“ألم خفيف” لعلاء خالد: تاريخ جارح.. وأوطان هشة

"ألم خفيف" لعلاء خالد: تاريخ جارح.. وأوطان هشة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مهاب نصر

في أواخر عام 1991 كتب الشاعر المصري رفعت سلام مقالا مطولا حول شاعرين مصريين رأى أنهما يحملان نفسا مغايرا في القصيدة المصرية، وتحديدا قصيدة النثر، هما الشاعران علاء خالد وأسامة الدناصوري. الصداقة كانت تربط بين الشاعرين رغم اختلاف كل منهما في التعبير عن اللحظة، وبعد أعوام طويلة قال الشاعر الراحل أسامة الدناصوري إجابة عن سؤال عن الجيل الذي ينتمي إليه بأن جيله “هو علاء خالد”.

كانت لحظة مختلفة شعريا تقف على مسافة نقدية مما يسمى بجيل السبعينات في مصر وما قبله، تبحث في القصيدة لا عن الوجدان الجمعي مثلما كانت الشعريات الزاعقة سياسيا أو ذات الطابع الإنساني الفضفاض كصلاح عبد الصبور، ولا تسعى لاكتساب قيمة التمرد من خلال ذات إبداعية ترى نفسها مركزا للحقيقة، وترى الحقيقة الجمالية ـ الممثلة في بلاغة مفرطة إن صح التعبير ـ بديلا أخلاقيا وجماليا عن فساد الصراع السياسي والأيديولوجي.

كلا الشاعرين انتهج بحثا خاصا، شكل ملامح جيل لم يستقر وضعه طويلا، ولم يضم أعدادا كبيرة، جيل وضع الحياة الخاصة على المحك ومعادلتها بالحياة داخل الكتابة، جيل الرهان على المعرفة الشخصية، وتقديم الحياة كعربون لحقيقة الفن، ليس بالمعنى الانتحاري، بل بمعنى أن تكون الحياة المعيشة هي مصدر إنتاج الجمال في الكتابة، ومن ثم تعيد للضمير الأدبي انسجامه، وتنهي فكرة التمرد والانقسام الزائف على النفس بين حقيقة الحياة وحقيقة الكتابة.

وأعتقد أن الشاعر والكاتب علاء خالد ظل وفيا لفكرة أن تكون الحياة بمعناها الملتبس كخبرة جمالية هي مصدر المعرفة الأدبية، ومن ثم اعتمد في قصائده على شيء أشبه بالحكي، الموقف الدرامي المختزل، حين تأتي المفارقة الشعرية غالبا لا من قفزة بلاغية بل من ضربة كالحكمة تلخص جوهر التجربة. لم يبدأ علاء خالد هكذا بالطبع، فديواناه الأولان “الجسد عالق بمشيئة حبر” و”وتهب طقس الجسد إلى الرمز” كانا حافلين بنوع من التمرد الفرويدي، والإسقاط، وشكل من الاحتجاج على السلطة.. سلطة الأب، وسلطة الضعف الروحي.

في رواية علاء خالد الأخيرة “ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر” الصادرة عن دار الشروق سنقرأ ردا على هذا الاحتجاج، أو بالأحرى نوعا من المصالحة. لكن هذا جانب واحد فقط من الموضوع. نسب “ألم خفيف” ليس روائيا بالأحرى، فيمكن العثور على منطقها في العملين الشعريين “حياة مبيتة” و”كرسيان متقابلان” وفي عملين سرديين: “خطوط الضعف” و”طرف غائب”.

سيرة العابرين

تمثل رواية علاء خالد مشكلة من حيث التصنيف تعرض لها غير واحد: هل هي رواية أو سيرة شخصية، أو سيرة مكان أو شهادة على شخوص ونماذج حقيقية؟ يدفع إلى التساؤل معرفة البعض بسيرة الكاتب الملتبس بالراوي؟ كما تستفزها الجرأة على كشف التفاصيل التي قد تبدو جارحة أحيانا. لكنها مشكلة يقفز عليها القارئ غالبا تثمينا لجوهر الكتاب كخبرة شديدة الصدق في التصاقها بنماذج نعرفها، سواء صح أنها وردت بأسمائها أم لم ترد، وقراءتها الهادئة والجارحة معا لتجارب الناس والمجتمع البرجوازي تحديدا المسمى عادة الطبقة الوسطى في أحد أحياء الاسكندرية التي كانت تتمتع بشيء من العزلة يوما ما. ترصد الرواية مجتمعا يبدو أمامنا فجأة بعكس السكونية التي تقدمه بها نوستالجيا شائعة ثقافيا عن الحياة المصرية، مجتمعا لأشخاص رحّل وليس لأشخاص مقيمين: أجانب يغادرون مع وصول العهد الناصري إلى نوع من الأزمة مع الآخر، موظفون ارتفعوا درجة، عائلات مسيحية يهاجر أبناؤها، فتنطفئ مصابيح حجراتها. أصحاب محال يثرون في السبعينات، ثم يغادرون تاركين التراب عالقا بحوائط محالهم، وصورة لشهيد في حرب أكتوبر، بل إن الطريقة نفسها التي نقلت بها ملكية البيت “مركز الحكي” في العمل كله تكشف عن رحيل طبقة ومجيء أخرى، ورحيل ثقافة واستبدالها بعصر الثقافة المحلية وأسئلتها التي تبدو أكبر من حجم القاطنين في المكان.

لا تقتصر العابرية إذا على من يسكنون الحي من أبناء الأسر الأجنبية، ولكن حتى الأسر المصرية، منها من أتى من الريف ومنها من ترجع أصوله الأولى إلى الصحراء، هكذا تبدأ الرواية بقصة الجد الأكبر الذي أنشأ هذه الأسرة بعد أن خاض تجربة فريدة في الهروب إلى عالم البداوة ثم العودة مجددا إلى الإسكندرية. وإلى هذا الجد يمتد نسب بيت أصلي كان أوفر سعة ورخاء، لكن خسارة كبرى تهبط بأسرة الراوي إلى هذا البيت الجديد الذي صار بيت العائلة أخيرا وفيه تتمركز الأحداث.

أزمة المكان الروائي

في نص سردي أقدم لعلاء خالد بعنوان “خطوط الضعف” مشهد للراوي وهو يتأمل جواز سفر سائحة أجنبية، ويغبطها على عدد التأشيرات التي تسود صفحاته، وفي “ألم خفيف” فكرة مماثلة عن طوابع البريد التي كانت تأتي ملصقة على الخطابات القادمة من بلاد أخرى.. هنا وهناك يحضر الخارج كضفة لإنقاذ أرواح تتعثر وكمقابل لمكان هش ووطن أكثر هشاشة. ليست المرة الأولى إذاً التي يعين فيها علاء خالد مكانا محددا لاختبار نماذجه، وافكاره أيضا. ففي “خطوط الضعف” اختار على العكس “ظاهريا” بيئة غير مدنية، بل شبه صحراوية معزولة هي سيوة، لكنها أيضا مهددة بتغير لا يمكن السيطرة عليه، وهي تواجهه بكل مرادفات العزلة من سرية وشك والتباس حاد في العلاقات الإنسانية، ولأنها ينظر إليها كرمز يضاهي جغرافية الأرواح المعزولة والقابلة من ثم للاختراق والتطرف، فإنها لا تجسد مجتمعا على حوافه يقع التاريخ والاحداث والإرادات المتنوعة بصراعاتها، بل يتم التركيز إما على الحيوات والمصائر الفريدة، وإما على نقاط الضعف التي تختزل الشخصية في عطب أصلي يرسم طبيعة صراعها ومكان التقائها بذاتها. في مجتمع كهذا يصبح على كل فرد تبرير حياته بنفسه.

في رواية “ألم خفيف كريشة طائر” يختار علاء مكانا أيضا محددا هو بيت العائلة، وشارعا شبه مغلق على أهله، نلمح خلاله الشخوص وكأنهم يطلون من خلال ديكور مسرحي ينكشف لحظة عن أسرة أو شخص أو موقف وكأنه قطاع عرضي في جذع، ترى من خلاله خلاصة التجربة الخاصة، أو السمة النموذجية. منزل الأستاذ يواقيم، أو أسرة عمو نجيب، أو عائلة الشوام، وكل عابري الشارع وقاطنيه المؤقتين، أو دكان عم عبد الستار البقال.

لا ينشغل علاء كثيرا بالربط المكاني والتاريخي بين داخل الحي الذي يصفه وخارجه. هنا بقعة عرضية لا تمثل حماية ولا توفر بذاتها فضاء مثاليا للمشاعر المتظاهرة بالنبل التي تفرضها ثقافة قديمة ذات طابع مثالي، فداخل جدران الألفة يوجد الصراع والموت والانتحار والتلصص والسرية، والسطوة والأنانية والبخل، كل النقائص الإنسانية التي تعرض بحياد الراوي الذي يخفي وراء الولع بالحكي، واستقصاء عناصر المشهد، حكما قويا على طبيعة ما يجمع بيننا كبشر.

رغم التفاصيل اللماحة التي تحدد معالم “النماذج” البشرية وكأننا أمام معرض لملابس وعادات وأسئلة زمن، إلا أن النوستالجيا هى السطح الخادع للعمل.

الكناية والحدث

لا يوجد إذن حدث أصلي في الرواية. ولا يوجد زمن خطي أو موحد، فالزمن يذهب ويجيء كالبندول مع التوقيت “المحلي” لكل شخص. حتى حياة الجد الأكبر وأخيه وأزمة أسرة الراوي العجيبة التي يعيش قسم من أفرادها رجالا ونساء عزابا في ما يسمى بيت العزاب.. لا تترك امتدادا يصنع حدثا جامعا أو مفصليا، بل يمكنك أن تنزع بعض فصول الرواية أو تتوقع أن يضيف الكاتب تجارب أخرى، دون أن يتأثر البناء وسياق الحكي. وذلك لأن الشخص/النموذج هو مبدأ الكلام، كل شخصية هي كناية صارمة لموقف أصلي باحث عن عدالة ومصالحة وتناسق للحياة، لذلك يصبح الحكي أو “الحكاية هي شفاء الراوي”.. وهي عبارة محورية وليست عنوانا فقط لفصل في الكتاب.

تختلف الاعمال الروائية الكلاسيكية في كونها تقوم بإحالات مزدوجة بين الشخصية والبيئة المحيطة لتبرير الأفعال أو إعادة تنسيبها، لكن الراوي في رواية “ألم خفيف” لا يمتنع عن إصدار الأحكام وتحديد السمات الشخصية لأبطاله وتبرير أفعالهم من خلال فكرة عامة، أو مبدأ مرجعي. وكاننا أمام كتاب للخبرة، كيف يشتق كاتب من الحياة معنى لاختلافه، وأين هي المشتركات الإنسانية ونقاط التصالح؟

تنتهي الحكاية من حيث تبدأ، فكما كان البيت مركزا لرؤية الحياة من حوله، يصبح بيعه والتخلص من إرثه رديف الشفاء ونهاية الحكي ايضا.

العطب الأصلي

داخل فلك الحياة العائلية، لا يجاب عن الأسئلة الأساسية وإنما تسكتها وتسربها عبر التفاصيل والمساومات الصامتة لعبة العيش المشترك حتى يأتي الموت.

أين تكمن كرامة الحياة؟ إنها في ذلك العطب الأصلي الذي تصارعه كل شخصية. كل شخصيات الكتاب يلتقون عند كعب أخيل، لكنه مركز بطولتهم المؤقت ايضا، “سعيد كلتو” أو “سمر ويلة” أو “سيمون” المشلولة التي تجر قدمها وحياتها معها؟ أو حتى الجمال الفائق للجارة التركية. ولأن مصدر هذا الضعف غامض (بعد أن أنحي المجتمع والتاريخ الواسع من الطريق) تأتي قضية الإيمان هنا حاضرة بصورة مشوشة، غير مرفوضة وغير مؤكدة، الإيمان بالقدر الخاص، وتأتي فكرة الحلم عند الأم مكملة للأساس الحدسي للخبرة التي حرمت من الاشتباك مع عالم أوسع… الحلم كيقين معرفي وجمالي أيضا.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم