“أضع سري بين يديك” لفاطمة الزهراء الرغيوي.. لعبة الأسئلة والحب

موقع الكتابة الثقافي default images
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

فاطمة الزهراء الرغيويأستاذة الفلسفة، وناشطة جمعوية، رئيسة جمعية السيدة الحرة بمدينة المضيق بشمال المملكة المغربية، تتميز بروح عالية في التعامل مع الأشياء والموضوعات، تسهم باستمرار في خدمة ودعم الفكر، والثقافة، والإبداع، هي تبدع خاصة في كتابة القصة القصيرة، وقد صدرت لها مجموعة من الأعمال السردية، منها: المجموعة القصصية "جلباب للجميع"، عن دار التنوخي للنشر، سنة 2008. كما صدرت لها المجموعة القصصية "خمس رقصات في اليوم"، عن فضاءات للنشر، سنة 2011. ونص سردي آخر: "إذا كانت تراودني فهي مجرد أفكار"، وهي رسائل بالاشتراك مع "أحلام بشارات"، عن شمس للنشر والتوزيع، سنة 2009.

     المجموعة القصصية “أضع سري بين يديك” نشرت بدعم من وزارة الثقافة المغربية، وصدرت عن دار كلمات للنشر والطباعة والتوزيع، بمدينة الرباط، الطبعة الأولى سنة 2016، وهي تنتظم ضمن أربع وستين صفحة من القطع المتوسط، وتضم المجموعة ست عشرة قصة قصيرة.

     تؤثر الفلسفة في توجه ووعي المبدعة، ولذلك فهي تشيد معمار قصصها على أرضية مضبوطة قوامها تشغيل الأسئلة، وتحريكها بغرض الوصول إلى عمق التجربة الإنسانية الضاربة في الغموض والتنافر، والتباين في الدلالة على المقصود، وتعمل على إسناد هذه التقنية بواسطة استحضار ضرورة الحب، الحب الذي نحس به قريبا جدا من جميع نصوص المجموعة، قد يبتعد، وقد يتوارى، ولكنه يسجل حضوره الطاغي في جميع لمحات القصص التي تكتبها المبدعة ضمن المجموعة.  

     في مدخل المجموعة فضلت المبدعة الاختفاء خلف مكر الحركات المتصلة بمدى الحروف من خلال حرصها على عدم الإفصاح عن حقيقة حركة حرف “الكاف” في الكلمة المشكلة لرابط العنوان “يديك”، هل حركتها مفتوحة أو مكسورة، وحتما سوف تمتح كل حركة لمكون العنوان هذا من دلالة مختلفة، ومتباينة حسب رغبة القاصة التي آثرت تجنب توضيح البعد الذي ترمي إليه، فكان علينا أن نلجأ إلى التخمين، إذا كانت حركة الكلمة مفتوحة فإن سر الساردة المكنون موجه إلى الرجل، تدعوه ليشاركها، ويقاسمها حظها في الحياة، ويتولى احتضانها، وانتشالها من يأسها، وإحباطها. أما إذا كانت مكسورة فإن الذات المبدعة تتوجه إلى الأنثى لكي تشكو لها جور، وقسوة الحياة، وهي تمعن في تجريحها وتعذيبها.

     عنوان المجموعة “أضع سري بين يديك” اختيار للمبدعة من خارج باقة النصوص، حيث لا تشتمل عناوين المجموعة على نص بهذا الإسم، فبعد كتابة نصوص المجموعة عملت القاصة على اختيار هذا العنوان لكي تؤطر به إبداعها، ويعتبر هذا التوجه مقبولا أدبيا، وله بعده الجمالي والفني، حيث كانت المبدعة موفقة في وشيها هذا، فكان تتبع نصوص المجموعة يوحي في كل مرة، وعبر كل نص بأن العنوان الناظم توفر له من القوة والعنفوان ما مكنه فعلا من احتضان كل النصوص، وبات المعنى الثاوي داخله واسعا بالقدر الذي تنتظم في عمقه جميع نصوص المجموعة، بل ساهم هذا العنوان بالالتباس الاستيطيقي الذي أحدثه في إضفاء نوع من النضارة، والرونق على جميع النصوص.

     تتشكل المجموعة القصصية كما أشرنا أعلاه من ستة عشر نصا، عناوينها تتنوع، وتتوزع حسب السياق الذي تحمله، حركتها ضاجة بالمتغيرات، زمنها يؤكد حياتها، ونموها، وامتدادها. ومكانها فضاء مضغوط في الحياة، تتقاسمه شخصيات متهالكة، مستنفذة نفسيا، ولكنها شخصيات ذات كيانات تتوفر على عزم، وإصرار في تجسيد الأدوار المسندة إليها، رغم يأسها، وإحباطها، فإنها لا تخلف الموعد في تحمل الفراغ، واللا معنى، وسيادة اللاشيء.

     تنطلق المجموعة بنص ” الرغبة في القتل “، حيث تحكي أنثى عن نفسها بضمير مباشر، ضمير المتكلم، تبدو واثقة من نفسها وهي توزع ترانيمها على المحيطين بها، كل ذلك يتم داخل متاهة لامتناهية تدور في الفراغ، وعنفوان الضجر، المتجسد في اقتراف الزواج باعتباره خطيئة، لأن وجه زوجها يصيبها بالاكتئاب. مدخل المجموعة هذا تدون فيه الساردة رغبتها في القتل، بحيث يمكن أن تؤجل هذه الرغبة قليلا، ولكنها حاضرة دائما، ولا تقبل التواري، والابتعاد. سوف يحضر الصبر، أو التأجيل، لا يهم، طيلة نصوص المجموعة لكي نصل إلى النهاية، إلى النص السادس عشر والأخير، حيث سوف يتحقق القتل، ففي النص الأخير من المجموعة ” حضنها المنفلت ” يحكي ذكر عن ذكر، وهذا عبارة عن تقابل إبداعي جميل، تنوع به المبدعة العمق النفسي للسرد الحكائي درءا للملل والرتابة، وتأكيدا للبعد الأدبي الحاضر في النصوص، بمعنى انطلاق الحكي بأنثى، وانتهاء الحكي بذكر، والكل يؤدي إلى نفس الصيغة، بمعنى تداخل المصائر، وارتباط الأقدار. لقد عمدت هذه الشخصية   التي تتغنى بالحرية، والأمن، والمتعة إلى قتل الحبيبة عقب لذة عارمة جمعت بينهما، لقد جمعت هذه الشخصية الغريبة بين الحب، والأمن، والسلامة، والقتل، وهي معطيات لها دلالات فارقة في الحياة العامة، والجمع بينها عبارة عن توليف بين مكونات النفس الممزقة، لا يجمعها إلا صاحب نفسية مضطرمة، عارية، منزوعة من السياق الطبيعي.

     بين نص مدخل المجموعة وبين نص نهاية المجموعة تأثث الفضاء القصصي الإبداعي بنصوص جميلة أخرى ساهمت بتناميها، ووتيرتها الحية في خدمة الأهداف الإبداعية التي ترجمتها المبدعة في عملها، فقد أثارت القاصة الحديث الجميل عن المعرفة غير اليقينية، وكيفية بناء الأسرار، وعملية تتبع تنفيذ القرارات، والتعايش من خلال امتلاك أسباب الوحدة والسجن النفسي، واختلاف صيغ اللعب، وحتمية اندحار وذهاب الجميع، والمتعة التي ينتجها جريان المياه في الوديان والجداول، وحضارة الورود والزهور والنباتات الخضراء، والاحتفاء بالعيش، وإرواء الظمأ بالزهور المغذية، وتقديس الصداقات، والترحيب باقتراب موسم الأمطار، وهي كلها تعكس الحياة الإنسانية، وانسيابيتها أحيانا، واستشكالها أحيانا أخرى، والتمتع بها أحيانا بدون شروط، والاكتواء بنيرانها أحيانا أخرى، بشروط، وبدونها، وأحيانا بطريقة مجانية، وغير مبررة، وكأنها طفرة عذاب الوجود الأبدي.      

     تعدد السارد ملحوظ في المجموعة بصيغة جلية، فتارة ساردة أنثى تحكي عن نفسها، وتارة أخرى ساردة أنثى تحكي عن أنثى، وطورا آخر ساردة أنثى تحكي عن ذكر، ثم سارد ذكر يحكي عن ذكر، وهذا التعدد في توظيف السارد أو الساردة مرتبط بنوع من التجريب المفكر فيه، أي المبني على موقف ومبدأ، ثم على اختيار فني وجمالي، تعدد السارد والساردة مكن المبدعة من السياحة الإبداعية من خلال الغوص في نفسية الأنثى والذكر معا، والهدف هو اختراق سياج الممنوعات، والحدود، والحواجز الافتراضية غير المبررة في العلاقة بين الذكر والأنثى، والتأكيد على الجدارة النفسية، والإنسانية، والإبداعية التي تتم عملية تقاسمها بين الرجل والمرأة دون حدود أو تمييز. هناك بالتأكيد ضرورة داخلية تدفع المبدعة، وتبعث فيها الحماس من أجل الوقوف في وجه العوارض التاريخية، والعمل على إقصاء فاعليتها، ومدلولاتها، التي تؤدي أحيانا إلى اختزال دور المرأة في توجيه الأمور، حيث مشاركة الأنثى في توجيه عملية السرد هي عملية ذات منحى أصلي وأصيل، وهي عملية لا تفجر فقط تاريخية الخطاب الذكوري المهيمن، بل تعمل كذلك على نبذ جميع صور التنميط، والتحجر. والحقيقة أن الأصل يعود إلى رصد الاهتمام المنبثق من جدارة المرأة وتبعية الرجل في توجيه مجرى السرد، ألم تكن شهرزاد رائدة في تذويب الرغبة في القتل؟ وبارعة في تحجيم شهوة التدمير؟ لقد كانت المبدعة في مستهل مجموعتها متماهية مع شهريار، فهي كانت واضحة في إعلان رغبتها الجامحة في اقتراف القتل ولو رمزيا. حكي الأنثى، وسردها عاد بها إلى أحضان ذاتها الغارقة في متاهات لامتناهية، تدور كلها في الفراغ من أجل الوصول إلى تناسق، وتناغم واضحين رغم عدم القدرة على إدراجهما ضمن حلقة الاكتمال.

     عندما تحكي الساردة عن الأنثى يصعب عليها التزام الحياد، فكتمان الأسئلة التي تخترق سرها لم تعد تجدي في تمهيد الأحلام التي تظل مشروطة بالتحقق، ولكي تتحقق هذه الأحلام التاريخية العصية تقترح الساردة أهمية ” زهر اللوز ” الذي هو مرادف للخصوبة والحياة، في مقابل التناظر بين الحياة والموت، بين الرغبة في الانتحار والإحجام عنه، مع أن الأمر يصبح شبيها بالزواج الذي يتحول مع مرور الزمن إلى ظل منعكس، لأنه يفقد بريقه الأول، ويصبح عالة على الشركاء، خصوصا عندما تتعارض امتدادات لعبة الحب والأسئلة، في هذه اللحظة يسود التعب المتكرر، ويظهر الخوف الكبير على الوجوه، فيفضي بالجميع إلى تصادم الحياة والموت ولو عبر الخطأ، والسهو اللذين يؤديان إلى التعثر في التمييز بين شهادة الحياة وشهادة الوفاة، فتحصل أقصى درجات الضجر أمام الوحدة، والكآبة، وسيادة الأحلام التقليدية الباهتة.

     إن كتابة الإبداع، كتابة القصة بالشكل الذي تنجزه ” فاطمة الزهراء الرغيوي ” يعني إدانة المزيف، وهو اختيار واضح في نصوص المجموعة القصصية، والمفارقة هي أن النصوص الإبداعية تبني شكلها القصصي، ومعمارها بواسطة هذا المزيف، إذ بدونه لا يمكن أن تكون النصوص، حيث المزيف وجه آخر من وجوه الحقيقي والأصيل، إذ عندما تكتب بالحقيقي فلا يعني ذلك دائما أنك سوي، ولا يعني ذلك أنك قمت بتجذير العدالة في محيطك، ولا يعني ذلك أنك حققت تميزك بين أغيارك، يمكن أن يكون الحقيقي الذي تمتطيه تجليا بوجه من الوجوه للمزيف. لقد حاولت ” فاطمة الزهراء الرغيوي ” طيلة عملية تتبع نصوص المجموعة أن تقنعنا بجدوى فرضياتها، وأحيانا كثيرة نلفي أنفسنا أمام احتمالات نادرة قد تكون بالنسبة إلينا مصدرا للتنوع، والغنى، واقتحام التجارب. المزيف حتما وجه مقنع للحقيقي، حيث كلما استدعيت أحدهما إلا وتجد مقابله جاثما على ناصية تجربتك وتفكيرك، كلاهما مصدر للبناء والتدمير في نفس الآن. تأمل جيدا في نصوص المجموعة سوف تجد أن الشخصيات كلها هشة ومستسلمة، رغم محاولتها التمرد على واقعها تارة بفكرة، وتارة بفعل، انتفاض وتمرد الشخصيات لا ينزع طابع النسبية في مقابلة المزيف بالحقيقي، فشخصيات المجموعة تعاني إحساسا حادا بالعدمية، والهوان، حيث تصبح كل شخصية ضحية ضعيفة لمعطيات غريبة، تنتج رفضا واضحا لبناء ممكنات العالم، الشيء الذي ينتج المتاهة، ثم هذا الضجر الذي تنضح به المجموعة، والذي هو عبارة عن حمولة مادية ثقيلة ومرعبة، إنه مثير جدا، إذ كيف يمكن أن يشكل الثقيل، والمرعب، نصا فنيا جماليا؟ إن حق التفرد هو الذي يمكن من ذلك حتما، لأن العناصر المتنافرة تتشكل أصلا من نفس المنطلقات، والحقول الفكرية.

     إن السارد أو الراوي، أو الساردة، أو الراوية لدى المبدعة بمثابة شاهد أو شاهدة على ما يجري في الكون، كون الأسرار التي تتحكم في المجموعة، والسر هو عبارة عن تغطية أو غطاء، ولا يصبح السر سرا إلا عندما يذاع وينتشر، ومن هنا علاقة السر بالحلم لدى المبدعة، فكلاهما يندرج لديها ضمن مفهوم اللعب، واللعب يندرج بدوره ضمن علم الجمال، حيث تشعر الذات بالحرية أثناء انغماسها في اللعب، لأن اللعب ينتج قدسيته، والذي لا يحترم هذه القدسية يفسد متعة الآخرين، إننا في اللعب نهتم بالوعي الجمالي، ويظهر هذا الوعي في المجموعة من خلال استحضار الكفاية التجريبية، والكفاية التفسيرية، وخلفية النصوص لدى المبدعة تفكيرية، وليست تجريبية حسية، إذ إن المبدعة تكتب الجملة ويبدو أن نظيرتها تكون قد تحددت مسبقا لديها، كما لو أن سياق الجملتين يعطيهما مشروعية في الانبثاق التوالدي، كما لو أنهما ينبثقان من بعضهما البعض.

مقالات من نفس القسم