أنا العالم المُجرًّد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطي

ليست رواية الكاتب هانى عبد المريد "أنا العالم" الصادرة مؤخرا عن "الكتب خان" سوى تجسيد حقيقى لتيار فى الكتابة الروائية ليس جديدا هو تيار الوعى الذى يمثل أداة أدبية تسعى لتصوير وجهة نظر فردية من خلال إعطاء المعادل المكتوب لعمليات الفكر الخاصة بالشخصية، سواء فى مناجاة داخلية مُطلقة، أو فى الاتصال بردود فعل حسية للحوادث الخارجية التى تصورها السارد.

 

 

وذلك بالفعل ما قام به بطل رواية أنا العالم الذى يروى من وجهة نظره الشخصية وكأن القارئ لا ينفك عن قمقم من الذكريات والتداعيات التى يقدمها له الراوى سليل عائلة عبد الجليل الذى يُؤطر حكى الجزء الأول من نصه فى حب ريم تلك الشخصية التهويمية التى لا تظهر سوى عبر ومضات تذكر الراوى لها، أو استدعاءه لها عبر تيار الوعى أو التداعى الحر رابطا فعل التمنى الذى يجيش داخله ولا يألو جهدا فى المصارحة به بوجودها، ريم الحبيبة المجهولة التى تسيطر على فكر الراوى “سأقول لك يا ريم لماذا أحبك هكذا جاءنى ظن أنه ربما يكون لأنك الوحيدة التى تدفعنى للحكى” (ص14)، وعبر فعل التذكر نعرف من هو يوسف عبد الجليل، ابن ريف لكنه لم يعش فى هذا الريف سليل عائلة تتخذ من المجاز والتورية أداة لكلامها، وعبر الحكى الدائرى الذى يخرجك من حكاية إلى أخرى – تتحكم فى سرد الراوى الميثولوجيا بقدر كبير- الميثولوجيا الأولى تُعنون بالراوى والجدة ومن ثم كرامات الجدة، فأسطورة الجدة التى جعل الله شفاء الناس على يديها تتكشف بجلاء: “رأيت الجدة عالمة ببواطن الأمور، وكأنها رأت كل الأماكن وعاشت الأزمنة جميعها ورأيتها ترمى بنظرة هناك فى الفراغ البعيد وتخبرنى بأنه سيأتى زمن يحدث فيه كذا وكذا، فعرفت أنها قد تظل هناك فى الآتى أيضا “ومن الجدة إلى جدها الذى كان يشفى السقيم بإعطائه شربة ملح وكانت الناس تشفى على يديه تماما مع اختلاف شكواهم. ومن اسطورة الجدة وجدها ومن ثم إدراج الشخصيات والأفعال بشكل متنامى إلى العودة إلى ريم وكأنها ذلك الهاجس الجميل الذى يسكن الراوى الذاتى ومنها تخرج الحكايات وإليها تعود الحكايات، ففى لغة تقريرية يخاطب الراوى نفسه “ألذالك أحبك يا ريم؟ لأنك جعلتينى أتمنى التحول إلى قط جعلتينى أفكر كثيرا فى ريما وأشعر بالغيرة كلما تخيلت أن هناك قطا اعتلاها ويزداد قلبى خفقانا“.

إن التداعى الحر الذى يمثل دعامة النص وصُلبه هو نتاج طبيعى لحالة الوحدة والضياع التى يعيشها الراوى أو المعاناة من الوحدة التى ذكرها طبيبه النفسى صراحة داخل النص فالراوى المريض بالفصام أو هلاوس أو التخيلات والذى لا يعانى سوى القهر ومن ثم الهروب داخل الذاكرة التى هى الحامى الوحيد له من أسر الواقع المُهموّم وهو ما بيرر عنونة النص بــ”أنا العالم” فيوسف المريض بالتداعى الحر ما هو إلا شرنقة تتمحور حول نفسها أو قوقعة داخل ذاتها ولا تنفك تنسلخ عن داخلها الا فى حالة تنشيط فعل التذكر الذى لا يرى الحاضر بل ينسج كل ما هو حالى اقترانا بما هو ماضى وكأن الماضى هو الحقيقة التى لا فكاك منها بينما الحاضر غائم وضبابى وليس موجودا امام الراوى فى الاساس. حتى عندما يكتب يوسف عددا من العناوين الداخلية فى النص تحمل ” مشاهد مرتبكة ” ما الارتباك الا ارتباكه هو فى التعامل مع الواقع. يوسف لم يكن يوما واقعيا ولم يساعد نفسه على تمثل الواقعية وهو الجزء المُلغز فى النص الذى تركه الكاتب هانى عبد المريد بحرفية ومكر الكاتب المتمكن كى يصوغه القارئ وكأن القارئ شريك فى الحكى. او يمكن ان يتماثل ويتداخل ضمن ثنايا النص فلا يكون مجرد قارئ لرواية بل فاعلا بخياله لاستكمال فراغات النص التى تركها له الكاتب كى يملأها عبر خياله. ولم يكن ذلك هو دهاء الكاتب فحسب بل أسلوب جديد فى الكتابة متجسدا فى تلك الجريمة الوهمية التى يدرك القارئ المتمرس المدقق انها ليست جريمة وان وقوع الراوى تحت رقابة احد الاشخاص ما هذا الشخص سوى يوسف نفسه وما المروى (الحكاية) سوى هواجسه التى يسردها الراوى الذى يُعانى الفصام .

وإذا كان الراوى يوسف عبد الجليل، قد أغرق قارءه أو متلقى نصه الذى سرده ذاتيا باقتدار، والذى يعتبر نفسه صندوق أسرار مغلق بمتاريس عتيقة يكسوها الصدأ والأتربة، ومروا منه إلى تلك العائلة الأسطورة التى تخلق داخلها شعورا بأنهم أكثر معرفة، وأكثر مسئولية (عائلته) التى لا تتكلم إلا بالمجاز مع الاستنكار الشديد أنها لم تنجب شاعرا، فإن اللغة المتراتبة بإحكام التى تضنها النص هى ما تجعل كاتب النص فى مصاف الروائيين الأقدار والشعراء بالسليقة.

……………

جريدة اليوم السابع بتاريخ 26 يوليو 2016

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم