“أنا العالم” أو كيف تتهكم على الأسئلة الجمعية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ما الذي يمكن أن تقدمه الميتافيزيقا لإنسان القرن الواحد والعشرين؟ يبدو هذا السؤال، في ظاهره، بعيدًا عن رواية "أنا العالم" لـ هاني عبد المريد، غير أنه، في الجوهر، سؤال الرواية نفسها. فإذا كانت الحداثوية الأوروبية انطلقت من فكرة "الإنسان هو الإله"، الذي يمكن صياغته بمقولة "أنا العالم"، ما ترتب عليه تراجع الأفكار الميتافيزيقية واعتبارها سلسلة من الخرافات التي توارثها البشر، وبالتالي يجب التخلي عنها من أجل "حداثوية" تقوم على العلم والعقل، وتفسير كل ما هو غير قابل للفهم باعتباره "خرافة"، فإن هذه الحداثوية نفسها، التي انتصرت للفلسفة المادية على حساب الفلسفة المثالية، لم تنتج في روح الإنسان الأوروبي إلا خواءً، او لنقل حيرة، إذ ظلت الأسئلة الكبرى معلقة في الهواء، ولم تقدم، لو تمعنا النظر، إلا إحلال "الإنسان" محل "الإله" وإحلال "العقل" محل "الغيب" أو الماورائي. غير أن هذا الإحلال لم يمنح البشرية السعادة المرجوة، كما لم تمنحها له "الخرافة" بمعناها المطلق. 

من هنا ظهرت تيارات نقد الحداثوية الأوروبية من داخل نفس المجتمعات، ومن هنا كان ظهور تيار “ما بعد الحداثوية” الذي لم يؤمن أبدًا بأن الإنسان إله، ولا بأن الإنسان هو مركز الكون وغايته، بل صدّق على أن الإنسان كائن هش وضعيف، ما أدى، بالضرورة، لتدمير المعايير التي وضعتها الحداثوية من قبل، لتعيد الكائن البشري إلى محله الطبيعي ككائن تائه لا يملك من أمره شيئًا. ليس غريبًا أن تظهر الحداثوية الأوروبية مع عصر الأنوار، مع انفصال الكنيسة عن الملك، وليس غريبًا بنفس القدر أن تظهر ما بعد الحداثوية بعد حربين عالميتين أوروبيتين، نتج عنهما ملايين الضحايا وكم مهول من التدمير. غير أنه لم يكن تدميرًا فقط للابنية والمنشآت، بقدر ما كان تدميرًا لأفكار قامت عليها اوروبا كقارة عجوز، متقدمة.

     في فلسفة ما بعد الحداثوية التي ألقت بظلالها على الأدب، ظهرت الميتافيزيقا، ليس في كونها حلًا للأسئلة المعلقة، بل باعتبارها اقتراحًا ممكنًا لفهم العالم وتعبيرًا عن عجز الإنسان عن تقديم استدلالات علمية لبعض الظواهر التي تحدث، وكانت أفضل تعبير عن هذا الاقتراح ظهور تيار الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية (وإن سبق بسنوات صك مصطلح “ما بعد الحداثوية”، لكنه كان تعبيرًا عن محتواها في هذه الجزئية) ولعل ذلك كان سببًا في شهرة وصيت هذا التيار في أوروبا اكثر من أمريكا اللاتينية نفسها، رغم أنه واكب في ظهوره تقريبًا الرواية الفرنسية الجديدة.

     وإذا كانت الرواية الحداثية تنتصر لليومي والمعاش، باعتبار أن العالم “هنا والآن”، ما يترتب على ذلك بنية متماسكة تعبر عن هذا المنظور الذي يمتلك “الحقيقة” (الواقع أن الحقيقة ثابتة عند الحداثوية كما هي ثابتة عند المتدينين، ما لم يأت دليل لدحضها) فالرواية ما بعد الحداثية انتصرت، فكريًا، للماروائي، وتكنيكيًا للتشظي، فيما غدت “الحقيقة” لديها “نسبية”، أما أبطالها فليسوا إلا مجموعة من المهشمين والمهزومين والفاشلين، هؤلاء الحائرون بمعنى من المعاني. وهو تجسيد منطقي لحياة الإنسان العصري، سواء كان شرقيًا او غربيًا.

     على هذه الخلفية، يمكن قراءة عنوان رواية “أنا العالم” باعتباره عنوانًا متهكمًا من هذه الإلوهية الحداثوية، تهكم يتضح كلما تقدمنا في صفحات الرواية، إذ الميتافيزيقا التي شيدتها المخيلة الشعبية هي المتكأ الأول للعمل، بها تتطور وحولها تدور. لكن هذه المخيلة لم تركن فقط للشائع في الثقافة الشعبية، بل اخترعت نمطها الخاص لتقوية اواصر الغرابة في العمل، ليست بكونها غرابة دخيلة على الواقع، بل ابنته الشرعية ونتاجه الأول، أو وجهًا آخر من وجوهه غير المطروقة كثيرًا كتابيًا رغم أنها تمثل ضلعًا من أضلع الواقع ذاته. شخوص العمل المألوفون، مثلما شخوص الواقع، يحملون جانبهم الخفي، جانبهم السحري والغريب، قدرتهم الخارقة على هدم الحقائق الثابتة والمتفق عليها، وسلطتهم الخاصة على الحيوانات. نحن بذلك أمام شخوص مركّبين على بساطتهم، يمتلكون رؤيتهم الخاصة لتفسير العالم، لكنه ليس التفسير الديني، بل الميتافيزيقي.

      لعرض هذا العالم السردي، اختار عبد المريد تكنيكًا يبدو كرسالة طويلة إلى “ريم”، أكثر منه مونولوجًا. إنها ذريعته الأساسية للحكي عن عائلته، عن غرابتها وعالمها الثري، عن معجزاتها. عن نفسه هو كسليل لعائلة خارقة، ليس في قدرتها تغيير العالم، بل في تطويعه وفك طلاسمه والاستجابة له. هذه القدرة تتقاسم الشخصيات مع العجز، بنفس المقدار، إذ البطل الرئيسي ليس إلا أحد التائهين في هذا العالم الواسع. لكنها تتقاسمها أيضًا مع السخرية، والفكاهة، ومع الرغبات المكبوتة. وهنا تلتقي الرواية مجددًا مع ما بعد الحداثوية، حيث السخرية سمة إضافية، وحيث الاتكاء على الآنا الفردية، بكل ذاتيتها، سمة أخرى، تخالف الصوت الجمعي والقضايا الجمعية.

     منطلقات “أنا العالم” ليست التأكيد على فكرة، بل السخرية من الأفكار. بذلك، تبدو “العبثية” لعبة سردية أخرى في جوهرها، إذ الهدم رغبة لا واعية في البناء، تشييد لفكرة أخرى عن العالم والتعرف إليه. تقديم عدة حقائق، ما يجعل كل حقيقة منها سائلة وقابلة، بكل بساطة، للتقويض. العبثية، بمعناها التهكمي كما بمعناها العدمي واللا منطقي، هي أساس كل شيء في هذا العالم السردي، وفي هذه الآنا التي تدعي أنها العالم. عبثية مضاجعة “ريما” القطة و”ريم” الحبيبة بعد أن امتزجا معًا، وعبثية الشفاء بالعلاج الشعبي وتصور البطل الراوي أنه العلاج بطاقة الجدة المعالجة، كلها أحداث تنضم لأحداث أخرى أسطورية تخص حكايات الأب عبد الجليل كما تخص الجد النازح. العبثية هنا ليست ابنة ذهنية فانتازية، بل هي بالأحرى سليلة الثقافة الشعبية والغرابة اليومية التي تقدم الميتافيزيقا بقدر ما تقدم الأصالة، أو العودة للفطرة الأولى دون أي تدخلات حداثية دخيلة في بنيتها على هذا العالم.

      تتكامل هذه الفكرة مع بنية الشخصيات نفسها، إذ يحمل كل منهما وجهين: الضعيف والمقتدر، المتواضع والخارق. حتى الذريعة التي يختارها الراوي لسرد حكايته تتأرجح ما بين الرسالة والمونولوج، ما بين حكايته وحكاية عائلته، ما بين الآنا والآخر، الفرد والجماعة. هذا التردد كاختيار جمالي هو المنطلق الفلسفي للعمل الأدبي، وهو الانعكاس الأكبر للسياق العام الذي تولدت فيه الرواية، والتعبير الأول لراوٍ بطل/لا بطل يبحث عن استقلاله في عالم يشكّل، هو نفسه، جزءًا منه رغم إرادته. من هنا يبدو العنوان خادعًا، محض لافتة تخبيء وراءها النقيض تمامًا، مثلما يدعي البطل أنه سيحكي لريم بينما يحكي عنها، ويسرد الحكايات بضمير المتكلم ليحكي عن آخرين.

  العبثية كجوهر تتحرك على طول الرواية وحتى نهايتها، إذ تبدو الرواية كأنها لا تريد أن تقول شيئًا، حتى ولو طرحت سؤالًا حول الكينونة، مثل من أنا، أو ما الكتابة، ورغم انشغالها بسؤال المجاز وارتباط حكايات عائلية به. ربما يتجلى ذلك في رغبة العائلة في امتلاك شاعر من سلالتها، كأنها حققت أحلامها ولم ينقصها إلا شاعر يقولب لها خلاصة أفكارها. عبثية تتعامل مع الواقع باستهانة تليق به، وتخلق ايهاماتها كفخاخ لا تروم في النهاية إلا السخرية منه. أثناء ذلك، لا تطرح الرواية سؤالًا حول اللحظة الآنية لكتابتها، ولا تبحث عن جماليات خارجة عن فلسفتها، إذ العالم، بحالته المعروفة، بأسئلته الكبرى الخاصة بالحداثوية، لا أهميته له إلا بالتهكم عليه، ولا وجود له إلا لتجنبه. بذلك يكتسب “أنا العالم” كعنوان، و”أنا العالم” كرواية معنى جديدًا، لا يؤكد على ألوهية الإنسان بالمعنى الحداثوي، بل على هشاشة الإنسان ودورانه حول هشاشته لصعوبة التواصل مع العالم الواقعي بقسوته، بالمعنى الما بعد حداثوي. وهو، إن شئنا الختام، إنجاز الرواية الحقيقي، جماليًا وفكريًا.        

عودة إلى الملف  

مقالات من نفس القسم