“أنا اليوم وحيدة”.. الكتابة بوصفها لعبا

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تنبني مجموعة "أنا اليوم وحيدة" للقاصة إيمان السباعي على جملة من التقنيات الجمالية التي تعتبر ركيزة رئيسة في قراءة النصوص السردية بين دفتي المجموعة، إذ تعمد في عدد ليس بالقليل من قصص المجموعة على رسم لوحات سردية تعتمد على الوصف الخارجي للحدث والشخصيات، مثلما نرى في قصة "عينان"، التي ترسم فيها الساردة حياة فتاة شفيت من العمى، لكنها على ما يبدو أصبحت تصطدم بالأشياء بعد أن عاد لها البصر فاضطرت لأن تسير مغمضة العينين، بعد أن أخافتها الوجوه الصارمة والودودة على السواء، إذ تبدو المفارقة جلية في هذا النص، كما أن التكثيف الواضح في النص يجعله أقرب إلى الومضة أو الأبيجراما القصصية المفعمة بالدلالات على كثافتها، حيث لا تتعدى القصة ستة سطور تقريبا، لكنها تكتنز في ثناياها حمولات دلالية وأسئلة وجودية تفيض عن مساحتها المحدودة.

كما تعتمد الساردة في قصص أخرى على رسم مجموعة من اللوحات السردية، وتضعها إلى جوار بعضها البعض، ليخلق هذا التجاور بنية النص القصصي، مثلما نرى في قصص متعددة مثل “عزف منفرد” و”حكايات بنات” و”سيرة ذاتية”، حيث نرى مجموعة من المشاهد التي تبدو متباعدة زمنيا لكن تجاورها داخل فضاء النص يخلق النسق الدلالي الذي تريد الساردة تمريره، حيث يتجاور في كل قصة من هذه القصص ثلاث نصوص كل منها له عنوان جانبي، بحيث يمكن قراءتها منفردة كقصة، لكن الساردة آثرت أن تضم هذه القصص إلى جوار بعضها، لتخلق نسقا دلاليا محددا، فمثلا في قصة “عزف منفرد” التي تتكون من ثلاث نصوص هي على الترتيب “بيانو” و”أكورديون” و”عود” ويمكن قراءة كل منها بشكل منفرد بوصفها قصة، لكنها تتجاور إلى جوار بعضها لتشير إلى علاقة الساردة بالموسيقى، وما شهدته هذه العلاقة من تحولات، وكأنها علاقات حب متعاقبة. الأمر نفسه يتكرر في قصة “حكايات بنات” التي تتكون هي الأخرى من أربع مقاطع أو نصوص هي “حرنكش” و”زاوية حادة” و”فراشة” و”طيارة ورق” التي يمكن قراءة كل منها باعتبارها قصة، لكن التجاور يخلق دلالة مفارقة لدلالة كل منها منفردة.

تلجأ الساردة في معظم قصص المجموعة لاستخدام لغة شفيفة، وقادرة على صناعة شعريتها الخاصة بعيدا عن شعرية الصور والمجازات، حيث تنبثق شعرية النصوص من شعرية المشهد برمته وليس من المجازات اللغوية، مثلما نرى في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، ففي قصة “أنا اليوم وحيدة”، نرى تجلي هذا المسلك في إنتاج شعرية النص، حيث تتجاور ثلاثة مشاهد تكاد تخلو كلها من أي مجاز لغوي، لكنها مع ذلك مفعمة بالشعرية التي تنضح من كل مشهد فيها، فضلا عن الشعرية التي تنبثق من الحالة الشعورية التي تعبر عنها الساردة، فالبطلة تكاد تتوسل للبشر والحيوانات والأشياء كي يكونوا معها ويحتوونها بأي صيغة ممكنة، لكن الجميع يفر منها، حيث تقول: “قالت للشارع المزدحم: دع عرباتك تصطدم بي بخفة، دع نساءك يدهسن حذائي، وأطفالك يلطخون وجهي بطين أيديهم، فأنا اليوم وحيدة.. هكذا ابتلع الشارع كل العربات والمارة!” فهذا المقطع، على سبيل المثال، أقرب للروح الشعري بشكل يكاد يقترب من قصيدة النثر، فالذات المروي عنها تخاطب الشارع، بوصفه الملاذ الأخير لكسر وحدتها لكنه، كما فعل الحيوان والإنسان، يتبرأ منها ويخذلها. إن أنسنة الشارع والتحاور معه ورد فعله على طلب الذات المروي عنها أقرب إلى شعرية المشهد دون أن تقع اللغة في شعرية المجازات التقليدية.

ينزع السرد في كثير من قصص المجموعة إلى أسطرة العالم، إذ تضفي الساردة بعدا غرائبيا على شخوصها وأحداثها، فنراها تقدم الأحداث اليومية والمعيشة ولكن بعد أن تكسوها ثيابا أسطورية، فتنزعها بذلك من عاديتها ويوميتها مضفية عليها بعدا عجائبيا، فيبدو اليومي عجائبيا، والواقعي أسطوريا، مثلما نرى في قصة “the end” حيث ينبت للحبيب ثقب في يديه دون أن ينتبه، ثم “تحدثني عن الفلسفة والعالم دون أن تنتبه إلى الثقب الذي يتخذ أشكالا عدة، قبل أن يستحيل سكينا تتسلل إلى شفتيك”. هكذا تضيف الساردة مسا عجائبيا إلى نصها وأحداثه، رغم أن الحدث عن فتاة تخرج من السينما بصحبة حبيبها ويتحدثان في الطريق، فهذا حدث عادي ويومي يحدث آلاف المرات، لكن الساردة هنا تضفي عليه هذا البعد المفارق، لتنقل السرد من الحيز الواقعي إلى الحيز العجائبي الأقرب إلى الواقعية السحرية. في حين نرى في قصة أخرى أن العجائبية تبدأ مع بداية النص ليصير كله عجائبيا، مثلما يحدث في قصة “فجوتا دماء للرؤية” حيث تستحيل الدمية إلى مصاص دماء، تنشب الدمية أصابعها في عينيها لتخرجهما من مكانها وتترك مكانهما فجوتي دماء، ثم تمد الدمية يديها لتبقر بطن الساردة وتخرج أمعائها، ويحدث هذا مع الجميع باستثناء المتظاهرون في الميدان الذين يفقدون أذرعهم لكنهم الوحيدون الذين لا يفقدون عيونهم، لذا يرفعون اللافتات السوداء والحمراء، فقد اعتمدت الساردة هنا أسطرة العالم، وقلب الحدث الواقعي الذي فقد فيه المتظاهرون عيونهم بالفعل، لكنها تجعل العالم كله يفقد عيونه وبصيرته باستثناء المتظاهرين الذين يحاولون إنقاذ الساردة.

إذا كان ثمة ملمح يمكن أن نصف به هذه المجموعة كلها، نستطيع أن نقول إنه الكتابة بوصفها لعبا، فقد اتكأت الساردة على محاورة كثير من النصوص، السردية والسينمائية والتراثية، بل يمكن أن نقول إن كثيرا من قصص هذه المجموعة أقرب إلى أن تكون كتابة على كتابة، أو نصوص تنبني على نصوص سابقة، تكمل ثغراتها، تعيد اكتشافها، تفخخها. إن الساردة هنا تعي أنها تنطلق من موروث ثقافي تراكمي، ساهمت فيه كتب وأفلام وأغاني، متنوعة الاتجاهات والمشارب، ومن ثم تمثل هذه النصوص كلها المخزون المعرفي للساردة، جنبا إلى جنب التجارب الحياتية، لذا فإنها تصنع من هذه الثقافة قصصا تماما كما تصنع من التجارب اليومية، ويمكن هنا أن نقف عند تمثيل هذه المحاورات النصية في عدد من النصوص، لعل أولها قصة “لجحوظ عينيه” التي تصدرها بمقطع مقتبس، عبارة عن تحذير معلق في مكتبة دير سان بدرو في برشلونة، ثم يبدأ السرد بعنوان جانبي لافت “عصر النهضة (تاريخ القراءة/ ألبرتو مانغويل)” ثم ينفتح السرد على العلاقة بين الساردة وبين أمين المكتبة، أو بائع الكتب القديمة، الذين يكررون عليها جملة واحدة “يقول الناس إن بأحد الأرفف بإحدى القاعات قد يوجد كتاب يكون الشفرة والموجز الكامل لكل الكتب الأخرى، وأن أحد أمناء المكتبة قرأه وأنه شبه إله”، وللمفارقة فإن هذه العبارة، حسبما تشير الكاتبة، مقتبسة من قصة “مكتبة بغداد” لبورخيس، فالنص كله يكاد يكون مشيّدا على هذا المقطع الذي يتكرر في القصة أكثر من مرة، بحيث يبدو وجوده مركزيا في السرد، لكن الساردة تفككه بأن تنضم إلى المجموع الذي يبدأ في لعق وأكل أمين المكتبة وتقويض سلطته المزعومة.

هذا اللعب نراه يتكرر أيضا في قصة “هامش” التي تصطنع فيها الساردة علاقة مرتبكة ومتوترة بين صمويل بيكيت والممثل إدوارد نورتون أحد أبطال الفيلم الشهير “نادي القتال”، رغم إن الاثنين ربما لم يرى أحدهما الآخر أبدا، لكنها تسرد عن خوف بيكيت من أن يكشف نورتون أكاذيبه، ويقوض وحدته، وهكذا أصبح النص القصصي هنا يلعب مع نصوص أخرى سابقة عليه، سوى كان بيكيت بكل نصوصه الشهيرة أو “نادي القتال” كنص سينمائي”. يتكرر اللعب أيضا في قصة “حذاء شارلي شابلن” التي تتماهى فيه البطلة مع فيلم شابلن، فعندما يضع حذاءه في الإناء تنظر لحذائها القديم البالي، فيأتي صوت الأم الذي يمثل هنا صوت التقاليد أو صوت السماء لتنهرها وتأمرها بالرضا، حيث يبدو حضور شارلي شابلن وفيلمه في هذا السياق مركزيا في البناء السردي للنص القصصي. الأمر نفسه يتكرر في قصة “الحياة الأخرى لملكة البجع” والتي تهديها الكاتبة “إلى مارينا سيمينوفا”، وهي أسطورة الباليه الروسية التي لقبت بآلهة الباليه، حسبما تشير الكاتبة في الهامش، وتنبني القصة على رغبة البطلة في أن تكون راقصة باليه وعلاقتها ببحيرة البجع.

سنرى ملمح اللعب مع نصوص سابقة متكررا بكثرة في أكثر من نص، ولعل هذا اللعب كان له أثره في شيوع التناص داخل قصص المجموعة سواء مع كتب أو أفلام أو حتى قصص الأطفال مثل قصة “البيض الذهبي”، أو التناص مع الأغاني العربية والأجنبية، وخاصة أغاني فيروز، فضلا عن التناص مع الأغاني الشعبية، والحكاية الخرافية، للدرجة التي دفعت الساردة في قصة “جبل النرجس” إلى صناعة أكثر من رواية للحدث الواحد، أولها الحكاية الأسطورية والثانية الحكاية الخيالية والثالثة الحكاية الواقعية، وكل منها تروي الحدوث من منظور حكائي مغاير للآخر، ولعل هذا تجل آخر من تجليات سردية اللعب الجميل والشائق.

 

مقالات من نفس القسم