالتساوي، يرتد عرفة لمحاولة من سبقوه “جبل ورفاعة وقاسم”، ولكن بعد فوات الأوان، وقد ضاعف عدم وجود ظهير شعبي يحتمي به، ويؤمن به، من مأساته واغترابه.

شعور عرفة/العلم الحديث بالعجز ألجأه في النهاية لما جحده، فبعدما قضى العلم على الميتافيزيقا، وجد نفسه في حاجة إليها، وإلى تعاليمها التي،من قبل، سخر منها، وأبرزها قيمة العدل، ورغبته في الانفكاك من توحده مع رغبات ناظر الوقف/الرأسمالية المتوحشة.

” -لولا حسد المحرومين من حولنا لتغير مذاق الحياة في أفواهنا!

فضحك الناظر ضحكة ساخرة وقال:

-قول بالعجائز أجدر! هبنا استطعنا أن نرفع أهل حارتنا إلى مستوى حياتنا فهل يقلع الموت في اصطيادنا؟

فهز عرفة رأسه في تسليم حتى خفت حدة الرجل،ثم قال:

-الموت يكثر حيث يكثر الفقر والتعاسة وسوء الحال.

-وحيث لايوجد منها شئ يا أحمق.

فقال وهو يبتسم:

-نعم لأنه معد مثل بعض الأمراض!

فضحك الناظر قائلا:

-هذا أغرب رأي تدافع به عن عجزك.

فقال متشجعا بضحكه:

-نحن لاندري عنه شيئا فلعله أن يكون كذلك، وإذا حسنت أحوال الناس قل شره، فازدادت الحياة قيمة وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصا على الحياة السعيدة المتاحة.”

لتبعث الميتافيزيقا ثانية موجهة رسالتها لعرفة كما وجهتها من قبل لأبنائها البررة”جبل،رفاعة،قاسم” وعلى لسان خادمته في رسالة أوصى بها “الجبلاوي” وهو في النزع الأخير لتصل لعرفة بعد موته.

اذهبي إلى عرفة الساحر و أبلغيه عني أن جده مات وهو راض عنه.”

ليتمرد عرفة على كل ما آمن به من قبل، ويسير في درب من أنكر عليهم. ويصرخ في وجه من جحد رسالته كما صرخ “جبل” من قبل:

“-لم يكن ما رأيت سطلا، ولكن حقيقة لاشك فيها.”

وكما صرخ قاسم وقبله رفاعة:

“-لست مجنونا، وليس هو بالسطل! “

ولكن الفارق أن الجبلاوي كان يرسل رسله وهو حي،واليوم يبلغ رسالته وهو ميت، ففقد عرفة قوة الدفع المعنوية التي سبق ودفعت من قبله.

لتتبد الحياة عبثا لا طائل ولا جدوى منه.

” -هذا السجن لم يعد يمدني إلا بأفكار الموت، وكأن الطرب والشراب والراقصات ليست إلا ألحان الموت، وكأنني أشم رائحة القبور في أصص الأزهار.”

يقرر عرفة الهرب حاملا كراسة رموز سحره/ رسالته التي يود تبليغها للناس على أمل في إرجاع إيمان أولاد حارته الذي هدمه من قبل في صدورهم.

تظهر عبثية نتائج العلم المنفصمة عن الإيمان بتحقيق قيم العدل الإجتماعي وغيره من القيم العليا.

ود لو صرخ وهو يعاني النهايات القاتلة الخوف لايمنع الموت ولكنه يمنع الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء ولن تتاح لكم الحياة مادمتم تخافون الموت”

وبقى الأمل في وجود كراسة أسرار عرفة، وعاد أولاد حارة الجبلاوي للانتظار بعدما رفعوا ذكر عرفة فوق” جبل ورفاعة وقاسم” وبعضهم قال ” لايمكن أن يكون قاتل الجبلاوي كما ظنوا. وقال آخرون: إنه رجل الحارة الأول والأخير ولو كان قاتل الجبلاوي.”

فضل نجيب محفوظ النهايات المفتوحة المبشرة بقدر ما من أمل خافت يصارع قنوطا لا حد له.

” وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: لابد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب”

تقف “أولاد حارتنا” كرواية متفردة بجرأة اقتحامها وتناولها لأحداث التاريخ الكبرى برمزية فلسفية مكثفة في كل سطر من سطورها، في إطار روائي محكم البناء، قادر على الإلهام والإمتاع معا.

 

مقالات من نفس القسم