أصبحت شاعراً يا أمى وجلبابك أصبح قصيدة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 58
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البهاء حسين            

لا أعرف كيف أصبحت شاعراً . ما أذكره ، وما زال عالقاً بى ، هو السهو . كنت ، من نافذة الفصل ، أستغرق فى مراقبة التكوينات المتحركة للسحب .. هذه نعجة وتلك السحابة الجامحة حصان ..إلخ . أدمنت النظر إلى شىء طاف يركض من غير أن يخضع لأى قهر أو قواعد صارمة , ويتصادم بلا دوىّ ، مختزلاً عالماً كاملاً ، إذ كانت السحب تتبادل الأشكال بسهولة من دون أن تتهشم ؟

وأذكر تلك الآية ” كل نفس ذائقة الموت ” . قرأتها فوق عربة إسعاف تقل ميتاً من بلدتنا عاد لتوه من الخليج . وعلى الجانب الآخر منها كان مكتوباً بخط بديع: ” يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى ” ، ظللت أجترّ هذه الآيات وأجيلها معى فى الذهاب والمجيىء بصوت مسموع ، لكن أخى الأكبر نهرنى وحذرنى من ترديدها أمام أحد ؟

هكذا كمنت الصور واللغة والقمع للطفل . بقى أن يعيش فى بيت غير قادر على الفرح ، لتبدأ فى التناسل ذرية القصيدة .

                                 ،     ،

كنت صغيراً ، لما وعيت على أمى حزينة . لا تلبس غير اللون الأسود . أنا وأمى وجلبابها الأسود كنا معاً بشكل دائم . فى النهار أصحبها مع آذان الفجر إلى القرى المجاورة ، نشترى القصب أو الفاكهة أو الخضار ، حسب الموسم ، لنبيعه فى قريتنا، وعند النوم أدسّ نفسى فى حضنها كجرو مذعور ، خوفاً من حواديتها المفزعة . من أى خشخشة فى سقف البوص . لا أدرى .. هل هذا أنسب ما يكتب فى الشهادات ؟

على كل عرفتُ أمى حين كبرت .. إن أحداً غيرها لا يمتلك هذا المزاج المخيف للحداد والتذكر دون هوادة . كان عمرها حوالى 20 سنة وكنت فى السنة الأولى من العمر حين توفى أبى عام 1970 م ، ولحق به بعد سنوات قليلة، شقيقها الوحيد مقتولاً فى ظروف غامضة أثناء خدمته العسكرية ، تاركاً لى عقدة ما زلت أحملها صخرة على ظهرى ..أننى كنت السبب فى موته ، هكذا ظلت أمى وإخوتى يعيروننى ، لأننى قلت له ليلة عودته إلى كتيبته..” روح إن شاء الله ترجع فى صندق” ، بعد أن لكزنى فى رأسى ، كما يفعل الخال مداعباً أبناء أخته. رددتُ الدعوة التى كنت أسمع أمى تطلقها وراء الأقارب ، ومن سوء الحظ أنه عاد فعلاً بعد يومين فى صندوق ، لتحمل أمى بمفردها وبلا مورد ، عبء البقاء على قيد الحياة بأربعة أطفال . وكان لديها ، فوق ذلك ، رصيد من أحزان قديمة تخصّ طفولتها ، لهذا كانت ” تعدد ” بصوت عال . أراها تميل بجسمها إلى اليمين وإلى اليسار مستغرقة فى البكاء فيتسع الصدع فى طفولتى ويضغط .

وقتها كنت على استعداد لفعل أى شىء مقابل أن تفك حالة الحداد الدائمة عن نفسها وعن البيت . أتذكر المأتم المتنقل الذى كانت تحمله بداخلها . لم تكن تجد صعوبة فى نصبه على أى ميت .. نعرفه أو لا نعرفه ، صديق أو حتى من العائلة . لقد أكرهتنى ، عن غير قصد أو وعى منها ، على الخوف .

:

الآن وأنا أفكر فيها ، ألتمس لها العذر. لقد احتملت فوق طاقتها .غير أن أكثر شىء لا أستطيع أن أسامح فيه ، هو أننى شخص سرقت منه طفولته . وهذا الطبع الذى ورثته عنها .. القلق . ولكن أسامح من !

المهم فى شوارع ” الحواويش ” وأزقتها الضيقة تعرفت على الانتظار .. أن ” هذا أيضاً سينقضى ” . كنت أحسّ بذلك إحساساً مبهماً . وصرت أحلم به نيابة عن أمى وإخوتى . فى فترة ما تصورت أن لا أحد غيرنا يعانى . أراحنى ذلك الشعور .. أن أكون ، من بين أقرانى ، الولد الذى جرب اليتم ، حتى إنه لا يملك صورة شخصية لأبيه ؟ وجرب الفقر .. أنه لكونه فقيراً فإن ” كل شىء يراه ، هو شىء لا يستطيع امتلاكه ” . وجرب الألم . يبدو أننى كنت معداً لمثل هذا الألم الرومانتيكى ، إنما الواقعى مع ذلك ، ومعتداً به . الألم ، قلت : يليق بالشاعر.

                             ،       ،

تلك هى الحالة التى أخذت تنكل بمخيلتى . وفى الثالثة عشرة كتبت قصيدتى الأولى. كانت مجرد خواطربالطبع ، غير أنى فرحت بها فرحاً شديداً . وكما هى العادة ، عرضتها على مدرس العربى الذى قال لى : أنت شاعر . رنت الكلمة فى أذنى ، لكن هل من المفيد بالنسبة لأمى أننى شاعر ؟ لا أتكلم عن كونها تجهل القراءة والكتابة ، فضلاً عن الشعر . إنما هل كان ذلك خليقاً بأن يجعلها تفرح بى ، أو تفهم، لو أنها عرفت ؟

إلى الآن مازلت أختلق الأكاذيب بشأن أى شىء يجعل هذه الأرملة المستوحدة تفرح. إذن بدأت الكتابة ، فماذا قلت وماذا بقى لأقوله ؟

قبل أن يكون علىّ التفكير بالجواب ، أشير إلى فترات موازية عشتها فى الإسكندرية وأماكن أخرى تكفلت بتمشيطى بجهامة وحماس خشن . بالمناسبة ، أصبحت لدى حساسية مرضية ضد نموذج الإنسان المكافح الذى كنت أتباهى به ، بل كنت أستعبده فى شغف متواصل بالرثاء للذات . أؤنب نفسى بهذا الكلام أم أفسرها . الشاهد .. فى الإسكندرية لم يكن البحر الذى رأيته يشبه فى شىء نيل ” أخميم ” ، أو البحر كما كنا نسميه ولا الأساطير التى تُحكى عنه . بدا لى غائماً مثل الحدوتة التى كنت أسمعها فى طفولتى وأفشل فى رتق المسافة الناقصة بين رواياتها المتعددة ، عن المأساة التى ارتكبها عمى بيد باردة وراح ضحيتها جدتى وعماتى وعمى الأصغر. وراح ضحيتها أبى ، فقد دخل السجن ، متهماً بارتكابها ! مسكين أبى ، لم تلمس الحياة طبلة أذنه طيلة ربع قرن . الغريب هو انحرافى بالسماع ، حيث كنت قادراً على تخيل هؤلاء مقتولين بأكثر من طريقة ، إمعاناً ، ربما ، فى ” كراهية هذا العم بطرق مختلفة “. قيل إنه عند دفنه ابتلعه ثعبان ضخم بمجرد دخوله من فتحة القبر . سمعت ذلك بأكثر من رواية أيضاً . هكذا صار لى ماض قبل أن أولد . حدوتة واحدة تكفى عدة أفراد ليكون لهم ماض معتق . ماض بعيد جداً لا ينتابنى حياله الآن أى شعور من أى نوع ، بقدر ما آسف على أننى لم أعرف حقيقته غير مشوشة . وأنه ليس بوسعى كتابته . هل يتطهر الشاعر من أشباحه بالكتابة أم يتورط فى خلق أشباح جديدة ؟ ما الذى يتيح له أن يلفظ هذه الأشباح دون أن يكون موضع عقوق أو عار ، دون أن يكون لأحد حق اتهامه، كما يقال، أو شرف تبرئته.

على كل لا أملك ما يثير الدهشة. الفقر واليتم يحدثان كل يوم.. عمل اللوعة لا ينتهى. مع ذلك ، أو ربما لذلك ، لا أستطيع أن أكفّ عن اعتقادى القديم .. أننى منذور لشىء كبير ، عوضاً عن تلك الحياة التى ما زلت أعيشها ، كما لو أنها بروفة لحياة أخرى تنتظرنى فى المستقبل .

اعتقدت كذلك بأن الله يولينى عناية خاصة دوناً عن خلقه ؟ لكن ما علاقة ذلك بما أريد أن أكتبه عن البحر والإسكندرية ، بيع السجائر أمام شركة البترول فى ” مرغم ” ، الجنس ، ” سحلولة ” وافتضاض البراءة ، ابنة عمى ، روث العائلة ، التواصل السرى مع الجسد ، التعب من مواجهة زملاء الدراسة فى الشوارع ، إذ يشترون منك أنت بالذات، ليس حباً فى الحلوى كما يفعل الأطفال ، إنما نكاية فى تفوقك عليهم ، مع أننى لم أكن متفوقاً . فقط لأننى فصيح ، أعنى لوفرة ما لم أكن أفشل فى الإجابة عن الأسئلة المفاجئة . على ذكر الفصاحة ، كانت عائلتنا مشهورة فى القرية بإجادة الكلام ، وبأنهم مدابيب .. جمع مدبوب .. أى خفيف العقل . ويبدو أن العائلة وجدتها ” فرصة لعمل أى شىء دون حرج “. ما الذى ربطنى بهذه العائلة ، بالماضى الذى لا يمكننى نسيانه أو تغييره ، بالحواويش .. بقتل أى بنى آدم فيها بقرشين صاغ ، بزنا المحارم ، بمرسى مطروح ، بالمنيا ، بالحماقات الصغيرة والسمعة العكرة ، بتواطؤ الأصدقاء ، بالبنات ، بالقصائد ، بقصص الحب التى لاتكتمل ، بصدر سعاد حسنى ، بالرغبة فى أن تكون لطيفاً مع الناس ، مثل الأب كرامازوف ، و” يكون هذا هو ما يسىء إليك ” . بالشعور أنك غريب أينما حللت. بالكتابة كعبء لعنة أبدية عليك أن تحمله ، وأن تستسلم للقلق ، بالأرض التى اغتصبها أعمامى وأولادهم بعد موت أبى مباشرة ، دروس الكراهية اليومية التى كانت أمى تلقنها لى ولإخوتى ، سينما ” أوبرا ” بسوهاج ، كنائس أخميم ، الأفراح والموالد ، صوت أحمد التونى ، وياسين التهامى ، عبدالحليم حافظ ، نجاة ، فيروز، ما لى بهذا كله . تقليد الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ، إقامة الشعائر فى مسجد العائلة ، إصرار أمى على تفسير الأحلام .. أحلام الأسرة وأحلام الناس بطريقتها الخاصة ، طاعة الكلمات للجاحظ ، الكوابيس ، فتاة سلفادور دالى التى تطل من النافذة ، بساطة هنرى ميشو ، ألبير كامى ، أبو حيان التوحيدى ، الصراع الكوميدى بين فريد شوقى ، لا أطيق هذا الممثل ، وبين محمود المليجى ، الشعراء الذين لا قيمة لهم فى هذا الجيل وفى الجيال السابقة واللاحقة ، الادعاء ، التمسح فى السلطة ، الفساد ، الليل ، صوت فايزة أحمد ، موسيقى البرنامج الأوروبى ، الملامح التى تفهم دائماً بطريق الخطأ.. ملامحى ، التصرفات ، ذلك كله .. الشخص الذى يكتب هذا ، ما علاقتى به . ما الذى أتى به للقاهرة.. هل يريد لماضيه أن يتوه منه فى الزحمة.

لقد صرت ، مع توم هانكس ، ” أسوأ نسخة من نفسى “. لذلك حين طلبت منى هذه الشهادة ، وبما أننى فى منتصف العمر ، وبما أننى أفهم الشهادة على أنها حديث عن الشاعر قبل أى شىء آخر ، فقد وجدتها فرصة لاكتشاف الدافع العميق وراء طريقتى فى الحياة ، وراء اعتقادى الحميم الساذج بأننى محل عناية الله شخصياً .

لدى انطباع أن ذلك الاعتقاد كان حيلة ابتكرتها غريزة البقاء لاحتمال حياة لا يمكننى التحديق فيها أو فحص باطنها الآن ، دون الإحساس بأننى إزاء جملة اعتراضية طويلة ومرهقة . هذه الحياة ، هذا الشبح الذى كنته هو ما أ حاول قوله .

( 2 )

لم تعد لدى شهوة اصلاح هذا العالم . لا أكتب من أجل تغييره . لست طموحاً إلى هذه الدرجة . ثم إننى شخص كسول لا يرغب حتى فى تغيير نفسه ، فات أوان ذلك. أكتب لأن هذا يحدث ، لأن عندى ما أعرفه ويعرفنى .. لدى العالم الذى يخصنى ويهمنى اكتشافه ، أكتب لأننى غير قادرعلى أن أكون سوياً من دون كتابة. أكتب لأتفاهم مع نفسى بالقصيدة علانية. هذا ما يشغلنى فى الحقيقة ، بدون رغبة فى الدفاع عن قصيدتى . لا أريد من أحد أن يمنحها ، أو يمنع عنها ، الاعتراف . ولهذا أنظر بعين الزراية إلى الجدل الذى يثار من حين إلى آخر ، حول قصيدة النثر :

– لأنه جدل ذميم ، ثنائى .. ضد أو مع . وسطحى يلمس الشكل لا الرؤية .

– ولأن هناك مشاكل عويصة لا يليق بنا التجاوز عنها أو إرجاؤها . أما قصيدة النثر فهى تجربة مستأنسة لا خوف منها على الشعر العربى .

– ولأن تجربتى ، إن صح أن لى تجربة ، مع هذه القصيدة تجعلنى أرى أنها الأجدر بالتعويل عليها لبعث الحياة فى هذا الشعر . مع التحفظ على النماذج السيئة منها وما أكثرها الآن . هل قلت إننى أكتب لأشفى من العلل ، من الأشخاص الذين ضلوا الطريق إلى داخلى ، فصرت منهم وواحداً يجمعهم . هل هذا الشخص الواثق من نفسه ومن قصيدته إلى حد الوقاحة أحياناً هو أنا ، أو أنا الخجول المتواضع ، أو المسكون بالناس ، أو الراقد فى عزلته المتطامنة . إننى بضعة أشخاص . ولفهم هؤلاء والتعرف على تناقضاتهم ، لعقد صلة بينهم وبين العالم ، لعقد هدنة بين هاملت ودون كيشوت ، أكتب .                  

                             ،                     ،

ولأننى أريد أن أكتب نفسى طلقت القصيدة العمودية التى كنت متعصباً لها أزيد من اللازم . كانت تلك طبيعة المرحلة . طالب متحمس يحب المتنبى ، مع أننى لم أكن أفهم ما وراء موسيقاه الحادة الكتيمة من ألم ممض . لكنه كان الحبل السرى الذى ربطنى بالقصيدة العمودية . أذكر تعصبى لها ، حتى إننى لم أكن أعترف لا بصلاح عبدالصبور ولا بحجازى أو السياب ..إلخ . هل كنت أقلد العقاد بدافع من تأثرى به فى هذه الفترة . كان رأيه فى قصيدة التفعيلة يغذى دوافعى للرفض .. رفض الجديد الذى يقوض قناعة غالية بالتراث ، كونتها على يد قراءات سوقت لى التراث ، بورع ، على أنه المثل الأعلى .

كنت أرى فى القصيدة على بحر الطويل أو البسيط غاية لا يدركها إلا الشعراء العباقرة . عشش فى رأسى هذا الهراء ، حتى تخرجت فى العام 1991 ، مع أن العروض كاد يصرفنى عن الشعر . إذ لم يدلنى أحد على خطوة أبعد من كتب الإرشادات المدرسية ، لكن البحور استقامت فى أذنى بعد فترة شاقة . الشاهد أن شغفى كان متعلقاً بالقشرة الخارجية للقصيدة . القشرة التى نعاينها دون استبطان . ارتبطت بالصنعة .. كم أزدرى هذه الصنعة ، فهى تعنى لى محاولة بائسة لأن يكون الشاعر شخصاً آخر غير نفسه . كنت متعلقاً بالبراعة فى توليد اللفظ من اللفظ والمعنى من المعنى مع أنها ، فى النهاية ، معان مستأجرة منذ ألفى عام . وكانت تشدنى وحدة البيت . باختصار كنت ملكاً لسيل من التقاليد لا ينتهى ، لذلك شعرت مع القصيدة العمودية أننى أحرث أرض غيرى .

على أنه قد بقيت لى من هذه التجربة خبرة الخروج بالإيقاع من بابه الجهرى الواسع إلى دراما القصيدة . ومعرفة بأدوات الكتابة .. النحو ، الصرف ..إلخ ، شكراً لكن قلب الشاعر أوسع من البلاغة وهمومه أعقد من ” الكلام الموزون المقفى ” . وخرجت بقناعة أن الشعر بلا ” حرية ” ليس شعراً . والتفعيلة تتكرر بانتظام أو تكون سائبة ، هذه الوحدة الصوتية التى تحجر على المعنى ليست قيداً مقدساً على مشاعرى وأفكارى وتطلعى نحو ما لا يقيد . الشعر أجلّ من كتمة النفس . هو شىء آخر بلا وزن أو قافية ، وبقدر تجردك فى البحث عنه سيمنحك نفسه . لكن ما الشعر . بالنسبة لى هو التأكيد الضرورى لما نراه وما نحسه وما نفكر به بوعى أو ما يأتى من وراء وعينا . تاريخياً كان أو حاضراً . التأكيد بالذاكرة . الشعر بتعبير ريلكه هو ” الماضى الذى يندلع فجأة فى قلوبنا ” . إنه أنت إذ تحاول النهوض من حفرة الإجابة إلى كبوة أخرى . الشعر أن تمشى ولا تصل. هو رؤية الأشياء بشكل غير عادى . حالة تأمل وإعادة اكتشاف دائم . النفاذ إلى الجوهر والتعبير عنه فى سياق مركب من التراسل بين عوالم شتى .. الموسيقى ، الرسم ، السينما ، العمارة ، السرد ..إلخ . وفى حالة التلقى تنشأ لدى القارىء لذة نفسية وعقلية هى لذة اكتشاف المألوف بعين جديدة .

من ناحية الكتابة أفكر أول ما أفكر ، فى أن تكون القصيدة عارية ، بلا تكلف أو ادعاء. وفى إيقاع وتركيب لفكرة ما أو معنى يومض متلمساً طريقه للخارج . وعندما تبين ملامح هذه الفكرة أبحث عن صيغة لا تتخلى كلية عن الإيقاع ولا عن المجاز .. مجاز القصيدة عامة . وثمة قارىء يطل برأسه أثناء الكتابة ، مهما حاولت فإننى أفشل فى مطاردته . كم يؤرقنى ، رغم أننى أنوب عنه فى القيام بدوره القاسى . لهذا أحرص ، بغير تعسف ، على أن تكون الكتابة شفافة ، لا تفهم فى لمحة عين ، ليست للذائقة الخاملة وفى الوقت ذاته لا تنغلق على نفسها ، لأننى ، فى نهاية الأمر ، أريد أن أتواصل مع نفسى فى تواصلها مع القارىء .

                                       ،               ،

لا أدرى هل من اللائق القول إننى لم أقرأ شيئاً لزملائى إلا مؤخراً . لقد وجدت شعراً قليلاً فيما قرأت ، قليلاً جداً لا يتناسب مع الشعارات المرفوعة . لا أعطى لنفسى حق تقييم أحد ، فلست أنانياً إلى هذه الدرجة ، ولا أقصد السخرية أو ادعاء الاختلاف عن جيل مفترض أننى واحد منه . كل ما فى الأمر أننى غير مؤمن بحكاية الجيل هذه. وعلى خلاف كثيرين أرى فى ” قصيدة النثر” فرصة للانحراف بها إلى الشعر لا إلى النثر ، وهذا يعنى التخلص من العناصر والقيم غير الشعرية.. لك أن تتأمل التقريرية المتفشية الآن بحجة كتابة اليومى . وأرى فى قصيدة النثر فرصة للصدق مع النفس ومع القارىء رغم موت القارىء ، وأخيراً أرى أنها فرصة للتجديد حقيقة لا لرفع الشعارات ، مثل تطليق القضايا الكبرى أو كتابة الجسد أو خرق المقدس ..إلخ ، لأن هذا معناه أن تكون القصيدة استجابة مباشرة لقصد ذهنى ، بينما هى ، لكى تكون قصيدة ، غير قابلة للتجهيز .

للشاعر أن يكتب ما يشاء بالطبع إنما كيف يكتبه ؟ وله أن يذهب إلى الحافة ، إذ لا وسطية فى الفن . له أن يجرب حتى النهاية . لكن يفترض ، قبل ذلك ، أن يكون صاحب موهبة . أن يرى ما لا يراه الآخرون . أعنى هذه القدرة الخلاقة على إقامة عالم شعرى من الأنقاض فى كل قصيدة ، لا الثرثرة ، وإلا أصبحت الميول الفطرية للإفضاء والتعبير عن الخطرات ، عند كل الناس ، قصيدة نثر، تكتب بأيسر الطرق، بحيث يكفى أن يتكلم المرء ، ليكتب هذه القصيدة . إننى أفهم التجريب على أنه التشوف الدائم للخروج على السائد . شهوة القلق . حتى فى الشكل العمودى كانت لدى المجربين الكبار هذه الشهوة فأنتجوا أشكالهم الخاصة ، ولهذا ما زلت على اعتقادى القديم أن الشعر الجيد هو ما يجبرك على أن تقرأه بامتنان . أن تعيد اكتشافه بغض النظر عن الشكل . والقصيدة التى تدعى لنفسها أنها وكيل عن الشعر هى قصيدة لا عمر لها . الحديقة تتسع للجميع . ويفترض أن أول قيمة تكرس لها القصيدة هى التسامح . خاصة مع الآباء ، لذلك أندهش ممن لا آباء لهم . معنى ذلك أنهم لم يقرأوا قصيدة جميلة قط .

عن نفسى لا أستطيع قتل آبائى .. المتنبى ، الجاحظ ، ماركيز ، التوحيدى ، المعرى ، يحيى حقى ، المازنى ، فلوبير والدرس الأول .. ” إذا كانت لديك أصالة فعليك أن تظهرها ، وإذا لم تكن لديك فينبغى أن تخلقها ” . لا أستطيع قتل الماغوط ، صلاح عبدالصبور ، ديستويفسكى ، فرناندو بيسوا ، بودلير ، كازانتزاكس ، كفافيس ، بول فاليرى .. مع فاليرى وسانت أكزوبرى عرفت أن ” الكمال يبدأ عندما لا يعود لديك شىء تحذفه ” ، وهناك لوركا ، جوزيف برودسكى ، نيتشة ، هيمنجواى ، فان جوخ، آل باتشينو ، على أدهم ، أنتونى كوين ، وآباء آخرون رافقتنى تجاربهم إلى حيث وجدت صوتى .

أنا لا أريد قتل آبائى. كل ما أتمناه أن أتجاوزهم . كم يسعدنى ذلك ، أو أتجاور معهم، دون أن أحسب عليهم ولا على جيل أو تيار ، بل على الشىء الكبير الذى شعرت أننى منذور له ولم أكن أعرف أنه القصيدة .

مقالات من نفس القسم