ألبوم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 15
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

توفيق بوشري

بعد أن ينتهي من سبابي، لعني وقذفي بأرفع العبارات وأسمى النعوت.. يهدأ جدي. فلا أسمع له بعد ثورته غير غمغمة مبهمة.. أمسح بطرف قميصي ما نالني من مخلفات الغضب المجاني.. القذائف اللعابية التي يستخدمها جدي في المعركة كل مرة ضدي وضد كل من يصادف المناسبة اليومية تقريبا. ثم أشده من يده، آخذه إلى البيت بعد نزهة الصباح.

لقد رشف بعض أشعة الشمس لكي لا تهترئ عظامه العجوز. مرن عضلات رجليه قليلا حتى لا يصيبها الخمول. أحيانا يكون قد بلغ التعب منه مبلغه، فنصل إلى البيت بسلام. ومرات عديدة يسترد طاقته بقدرة قادر، وما إن يحيينا جار أو صديق.. حتى ينطلق من جديد.. ولا يهمه أن يبتعد الهدف.. يستمر في اجترار كل ما يحفظ من الكلام النابي والمشين.. يستنجد بما تبقى من ذاكرته المنهارة ليلهج به وهو يتابع بعينيه الجاحظتين الفارين من عجعجته التي أصبحت مشهورة في الحي.. حتى أن بعض أصدقائي خصصوا صفحة له على جدران الفايسبوك.. ينشرون عليها أنشطته وثوراته الفريدة من نوعها.. فهو يستعمل الشتائم دون تمييز بين ذكر وأنثى.. أحيانا تسمعه يسب نفسه أيضا! ولا يتوانى عن هجاء شخصيات سياسية ماتت منذ زمن وجنود كانوا معه إبان الحرب الهند- صينية..

والفرجة الكبرى يوم تصادفنا امرأة مسنة، فيستمتع أهل الزقاق كافة بمتابعة منظرها المترهل وهي تهرول بجلبابها الفضفاض كسيارة متفاوتة العجلات حجما. الجميع ينهمكون في الضحك والقهقهة حد الترنح كالثمالى.. وعندما نصل إلى البيت، يكون قد أتى على البطارية بأكملها، فلا نجد له غير أنين ممزوج بلهاث خفيف تخالطه هسهسة طلسمية.. حاولت مرارا أن أفك شيفرتها. أسأله وفمي يكاد يلج أذنه الضعيفة: ماذا قلت يا جدي؟ لم أسمعك؟ لا يبالي أبدا، يستمر يهلوس بصوت خافت.. تنتزعه أمي مني وهي تعاتبني على شغبي. تجلسه في مكان عاد مقترنا به، كلنا نعرف أنه مجلس جدي. أخي الصغير يغتنم الفرصة أحيانا فيقعد فيه مقلدا جدي. يتحدث بكلام غير مفهوم ويحاكي ارتعاشة يديه.. فنراقبه من خلف النوافذ أو الباب، وسرعان ما نهب فنقطع عليه لهوه، نهدده بإخبار جدي وتحريضه ضده. يرتعب فيقايضنا بمصروفه أو ألعابه.. مرة أمسك به جدي، انهال عليه ضربا وهو يصرخ.. خاله عدوا من زمن الحرب التي تحتل نصيب الأسد من ذكرياته القليلة المتبقية..

تحضر أمي الأكل لجدي المسكين.. تجلس بقربه وتطعمه بيدها وهي تحدث نفسها.. كنت سيد الرجال يا أبي.. إيه يا أيام.. لا ثقة فيها.. كل يا أبي كل.. وجدي يعتقدها جدتي! لا أعرف هل تكبرين.. أم تعودين شابة صغيرة.. هاج جمالك يا الغالية.. يا سلام عليك!! تقاطعه أمي: كفى يا والدي.. كل والعن الشيطان.. أنا ابنتك.. كل كي أعطيك الدواء.. ومباشرة بعد الملعقة الأخيرة تناوله دواءه. بل أدويته المتنوعة.. هذا قرص ضغط الدم، هذه حبة لوقف نزيف ذاكرته، وأخرى للسكري.. وتختم له بقطرات العينين حتى يبقى على اتصال بظلال الصور على الأقل. ثم ترغمه على الاستلقاء وتغطيه لينام..

ينام جدي.. تاليا حروفا كالعادة لا يفهم هو نفسه معناها. أدخل إلى غرفتي. أخرج من درج الدولاب ألبوم الصور.

أبحث عن تلك التي التقطت لي رفقة جدي. هنا يحملني على رقبته، كان قويا رغم أن عمره تجاوز الستين في ذلك الوقت.. هنا رفقة جدتي رحمها الله.. يتصنعان ابتسامة من أجل الصورة. بينما كانا كالقط والفأر. وضعت الألبوم جانبا، نظرت إلى نفسي في المرآة.. شتمت ابن الـ.. بحلق في بمكر، زعم أني جده!

………………

*قاص من المغرب

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون