أن ألعب مع العـالم.. أن أراوغ خفّة الشظية..

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 31
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مؤمن سمير

هل هناك يقين بالكتابة أو يقين للكتابة أو فيها أو معها، تلك المغوية المكتنزة بالأضرار والغموض والبهجات؟
أكتب بيقين أنني أقارب ذاتي، أحاورها، أحبها وأكرهها.. ثم سرعان ما ينزاح الشاعر الإنسان لحساب الشاعر الشاعر، الأكثر تعقيداً والذي يتعامل مع العالم ومفرداته بنفعية، الأكثر بساطة أيضاً.. فأحذف وأضيف وأمزق وأتحول إلى مجرد شاهد على المسافة العجيبة، الملتبسة، بيني وبين ذاك المشنوق على الورق.. كنتُ قديماً أظن أنني أكتب لأتطهر، لتنضبط الشذرات التي تسبح داخلي بنزق وبلا شاطئ، وهكذا أستمتع بلذة اكتشاف أمور لم أكن أظنها موجودة أو على هذه الشاكلة بالذات، لكنها بانت وانكشفت عند طلوعها ككتابة ، وكأن القلم إزميل يزيح الأحجار عن التمثال المخبوء.. كان هذا قديماً، ثم جاء وقت كنتُ أكتب ويقين الإرادة والتغيير هو الذي يحمل الأجنحة إلى ذراعي والرصاص إلى قلبي.. لم تطل هذه الفترات، للأسف أو للحظ السعيد، لا أدري.. شُفيت من نور الكتابة، من قوة دورها في إحياء القيم والضبط الروحي أسرع من اللازم، مات الشاعر النبي وبقي الشاك، القلق، الوحيد، العاري من أي يقين، ذلك الذي يقترح من وراء ستار سميك ولا يجزم أبداً، مات الرائي المتأنق وعاش العادي الجميل والأعمى .. بعد سنوات حياة ، قليلة جداً ، بسبب من طبيعتي الحذرة الخائفة والجبانة إزاء أي يقين أو بسبب أن (ضربة الشعر) حفرت أكثر مما يجب، في أعماق مؤهلة للارتعاش والتساؤلات وخلع الجلد.. وُلدت في الصحراء، في إحدى الدول النفطية ، في مدينة نسيتها الخريطة ولم يكن بها مصريون سوانا، حيث كانت مفردات الرمل والأحجار والجبل والحية والعقرب والصمت والعاصفة، والآلية التي بلا روح أو ملامح أو مداخل، هي الفضاء الذي تتحرك فيه الدراما، كان هذا هو المسرح الخارجي، أما في الداخل، فكانت الحيرة تضطرم وأشباح الوحدة تعبث بفتحات الجسد وإرادة التنفس .. كان الاقتراح والحل هو القراءة، حيث لم يرتسم في الأفق أي سهم للتواصل مع آخرين، فعوضت ذلك بالتماهي مع الأرواح والعيون الخارجة من الرسوم والقصص، ثم تسربت الكتابة تحت خدعـة من خداعات الوعي، هي إعادة تشكيل ما يُقرأ لأنه بالضرورة غير دقيق أو ناقص، فعندما يموت البطل الأسطوري تكونُ الحياة أكثر قسوة، لذلك لابد من اختراع بطل آخر وبسرعة ليلبس وجهه ثم يشرب قوته قبل أن تذبل ويسرقها الشيطان ثم ينقذ أميرات جدداً وأجمل كثيراً.. بدأت الأمر بتهويمات ورسومات كلها وحوش وأمثولات وحودايت ثم اهتديت للشعر.. فقط لأنه مثَّل لي قيمة غامضة تستحق البحث وراءها أو فيها، قيمة تجمع بين الخيال الذي لا أملك غيره، والموسيقى الواضحة أو المتوارية، والتي مازلت أظنها تطلع من كائن مسحور يبتسم، وينتظرنا ليقتلنا خلف الجبل الكبير.. عدنا إلى مص، بعد أن امتلأ فمي وصدري للأبد، بطعم الحصى ومذاق الصحراء، إلى مدينة صغيرة أخرى، يسبح فيها وجه الآلية الضد، معكوس كل ما كان.. صخب وضحكات عالية وشتائم تملأ السماء وتنم عن أرواح متوثبة تكره الخمول، حياة مليئة (بالحياة) وبالفلسفة الحية وبالتحايل على أظافر الشقاء المختبئة في كل الشقوق، والفتى يفزع من الدينامية ويلجأ إلى غرفته البعيدة هارباً من الضجيج والصداقة والبساطة والمحبة..

واحدٌ في زحامه ، متوحدٌ بوحدته ، ملفوفٌ .. بهْ
حتى كان صباح، تسلل فيه شيطانان إلى الشرنقة ، متكئان على ذراعيْ بعضهما ليرسمان ابتسامات جذابة لكنها ماكرة: الجنس والشعر.. بلغتُ مبكراً (ويبدو أن قدري أن أحرق المراحل دائماً ) وركضت وراء الشعر، لأتعذب بالاثنين كثيراً، ولم يكن أمامي إلا لعبتي الأثيرة: الخيال ، فامتلأت الغرفة بكل نساء وفتيات الدنيا وعند السقف يجلس أحمد بك شوقي، الحكيم الفخم، ليأخذ ما يروقه ويترك الباقيات جواري على الوسادة وقرب الأحلام.. كتبت قصائد عمودية كثيرة وكنتُ أتمنى أن أقلد “الشوقيات” كله ودخل حافظ والبارودي ليزوروني كل صباح، وكل العظام أصحاب المقامات الرفيعة في دولة الشعر، لكن يبقى جبران هو الآسر وصاحب الشمس الأبعد، ثم اصطدمت بصلاح عبد الصبور وحجازي والسيّاب ، وكل المارقين الذين تجرأت أخيراً وسألت عنهم مدرس اللغة العربية، فنظر إلىّ بكل الإشفاق الممكن وحذرتني نظراته وحركات يديه قبل لسانه: 
إنت ابن راجل فاضل بيؤمنا في الصلاة فحافظ على القرآن يا حاج مؤمن..

والقرآن ماله ومال الشعر الحر يا أستاذ؟
يا ابني أنت لسه صغيّر كل دي محاولات بتهدم مقدساتنا شوية شوية لغاية ما تلعب في لغة الجنة، لغة القرآن..

بس أنا باصلّي وبحب الشعر..

خلاص بدام شيطان الشعر ركبك يبقى التزم عشان تغلبه وابعد عن حركات الشيعة والشيوعيين ديه..

بس دول غير بعض يا أستاذ! 
الاتنين كفرة ولاد كلب!!

وازدادت الحيرة ودخلت الأسئلة الوجودية واستعمرت ومنعت الطعام والشراب، لتكتمل دوائر السماوات الممطرة شكوكاً رغم حنو الأرواح العظيمة: بوذا والمسيح.. وغيرهما.. وتلازم هذا مع صدمة السبعينين الكبرى، الذين خرقوا كل ما بقى لي من مقدسات ومثلوا النتوء الضخم في المسيرة الأولى للشعر معي، بألعابهم ونزقهم الإبداعي وانفلاتهم.. وسيبقى لهم جميل في عنقي هو أنهم دلوني على الأدب الصوفي الإشراقي العرفاني، وأصبحت بفضلهم مسكوناً بابن عربي والنفري والحلاج وحتى الغنوصيين.. وقتها توقفت عن الكتابة، لأن مرحلة تقليد القصائد بشحمها ولحمها، أفرزت ناقداًَ داخلياً موتوراً، عصبياً وعيونه ملتهبة، إذا اشتم أي رائحة لشاعر أو أحس بوقع أنفاس أي صوت آخر، يأمر فوراً بتمزيق الصفحات والحرمان من النوم.. لكن المفارقة أنني أتممت ديوانين كاملين، في العودات المتفرقة الكثيرة والقلقة، مليئين بالرغبة المحمومة في عدم تقليد الإغواء السبعيني، فإذا بالنتيجة تكون الوقوع في نفس المنطق الكتابي ونفس الروح التي تريد أن تهدم ولا تنشغل كثيراً بوضع اقتراح بديل لما هدم.. أو حتى المحاولة .. من أجل هذا كان الجزاء أكبر: أن يصيرا سبباً في الصداقة مع بائع الفلافل الذي في الجوار، وكلما كانا يشربان الزيت الساخن، كلما كان هناك فتى يراقب ويبتسم ابتسامات متشفية! وصلت للمرحلة الجامعية وصالحت نفسي بقصائد كنت أحكم عليها بأنها لقيطة، لا تنتمي لما أظنه سائداً على الساحة الشعرية ، فلم تتوسل بلغة فخمة متعالية ولا بإيقاع راقص يدغدغ الحواس، ولا تحيا في جب الألعاب الشكلية، ولا للتثاقف المجاني.. وكان شاهدي على ما أكتب من قصائد بسيطة، تحاور مفردات وقيماً أكثر اتساعاً، عبر اللغة وليس (في اللغة)، صديق كان ينتمي لنفس الحيرة والبحث عن شكل وأداء يشبه كلامنا، وفي نفس الوقت يحمل توهجه الخاص.. ولا ننتمي به لقطيع ما، هو حاتم جعفر، الذي نشر قصيدته الأولى في نفس المكان معي والذي أتم ديواناً ثم هجر الشعر وعاد لغربته الأولى: المرأة، وعاش بها ولها وقال: كلا الأمرين رقص وغناء يفتت العظام! وأكملت أنا لي وله كل أنماط الاغتراب.. حتى كان عام 1993 الذي صدر فيه ديوان علي منصور “ثمة موسيقى تنزل السلالم” وفوجئت أن ماء الكتابة فيه تقترب كثيراً مما أقترفه، ففرحت من قلبي وأحسست أنني أكتسب شرعية ما، شرعية الاتجاه الذي يتخلّق، وعندما قابلته بعد ذلك بسنوات قبلته وشكرته ففاجأني بأن العديد من شعراء هذا الجيل مروا بالكثير مما مررت به، شعرياً، وصولاً إلى لحظة تقبيله.. ثم الانطلاق بعيداً وخيانته سريعاً، بالطبع.. في أواخر عام 1995 وفي كلية آداب بني سويف تقابل الثنائي حاتم ومؤمن مع الناقد الراحل حاتم عبد العظيم، الذي لاحظ أننا أغراب تسللنا من كلية الحقوق لنستمع إلى محاضرات اللغة العربية والفلسفة وتحادثنا ودعانا إلى حضور ندوات نادي أدباء بني سويف.. وذهبنا والقينا قصائدنا النثرية وساد صمت ولم يعلق أحد ثم عدنا للحضور بعد ذلك وكان العدد أكبر وألقى حاتم ثم ألقيت قصيدة أحاور فيها التراث المسيحي بانفتاح وبساطة فتفاعل الجميع معها وقال الدكتور حاتم “هذه حساسية جديدة في الكتابة، تختلف عن أوهام حساسية إدوار الخراط..”! ووقف القاص إسماعيل بكر وقال: إن مصدر سعادتي اليوم في كتابة هذا الشاب، ينبع من كونه قبطي امتلك شجاعة التعبير عن مقدساته بأسلوب فني..، أخيراً دافعوا عن ما هم جديرون بالدفاع عنه.. “ثم صمت بعدما همست له بأنني مسلم!! المهم أنني أصررت على أن ألقي ما أكتب في كل مكان متجاهلاً قناعتي بأن قصيدة النثر قصيدة كتابية وليست شفاهية بالمرّة ومتناسياً لحظات الصمت أو الضيق أو حتى عبارات من نوعية “وهل هذا شعر أساساً ؟” أو “.. ومادمت قادراً على التفعيلة ، لماذا تأخذ بالأسهل المبتذل؟” وغيرها من العبارات أو المواقف التي تتبناها وتصنع ردود أفعال قد تتجاوز أحياناً، حد اللياقة، أقصد، دائماً، وتتجاوز كثيراً حق الاختلاف.. ونزلت وحدي للقاهرة ، للمرة الأولى، عام 1996، وتصادف في نفس الشهر – نوفمبر – عقد مهرجان القاهرة للإبداع الشعري بدار الأوبرا، بحضور عدد كبير ممن كنت أقرأ لهم، سواء كانوا مصريين أو عرب.. وكان هذا اللقاء مفصلياً في حياتي، ليس لأنه أسفر عن نشر قصيدتي الأولى وإنما لأن حواري معهم والتعامل مع ضحكاتهم وسعالهم، أعادهم إلى خانة البشر، المعذبين ربما ، بعدما استقروا طويلاً في رف الأساطير.. ثم كان شهر ديسمبر 1998 الذي أصدرت فيه ديواني الأولى “بورتريه أخير لكونشرتو العتمة ” في 166 صفحة من القطع الكبير، على نفقتي، وأنا ابن الثالثة والعشرين، ليكون أول ديوان ينتمي بالكامل لقصيدة النثر في محافظة بني سويف.. وكان الشاعر عطية معبد قد أصدر ديوانه ” هكذا أموت عادةً “في شهر فبراير وبجزئه الأخير قصائد نثرية قصيرة ثم أصدر الشاعر أسامة بدر ديوانه “قمر يغامر باستدارته” عام 2000 وبجزئه الأخير أيضاً قصائد نثرية. وكان عام 2001 هو العام الذي أصدر فيه شاعر العامية المصرية جاسر جمال الدين ديوان “شوية وجع” كأول ديوان نثري كامل بالعامية المصرية في بني سويف وكان قد سبقه ديوان “كراكيب” للشاعرة سيدة فاروق عام 1999 زاوجت فيه بين النثر والتفعيلة .. وإن كنت قد أسرفت في ذكر ” التواريخ” و”الأوائل” فذلك إنما يرجع لرغبتي في التذكير بجهود كتيبة مغامرة، في مكان ناءٍ عن المركزية واحتمال المشهد للاتساع وتجاور الأشكال.. وحتى عام 2009 أصدرت ثمانية دواوين: هواء جاف يجرح الملامح 2000، غاية النشوة 2002، بهجة الاحتضار 2003، السريون القدماء 2003، ممر عميان الحروب 2005، تفكيك السعادة 2009، تأطير الهذيان 2009م. وهي دواوين تمت كتابتها في الفترة ما بين 1995 – 2001 وآمل أن أضيف إليها في القريب ما يضم أعمالي بدءاً من 2002.

الشعر: ليس القبلة في وسط الحرب، إنما هو خفة الشظية.. هو المختبئ خلف “الجميل”، أو المرمي قرب جدار، يحمل عتمة يكشف بها النور الفاقع أو وهجاً يجعل المقبرة تغني.. هو الخائن دوماً، الذي يقترح لأنه لا يعلم، وإن كان ماكراً.. الراقص في لهاث العاصفة.. هو الرائحة التي تبقى في كفك بعد أن تفرك الوردة بقسوة .. هو الطنين الذي يجعل الوحش يفتح عينيه، فيهرب شخصان ويتصادقا ويصيرا أخوة بإزاء الفوهة، لكن بدون مسئوليات ولا يقين .. ليس مراوغاً للموت، إنه رعشة الاحتضار … الشعر “كأنه” وليس “هو” يا أخي ..

الشاعر: ذلك المشاء في الأسواق أو داخل الشرنقة.. القابع تحت مظلة ، يحس بأشياء فيكتبها لينسى الحريق الآتي من الشارع المجاور.. الذي تتآكل ذاكرته فينسى كونه شحاذاً جميلاً ويظن أنه ذلك الطفل المندهش، الشقي، المتورط .. حارث البحر القادر على الغناء لكنه أبداً ليس المغني .. هو الذي يأتي متأخراً فيحصي القتلى وينزع اللافتة.

عندما انتشرت قصيدة النثر في مصر وأصبح من المتاح جداً رصد أعداد لا حصر لها من الدواوين، رأكملت مجموعة من القيم الثابتة المتكلسة، هي – وهذه هي المفارقة – على النقيض من كل ما نادت به هذه القصيدة، فأصبحت هناك وصفة جاهزة مكونة من التفاصيل اليومية الحياتية البسيطة والابتعاد عن مقارفة القضايا الكبرى وتصدير موت الايديولوجيا والتخفف من المجاز لصالح السرد .. الخ . هذه الوصفة أخلت الأدعياء وأغرت أصحاب المشاريع الشعرية التي تسير في الاتجاه المخالف، بسبب سهولتها الظاهرة.. وهو ما أرى أنه مدمر لأنه لا يسمح بالتمييز بين مشروع كل شاعر وفرز الجيد من الردئ إلا بصعوبة ، فالجميع، كذا، يكتب نصاً واحداً.. كذلك يؤدي إلى تضييق امكانات تلك القصيدة مما يحدو بها للتآكل من داخلها.. لكن قد يكون لهذا قيمة إيجابية، والأمر كذلك، هي الكشف عن أصحاب المشاريع المتفردة الذين يكتبون شعراً يشبههم ويطمحون دائماً لتغيير جلدهم وتغيير ومفارقة زوايا النظر والمداخل المعتادة وقنص الشعرية من أنهار أخرى.. وهو ما يتوازى، بكل بساطة، مع قيمة أساسية في الشعر، وأقصد بها الواحدية وليس الجماعية، فحتى لو انتمى عدد من الشعراء لجماعة معينة لها توجه وفلسفة أو لو انضوى الشاعر تحت جيل معين، فإننا في النهاية سنقول: نحن بإزاء مشروع جورج حنين أو صلاح عبد الصبور أو محمد سليمان أو عاطف عبد العزيز …. وهكذا.. رغم تأثير فلسفة الجماعة، أو مظلة الجيل، عليه وكونه شاهداً، بشكل ما، عليها. إنني أنتمي لتصور قوامه أن كل شاعر – حقيقي – هو مشروع خاص يجب النظر إلى تجربته باعتبارها وحدة خاصة ومتميزة في مسيرة الشعر، وبذلك تكون زاوية التناول ذات ترتيب أولوياتي مختلف عما هي عليه، فنبحث أولاً عن الشعر ومدى نجاحه في خلق خصوصية للمشروع الخاص ثم بعد ذلك نراجع بنود تماثلاته مع الآخرين القريبين بحكم السن أو سنوات النشر أو حتى السياق.

مجابه أنا دائماً بالغزارة في الكتابة، ولا أرى ذلك عيباً ولا ميزة في حد ذاته ولا يصلح أن يكون قيمة ثابتة، كل ذلك خارج الكتابة .. لكن مقولة الكيف المفضل عن الكم ، تظل مقولة جاهزة، على الرغم من أي شئ، مثلها مثل الكثير من أكلشيهاتنا الجامدة .. كل “كيف” جيد في حاجة إلى “كم” كي يتأكد. إلا إذا كان العمل “فلتة” في حد ذاته وسيغير تاريخ الأدب وهو ما أصبح نادراً. أظن أنه من الأنسب، وإن كان ذلك ليس نهائياً بالطبع، أن يتعامل المتلقي مع عدة تجارب لمبدع ما، كي ينحاز لبعضها ويرى البعض الآخر لا يضيف إلى عالم الكاتب، أن يتفاعل أو لا يتفاعل مع المنجز، وهذا هو الطبيعي، فكيف تتسنى ممارسة هذا الدور، أو هذه اللعبة مع من أنجز تجارب محدودة وقليلة.

ما أظنه يميز قصيدتي، أو هكذا أتمنى، أنها قصيدة لا تغلق قوسها، بمعنى أنه من الصعب حصرها في قيمة جمالية أو تقنية معينة، فالمتابع للإنتاج الحالي يلمح من يصر على أن الهامشي والمعيش مازال أقنوماً للقصيدة، وثاني يصمم على أن التفاوت الطبقي هو المجال الوحيد للشعر أو مازال كذلك، فنجد كل نصوصه تستعرض مشاهد تدلل على الهم الأيديولوجي، وثالث ما يفتأ يتفنن في صنع المفارقة ورابع يبحث عن روح الأسطورة في المقدس، وآخر يكتب نصاً فنتازياً وآخر يصنع عالماً (كارتونياً) يسخر من الواقع، وآخر ينجز قصيدة وعي وآخر يحاول تهميش المجاز لصالح السرد البارد .. الخ.

إن ميزة نصي أنه يتحرك بين كل القيم والأنماط والطرائق، ومن ضمنها ما سبق بالطبع، ولا يحصر نفسه أبداً، نص حر لا يستطيع أن يتخلى عن رفضه واختناقه من أي تأطير وعيي أو جمالي أو تقني، يبحث عن الشعر المختبئ في كل ما حولنا، حتى لو كان لا يصلح، للوهلة الأولى، لإنتاج الدهشة وصنع الصداقة مع الكائنات .. هل نجح نصي في هذا، لا أدري أو لا يهم .. وبالنسبة للأداء اللغوي، فلا أعتقد أبداً أن الأقوال العنيفة التي تجزم بأن دور المجاز انتهى، منصفة، ليس فقط بسبب اطلاقيتها ووقوعها من دون أن تدري في فخ استبدال صنم بآخر .. ولكن لأننا نحيا وسنظل، في مجاز كبير، كل تعاملاتنا اليومية في هذه الحياة قائمة على المجاز، بدءاً من “صباح الخير” وحتى كتابة الشعر، لكن أحياناً تفرض التجربة على النص أن يكون كله كناية كبرى وأحياناً تظهر المجازات الجزئية بشكل واضح.. مازالت الصورة تزين الشعر، سواء أن كانت كلية أو جزئية وسواء كانت واضحة أو متوارية .. كما أنه ليس مهماً أبداً أن نبحث عن إيقاع صوتي في قصيدة النثر عن طريق تكرار الكلمات والعبارات والترديدات الصوتية وما إلى ذلك لنثبت أن قصيدة النثر ليست غريبة وبعيدة كل هذا البعد عن التراث السابق عليها.. وليس مهماً –كذلك- أن نجزم بأن الإيقاع السردي هو الذي يلائمها أو زيها الوحيد.. كل هذا لا يجدي أبداً، فليس هناك بُعد نهائي للقيم الكتابية وتشكيلاتها، القصيدة أوسع من كل تفسيراتها وتأطيراتها وإن حددنا لها نبضها واستنكرنا خروجها الدائم، تموت.. والشاعر يلعب دون سقف قريب أو بعيد، ولا يملك إلا انفلاته الايجابي،

الذي يصنع إطارات كل يوم، عليه أن يثور عليها ويتجاوزها لحساب روحه الحرة، المكتنزة كأنها الصمت.

عندما قال “جوته”: ” شعراء الليل والمقابر يستميحون عذراً، لأنهم مشغولون بحديث شائق جداً مع مصاصة دماء، بُعثت منذ وقت قصير، وربما أدى هذا الحديث إلى إبداع نوع جديد من الشعر.. “وعندما قال “بودلير”: “ما من فتنة للحياة، حقيقية،غير فتنة اللعب.. “شكرتهما وشددت على كفيهما وأعطيت ظهري راضياً ومبتسماً وقلقاً…………

مقالات من نفس القسم