أفكار من دفتر يومياتي: الفضاء الفرانكفورتي ووجع اليومي ولماذا أكتب؟

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يوم 12 أكتوبر كنتُ، في دفتر يومياتي، أكتب أن التجربة انتهت، ولديّ أشياء قليلة تثبت أنها حدثت، تذكرة السفر، بطاقة الغرفة الفندقية، ونسخة إنجليزية من رواية "القارئ" الألمانية. عدتُ من فرانكفورت بألم حاد في قدميّ من أثر طول المشي، وببراح فيّ من أثر العثور، عرفت أن هذه الحالة ستتبدد تدريجيًا، فدونت كُل ما كُنت أشعرُ به أول بأول.

كنتُ، هُناك قد نذرتُ نفسي للقراءة والكتابة وتعلُّم اللغات، أحببت أن أعود مرة ثانية للألمان الذين منحوني كثيرًا من محبة وكرم على نص وحيد قصير هو “الطنين”، أن أعود إليهم بنصوص أطول مُترجَمة هذه المرة، وربما بمقدرة على التحدث بلغة، لم أعد أهابها ولا أنفرُ من وقعها السمعي، بعد أن ظللتُ لأربعة ليالٍ متتالية أنام على أصوات مُتحدثيها في التلفزيون الألماني، أنيس في غرفة بسرير واحد، وباب.

كانت غُرفتي تطلُ على محطة الترام، ومركز محطة المترو، وعلى فندق آخر بغرف كثيرة لا يبين سُكانها. وباستثناء هزة خفيفة كنتُ أشعرُ بها تحت رِجليّ، وأنا أتفرجُ عارية، على البراح من النافذة بعد الحمام الصباحي، والليلي، لم أكن أسمعُ شيئًا، أقول شيئًا، لأن ثمة نفسي، وكنتُ أسمعها بصفاء، وبالخالق الذي ما عاد عندي شك في وجوده، وهو يُعرِفّني بالكون، مرة أخرى، مرة أولى.

ثم عُدت، من أجل وطنٍ يُختصَر في خُطب الرئيس، وفي شهرة رواية لجورج أورويل، وطن يوطِّن التيه، لا يعترف بأحد، لا يُحب أحدًا، ولا يُحبني أنا بالذات، لأسباب لا أعرفها ولم يعد يعنيني أن أعرفها. كان عليّ أن أوفر المال، كي أتمكن من تحقيق أحلام المعرفة، والكتابة، وكان عليّ أيضًا أن أجد الوقت، والسلام، والفضاء الذي يدفعُني للكتابة، كل هذا هُنا، أنا التي لا تعرفُ كيف تتوقف عن التعثر في الأرض الأسفلتية بالشوارع، ولا تفهم اللغة الوحيدة التي تتقنها بشدة، لا تفهمها حين يتحدث الآخرون مواطنوها بها.

تبددت الحالة فعلًا، لكن فرانكفورت لم تتبدد، المدينة التي علّمتني ممارسة الحب معها، احتفت بي احتفاءها بنجمة شاردة تمكنوا أخيرًا من التقاط الصور معها، مدينة لغة ليس لها علاقة بالكلام؛ لديّ نصي الأثير “الطنين” مُترجمًا إلى الألمانية، لدي شهادة تكريم عليها اسمي في بطاقة واحدة مع كلمة “معرض فرانكفورت الدولي”، وعدة أسماء منحتني المودة، وتدليل على التكريم بعدد سنوات عُمري محسوبة بالربيع منها فقط لا غير.

 ولدتُ أصلًا في بلد غريب- لا أعرف فعلًا أغريب أم أليف- وكنتُ أحمل جنسية بلدٍ آخر، تعلمتُ كتابة الشعِّر على صوته البعيد غير المسموع وأنا أظنه مسموعًا، وكنتُ في الطريق أمر على حدود بلد ثالث، ورابع، يُسجِّل جواز سفري المرور به، دون أن أعرف بَشَرْه، ولا أن أختبر فضاءه، بكل هذا قبلت، لكن فرانكفورت، فرانكفورت براحًا آخر.

اليوم، أفقدُ الكثير من روحي قبل أن أجلس إلى شاشة الاب توب، وأكملُ نصًا ناقصًا، يبقى الصُداع النصفي في رأسي لأيام، وأقرأ فقط من أجل العمل، أو أن أُذّكر نفسي بالكتابة، أو كي تعودني روح فرانكفورت، وأقول سأواظب، صحيح الطريق ليست مُمهدة، لكن بهذه الروح القليلة التي تبقى آخر كُل ليلة، سأُمهدها ولو سنتيمتر واحد كل سبعة أيام.

بهذا المُعدل البطيء كنتُ أقرأ في الكتاب التشجيعي الصادر عن مؤسسة تكوين “لماذا نكتب؟”، ولأن السحر يُفضِّل عادة الانقلاب على الساحر، توقفتْ في مُنتصف الطريق، تقول المُقدمة أن المكتبة العربية تفتقر لكُتب تنظير حول عملية الكتابة نفسها، والواقع أن المكتبة العربية لا تهتم بعملية الكتابة أصلًا، قدر اهتمامها بالنتيجة، بإنتاج مجموعة من الكُتب، تُحقق ربحًا معقولًا بالنسبة للناشر، وتُحقق للوطن الحالم صورة مثالية عن أوضاع الثقافة فيه.

تقولُ كُل كاتبة، ويقول كل كاتب في بداية الحديث أن الكتابة هي الفعل الإنساني الأكثر أهمية بالنسبة للذات الكاتبة، يشرحون كيف كانوا يحاولون إيجاد وقت ملائم للكتابة خلال أعباء الحياة اليومية، ولأن الكتاب يضم التجارب الأدبية الناجحة، بالنسبة للنقد والقُرّاء، فإن الكُتاب يتشابهون في مقدرتهم على الوصول إلى نقطة يتفرغون بعدها للكتابة نهائيًا.

توقفت، لأن العالم العربي لا يوفر ما يمنح الكاتب مقدرة على التفرُغ للكتابة نهائيًا، عدا حالات استثنائية، تتعلق بثراء العائلة أو ثراء الشريك، وعدا احتمال أن يكون الكاتب قد بدأ الكتابة فعلًا عقب إحالته للتعاقد أي في سن متقدمة، لا يوجد عائد حقيقي للكتابة هُنا، وأنا لا أتحدث عن حالات النجاح التُجاري لأنها حالات شاذة وتُلبي احتياجات مُعينة معروفة ومتوقعَة سلفًا.

لم يعد “لماذا نكتب؟” يشجعني، وأنا آسفة لذلك، وأعترف إني فكرت مرات أن أُجيد واحدة من اللغتين، الإنجليزية أوالألمانية، كي أبدأ الكتابة من خلالها، وأنا أعرف ماذا يعني، أن أتنصل من العربية، التي أفكرُ بها، وأغضبُ بها، وأغضبُ منها، يقول إميل سيوران من الأفضل أن تكون مؤلفًا للأوبرا على أن تكتب بلغة لا يعرفها أحد، أنا سأقول على أن تكتب بلغة لا يحبها أحد، لا يفهمُها أحد.

نعم، حقق كتابي الأول بيعًا معقولًا، لأن فرانكفورت رفعت من رواجه، وحدها فرانكفورت فعلت لا جودته، لأن، هُنا لا تنجح الكُتب الجيدة والجميع يعرف ذلك، هذا النجاح يؤلمني لأنه ليس ابنًا للكتابة، ولأن هناك قراءً كُثر رددوا لي عبارة لعنتي نفسها “قرأناكِ ولم نفهم شيئًا”، كأني أكتب بالألمانية مثلًا أو بالإنجليزية أو الصينية في وطن العربي.

لن أرد على سؤال لماذا أكتب؟ لأنه يرتبط بوجودي نفسه، مُفرِط الهشاشة، مُفرِط التطلب ربما، لكني سأقول كي أصدق نفسي، ويصدقني الجميع، إنني سوف أبحث عن هوية أخرى تفهمُني دون تبريرات خرفاء، وخطابات مُجوفّة، هوية ستأتي من الكتابة نفسها، بلغة تختارني ولا أختارها هذه المرة، لأن كل لغة للكتابة هي لغتي، ولأن لا نور آخر بديل.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار