أنا العالم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 13
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسام وهبان*

هكذا يعلن الكاتب موقفه منذ البداية من الحياة انفصال تام وحدة مطلقة خواء هائل لا يملؤه سواه ذات تبدو كلوح خشبى هو ما تبقى من سفينة غارقة عالم تحطم فى وعيه تماما

يبدو الكاتب كقصاص أثر يبحث عن خطوته الهائمة فى بحر من الرمال المتحركة فى ريح عاصف

عنوان ربما تظهر فيه بعض ملامح النرجسية من الوهلة الاولى و لكنها للاسف نرجسية البؤساء من فقدوا كل شئ و لم يتبقى لهم سوى ذات تسكنها أعاصير الألم و الأحلام المجهضة

عنوان يبدو كجواب قاطع عن سؤال يدهسنا به واقع مجنون صباحا و مساءا من أنت ؟ فتصرخ الانسانية المحاصرة داخل كل منا :-

أنا العالم 

فى فضاء ممتد يتلاشى فيه الزمان و المكان فضاء لا يتسع سوى لبصيرة الراوى( يوسف عبد الجليل) لترى ما تراه عن ذاتها و عن مسيرة عائلة أصابتها لعنة القدر على طريقة ماركيز فى تحفته الخالدة ( مائة عام من العزلة) لعنة كالتى أصابت عائلة بويندا سكان قرية ماكوندو المهجورة فهو المولود الأول ولد بعينين مختلفتين واحدة بلون الحقول كأنها تدل على البكارة و الحياة و الأخرى بلون السماء و كأنها دليل على النقاء و اللا محدودو الاخر طفل مشوه يتحول ليلا الى قط كلعنه اصابت الوالد نتيجه اصابته قط بمسدس صوت عن طريق الخطأ و كأن القدر يعبث بمصائرنا و الاخر يحدق فى السماء و يبتسم لكائنات غير مرئيه مجهولة و كأن هذه العائلة أصابتها لعنة الغيب و استبطان الأشياء و مطاردة البعيد الذى لا يجئ

البناء السردى فى الرواية:-

يبدو السرد من الوهلة الاولى بلا رابط و لا تسلسل منطقى للأحداث و يبدوا ارتجاليا يحدده التداعى الحر لذاكرة الراوى فيما يشبه الهذيان و يبدو الراوى و كأنه يطارد برقا خاطفا فى سماء روحه المظلمه و كأنها انفجارات نفسية  غير منتظمة  و ربما ظن القارئ أنه اسلوب سردى حداثى متأثرا بميلان كونديرا فى ( كائن لا  تحتمل خفته) حيث يتم ذكر الحدث بشكل عرضى و العودة اليه و تفسيره ربما بعد احداث كثيرة لا يجمع بينها منطق و لا رابط و لكن بالاستمرار فى القراءة حتى نصل للحظه موت عبد الجليل الأب نكتشف ان البطل مريض باضطراب عصبى نتيجة وحدته القاتلة و التى زادت بشكل كبير بعد موت الأب و أن كل الأحداث و الشخصيات من صنع خياله هو و التى خلقها بديلا عن عالم لا يرضاه و لا يقبله و هنا يصبح ما اعتقدنا أنه سرد ارتجالى شديد التماسك و الانسجام و مناسب تماما لشخصيه بها اضطراب ذهنى و الكاتب استخدم الاسطورة و الفانتازيا و لغه شاعريه تماما (و أقصد بالشاعرية هنا اللغه المجازيه التى تسقط عن الأشياء ماهيتها التى نعرفها بها فى الواقع و اعاده تعريف الأشياء بمنطق الخيال)  فى عملية هدم الواقع و خلق حياه بديله وواقع مغاير مناسب لما يتصوره عن الحياة و لا يوجد اكثر من الاسطورة و الشعر لاحتواء هذا التناقض و القيام بعملية الهدم فى شكل يمتزج به الواقع بالخيال بهذه السلاسة و البساطه بل و المنطقية ايضا

و أيضا معرفة ان البطل مصاب باضطراب ذهنى فسر لنا بعض المشاهد و الاحداث التى جاءت بلا منطق يفسرها و بشكل غير مبرر مثل الرجل صاحب السيف الذى يطيح برأس الفتاة  و الرجل الذى يبصق فى وجه الموظفة على سبيل المثال

شخصيات الرواية:-

فى جوهر كل شخصية كما صورها الراوى يوسف عبد الجليل البطل الرئيسى توجد طاقة ايجابية كبيره جدا و أعنى هنا الانتصار لواقعها النفسى بمعنى ان تحيا العالم كما تتصوره حتى و لو فى الأحلام و لو مجرد شرف المحاولة  فليس للانسان قدره أن يستثنى نفسه من لعنه القدر و لا أن يفلت من شراكه المؤلمه و لكن تتحدد ايجابيته من رد فعله على رسائل القدر

الجد الأكبر أبو جبل هجر ابيه حيث البراح  سيرا على الأقدام الى أرض بعيده بلا اسم و لا هوية  و ابتدأ حياة جديده تماما لا يملك غير الحلم و بنيانه القوى و ظل دائما حارسا للقرية فكان يعرف كل فرد فيها  بكل تفاصيل حياته  و حين جاء عام لم ياتى الربيع كما اخبرته الاسطورة و عم القحط و الجوع لم يتخل عن ايجابيته ابدا وذهب باسرته للقاهرة مبتدئا حياة جديده مره ثانية و عاش مهتما بالاسرة و رأى فى  يوسف سر الاسره فظل حتى وفاته يملى عليه شجرة العائلة و يوصيه بصلة الرحم و يشكو اليه حزنه الوحيد ان العائله ليس فيها شاعر

الجدة تبدو فى المشهد منذ البدايه شديده الايجابيه فهى من اقترحت على الجد منذ البداية ان يبنى له بيتا غلى ما تبقى من الارض لتامين مستقبله و الجده حامله الاساطير الغامضه طول الوقت المحبه للخير الغائبه الحاضره التى لم تسمح لغير يوسف بالاقتراب من عالمها

و الام غاليه التى لا نسمع لها حديثا و لا نكاد نلحظ وجودها الا فى مرات قليله جدا واحده فى مشهد موت الجده و الاكثريه بعد موت عبد الجليل و كأن وجودها كان مختزلا فى وجود زوجها متفانية  فيه و فى اولادها و لم تستطع التعبير عن ذاتها سوى بعد غيابه

غاليه التى صدمت يوسف بعد وفاة الاب يزواجها من العم قادر ربما لانبهارهابحبه للقطط التى احبتها و لم تصرح بحبها لها  فى وجود عبد الجليل الذى يكرها و لعل تطور هذا الحب ختى صارت حياتها كامله فى عشة القطط فى مشهد شديد الفانتازيا دليل على ذلك

و اخويه الذين يصفهم بانهم لم يشعروا ابدا بنعمه حديقه منزلهم ربما فى اشاره بانهم شخصيه لا تنتمى لاحد و لا لشئ و انهم كانوا يخلمون دوما باللعب فى البراح كان لهم ما ارادوا و تركوا كل شئ متوحدين مع ما تمنوه حتى عبر عنهم الكاتب ان من كثره ما كانوا يمرحون فى البراح نفذت طاقتهم حتى اصبحوا كعقلة الاصبع الصغير و عنما دخلوا على غاليه فى قفص القطط لاشتياقهم لها و لاحساسهم بالجوع اعتقدت انهم قطع لحم صغيره مبدوره على ارضيه العشه و لم يعرف احد مصيرهم

و العم قادر الذى اختار مصيره منذ البدايه و ان يكون له حياته الخاصة بعيدا عن واقع البلده الميت العقيم

وزوجه قادر التى امتلكت جراه القرار لتترك حياتها و تعيش مع شخص يربى العقارب و العناكب و حين اراد لسبب مجهول ان يقتلها لم تطلب منه سوى ان يدعها ترسم و ان تجمل العالم من حوله  حتى تفنى تماما  

أما يوسف عبد الجليل الراوى الذى نقل لنا عالمه كما تصوره فهو المحور الذى يدرور حوله كل شئ فهو المرتبط بالجده المطلع على اسرارها و هو سر الجد الحافظ لجوهر الاسره و لشجرتها و الامها و يبدو يوسف بالرغم من ذلك و كانه يتامل العالم من وراء باب مغلق قد يستمع اليه و قد يحاوره و لكنه ابدا لا يراه كما هو و لكن كما يتوهمه او بالاحرى كما يتمناه 

يوسف شخصيه شاعريه بمعنى انه يعبر عن لحظه لا يخبرنا عن ما وراءها و ماذا قاد اليها فمثلا ما الذى دفع به لهذه الوحده القاتله فى اسره ليست صغيره و لم نفهم مما رواه انه تعرض لقسوة أو ظلم ابالعكس كان قبلة الجميع و هذه طريقه الشعر أن يصب كل اهتمامه على تكثيف الاحساس بلحظه ما لا نهتم بما وراءها من تفاصيل فقد يقول شاعر ما انه حزين و يكون كل الاهتمام ان ينقل لنا احساس الحزن دون ان يهتم احد ما بالسؤال لماذا يحزن

و مما يلفت النظر أن يوسق كان ينادى الاب و الام بدون ألقاب و كأنه لا يحمل تجاهم مشاعر خاصة و لا وضع مميز ربما كان يحمل تجاهما بعض الحزن وربما شئ من الغضب الدفين النبيل الشفاف ربما لأنهم تركوه اما بالموت أو بالزواج من اخر و كان فى نفس الوقت يتحدث عن الجد و الجده بالأقابهم

يوسف خلق عالما كما تمناه اهم ما فيه مكانه الحب فى هذا العالم و كان من الملفت ان يبدا الحديث عن ريم دوما بهذا السؤال لماذا احبك يا ريم و كانت الاجابه دوما تعبر عن احتياجه و دوما كانت تعطيه ما حرمه منه واقعه و دائما كان يظهر مهعا بشخصية مغايرة تماما و يشبع حاجاته النفسية و الجسدية و كان يبدوا دوما شخصا قادرا مقتحما يمتلك مصيره و لا يخشى القدر  فهى كانت له تصوره عن عالم تمنى حقا وجوده كانت تحقق له دوما قدرته على الخلق

و الشخصيات الاخرى  كانت تجسد تصوره عن العالم كما ينبغى أن يكون مثل الرجل المظله هذا الملاك الحارس للحب و المحبين فى عالم لا يعترف بهم ربما عكست رغبته ان يكون للحب قوه قاهره تنقذه دوما مما يعاتي هذه الشخصيه المتجردة للحب التى تعطى و لا تتصور نفسها ذاتا محبة أبدا هو الحب فى تصور يوسف لابد له من تجرد تام ليعيش و يستمر و يفر من حصار الغابة الموحشة

 

انقسم عالم يوسف النفسى  لمرحلتين فما قبل وفاه والده كان متوحدا تماما مع أوهامه يحياها بهدوء و اقتناع تام بحقيقتها و هذا ما جسده السرد حيث لم يعطى الكاتب أى اشاره من أى نوع أن هذا العالم أوهام مريض بخلق عالم أفضل و المرحل’ الأخرى تبدأ بوفاة والده  و على الرغم من اننا لا نلاحظ اى حميميه فى  العلاقه الا ان موته كانت نقطه الفصل فى الروايه فهو و للمرة الاولى يصرح انه افتقد الامان و شعر بوحده طاغيه حقيقية و ان العالم من حوله هياء و انه بلا سند حقيقيى هنا لحظة الصدمة و الكشف عن وجه الذات الحقيقى   

و كانت اول جمله يكتبها عندما ذهب للطبيب هى جمله أنا العالم كتعبير عن معاناة حقيقية للفقد و التى لم تأت باعترافه هو شخصيا عن انكار الاخرين  له و لا اهمالهم و كان تفسير الدكنور شاكر لما كتبه كله فى كلمه واحده ( وحدة) و حين عبر له عن حالته و كانه فى قاع قدر كبير كنمله و ساله هل يرى احد يساعده ظهر من اجابته تصميمه و تفانيه فى وحدته فهو لا يزعجه تلاشى العالم و بدا له قاع القدر كعالم طبيعى تماما

حياه يوسف بعد زياره الطبيب لم يتغير فيها شئ سوى ان وحدته عبر عنها بالكتابه  و ليست كتابة تعبر عن البوح و لا الألم و لكن كتابة تعبر عن التساؤل المر عن المصير كما بدا فى قصته القصيره التى كتبها فى الروايه تحت اسم (تقربا للصحراء) كي يبدد مخاوفه و حتى على حسب تعبيره لا ينتهى العالم و لكن لم يقرر مثلا الاستمرار فى العلاج او التخلص منه و لكنه ابدى اصرارا على التفانى فيها للنهايه و مع ظهور رغبته فى الكتابه ظهر الرقيب الذى يحاول السيطره عليه و اخذ اجمل ما فيه و ما امتلكه فى خياله ( ريم)

و ايضا لم يتوقف هذيانه و لا عشوائيه السرد و كان الوحده جزء اصيل لا يرغب اصلا فى التخلص منه

فى مشهد النهايه اجمال القصة

حين يخبره طارق انه ذهب للطبيب بعد ان عرف بانفطاعه عن زبارته و وجد ملفا بما كتب يوسف عن كل الشخصيات التى توهمها و اشتياق شاكر لمعرفه مصير تلك الشخصيات في البدايه انكر يوسف انه حتى كتب هذه الشخصيات و لكن كيف  كان كان رد الفعل ؟

بدا متوحدا مع اوهامه تماما و قرر الهروب اليها للابد و ان يفنى كل منهما فى الاخر

بدا الواقع محتشدا امامهما طارق صديقه و الدكتور شاكر و اللذان يمثلان حقيقنه الصادمه و الرقيب بما يمثله من مخاوفه المرضيه على عالمه الافتراضى  يتقدمون نحوهما و هو و هوى تلاشا تماما كحبتى فول واحده بطعم النعناع و الاخرى بطعم الياسمين و اختبئا فى حديقه النعناع فى منزل العائله المهجور هكذا عالمه الاخير و النهايه التى تمناها و اختارها خياله لحياته

ريم التى اختصرت حياته و تجسد له فيها كل ما اشتهاه و تمناه اشتهى فيها متعه البوح و الكتابه و الجسد

و حديقه النعناع الوحيده التى بقيت فى وسط القريه التى التهمت المبانى كل حدائقها و التى حين فكر ان يبيعها لحاجته حلم ان الاشجار تبكى و عاهده النعناع ان لا يحيا له نباتا غيره فى الحديقه و تعهد له ان يكفى حاجته فى الحياه

هو يوسف عبد الجليل او الانسان المقهور داخل كل منا كم حلمنا ان نختبئ مع من حب كحبتى فول فى حقل نعناع يتكفل بنا و يسد حاجاتنا و يقينا صحارى الغابه الموحشه و كم تمنينا الفناء فيما نحب ونتوهم ربما فى الوحده الوارفه نكتشف الاجابة عن السؤال الصعب

كم تمني كل منا هذا الفناء الخصيب 

فليمد كل منا يده للاخر  تحت الرماد و ليصرخ كل منا من اعماقه :-

أنا العالم

أنا العالم

……………..

*شاعر وناقد مصري

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم