أشباح هنريك إبسن تصارع أقدارها

موقع الكتابة الثقافي writers 56
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيناس عيسى

“انني أكاد أظن أننا جميعا أشباح” لم تكن مسز الفنج في حالة من الهذيان عندما قالت تلك الكلمات، لكنها كانت تُجزم بشكل أو بآخر بأننا مهما حاولنا أن نصارع أقدارنا فإننا سندور حتما في فلكها، رغما عنا.

تُعد (الأشباح) أكثر مسرحيات إبسن إثارة للجدل. تلك المسرحية التي كتبها عام 1881 في مدينة سورينتو الإيطالية صارت أشهر مسرحية في أوروبا في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بسبب الجدل القائم حولها. كما أنها حققت لكاتبها شهرة تفوق أضعافا ما تحقق له بفضل 15 مسرحية أخرى كان قد كتبها قبلها. تعرضت المسرحية للرفض من قبل الرقابة السياسية والفنية وكذلك المجتمع نفسه؛ فلقد كانت تحمل أفكارا تتناقض بشدة مع الأعراف السائدة حينها في المجتمع.

ولكن لماذا كل ذلك الجدل؟ لقد كشفت الأشباح ما كان مستورا في تلك الفترة في المجتمعات البورجوازية المتوسطة التي كانت تعيش ذروة نجاحها تحت غلاف تمسكها بالمبادئ الأخلاقية. فـ (الأشباح) تتصدى لهذا كله كاشفة مجتمع تلك الطبقة ، مؤكدة أن كل ما أنجزته هذه الطبقة إنما قام على أعمدة الكذب والأقنعة. بالإضافة إلى ذلك، فلقد جعل إبسن من يقوم بتلك المهمة في كشف الأقنعة إمرأة (مسز الفنج)- الشخصية الرئيسية في المسرحية- مما كان يتناقض مع أعراف المجتمع في ذلك الوقت.

الأشباح

أنشأت مسز الفنج ملجأ للأيتام على أن يكرّس باسم زرجها المتوفى تخليدا لذكراه. يصل القس ماندرز ليعاون المرأة في عملها ويتشاور معها في ما إذا كان الأنسب التأمين على البناء أم لا؛ فاذا قاموا بالتأمين كان ذلك يعني عدم إيمانهم وضعف يقينهم، وإذا لم يقوموا بذلك عرّضوا الدار للخطر. وفي النهاية لا توافق مسز الفنج على فكرة التأمين.

يصل أوزوالد-ابن مسز الفنج- من باريس لقضاء يومين، وهو شاب تربّى بعيدا عن والديه منذ أن كان في السابعة من عمره. ولمسز الفنج خادمة تدعى رجينا هي من قامت بتربيتها، ووالد رجينا رجل سيء السمعة يدعى انجستراند، يريد أن يفتح فندقا للبحارة، ويريد رجينا أن تساعده، لكنها ترفض؛ فهي مشغولة بأشياء أخرى أهم؛ فهي على علاقة غرامية مع أوزوالد، كما أن مسز الفنج ترفض السماح لها بالذهاب.

يشعر القس ماندرز أن من الواجب عليه أن يخاطب مسز الفنج في السلوك الذي تسلكه، ويذكّرها بأنها لم تكن زوجة وفية، وأنها هجرت زرجها بعد سنة واحدة من الزواج. وهنا سرعان ما ستبدأ الحقائق بالانكشاف؛ فالقس ليس مجرد رجل دين يساعد الأرملة، بل كان حبيبها السابق الذي لجأت له بعد إهمال زوجها لها، لكنه رفض حبها بدافع ديني/أخلاقي، لكنه ظل صديق وفي. وهنا تبوح مسز الفنج للقس بأسرار حياتها الزوجية، فزوجها لم يكن ذلك الرجل حسن السمعة فاعل الخير، بل كان في الحقيقة قاسياً شهوانياً مصابا بمرض الزهري، وأن الزواج لم يزده الا فجورا بمضيّ الأيام. وهنا تظهر حقيقة أخرى لم تكن في الحسبان؛ فوالد رجينا-الخادمة- هو زوجها الكابتن الفنج وليس انجستراند، حدث ذلك بعد اعتداء الكابتن الفنج على خادمتها-والدة رجينا- في غرفة الطعام.

وما تلبث مسز الفنج أن تفرغ من اطلاع القس على تلك الأسرار حتى تسمع أوزوالد وهو يغازل رجينا في غرفة الطعام المجاورة “رجينا وأوزوالد.. أشباح والديهما”. ويُخبر أوزوالد والدته بأنه مريض بمرض تناسلي. ولما كان اوزوالد لا يعرف عن أمر أبيه شيئا إلا أنه رجل فاضل، فقد انزعج وظن أن مغامراته هو العاطفية في باريس هي التي جلبت عليه هذا المرض. ثم يبدي لأمه رغبته في الزواج من رجينا ليجعل البقية القليلة الباقية من حياته سعيدة. وما أن تلبث والدته أن تبوح له بالسر حتى تأتي فاجعة اندلاع النيران في الملجأ، بينما كان القس وانجستراند يصليان في دكان النجارة القريب من الملجأ. ويصر انجستراند أن القس قد أسقط قطعة من شريط المصباح البترولي على جانب من النجارة. ويخاف القس على مركزه الاجتماعي بسبب ذلك التهام، فينتهز انجستراند الفرصة للصيد في الماء العكر ويعرض أنه يستطيع أن يخلّصه من هذه الورطة إذا ساعده القس على أخذ نصيبه مما تبقى من مال الكابتن الفنج حتى يستطيع إنشاء الفندق الذي يحلم به.

وتفضي مسز الفنج بالسرلرجينا، ان انجستراند ليس والدها، التي تثوربدورها بشدة وتصرّح بأن من حقها أن تنشأ بوصفها ابنة الكابتن الفنج وليس كخادمة. ثم تهجر هذا الأسرة وتذهب مع انجستراند وتسلك طريق البغاء.

وتأتي النهاية باعتراف أوزوالد لأمه بأنه ليس مريض بالزهري فحسب، بل أنه مصاب بمرض خطير في مخه سيقعده عن فعل أي شيء. فيطلب منها أن تتولى قتله بأقراص المورفين، فذلك خير من انتظار النهاية البشعة، لكنها ترفض. وما يلبث الفجر أن يبزغ حتى يُصاب بنوبة قاسية تجعله يهذي. وهنا تدرك أمه أن الموت أيسر له من هذا الحالة فتنهض باحثة عن أقراص المورفين.

شخصيات تصارع أقدارها

تدور فكرة المسرحية حول التناقض ما بين حرية الارادة والحتمية، وتناقش مدى ضيق النطاق الذي تتبدى فيه حرية الارادة والاختيار في مواجهة القدر، وإلى أي مدي يكون الإنسان حر في تشكيل حياته الشخصية، وكذلك عن مدى تأثير الماضي، المتمثل في السَلَف، على الحاضر، المتمثل في الخَلَف؛ فعمل الآباء يحصده الأبناء. فيؤكد إبسن في (الأشباح) أن المرء لا يستطيع أن يتهرّب من نسله (أشباح الماضي) المتمثلة في الأفكار والسمات المتوارثة من الأجيال السابقة، وكذلك ذنوب الماضي. ويجسّد ذلك في مرض أوزوالد (الزهري) وكذلك الانحلال الأخلاقي، فهو لا يعدو سوى تِركة الخطيئة الأصلية التي قام بها والده!

لذلك فالمسرحية تؤكد أنه لا يمكن للمرء أن يهرب من ماضيه أو يتنكّر له، وأن ذلك لا ينطبق فقط على العائلة ولكن على تاريخ البشرية برمَّته. فتأتي كلمات مسز ألفنج بعد اكتشاف علاقة ابنها بالخادمة لتؤكد ذلك ” عندما سمعت رجينا وأوزوالد عناك بدا لي وكأنني أرى أشباحا. انني أكاد أظن أننا جميعا أشباح. إنه ليس فقط ما ورثناه من آبائنا وأمهاتنا هو الذي يسير فينا. انها كل أنواع الأفكار البالية، وكل ألوان المعتقدات القديمة البائدة. إنها لا تحيا بداخلنا، ولكنها تبقى معنا دائما رغم ذلك، ولا نستطيع الخلاص منها أبدا.”

الشخصيات

الشخصيات متناسقة تناسقا رائعا؛ فمسز الفنج، الشخصية الرئيسية في المسرحية، مرسومة رسما جيدا حيث يمكن تتبع حياتها منذ أن كانت ابنة مطيعة إلى أن أصبحت زوجة شابة مذعورة تعيسة في حياتها، إلا أنها عملت على الحفاظ على سمعة زوجها حتى لا يضار ابنها. تطوّرعقلها بشكل عنيف خلال سنوات معاناتها مع زوجها، فتبدلت من شخصية تقليدية تنصاع للأعراف والتقاليد لأخرى ثائرة، وساعدها في ذلك أيضا قراءة الكتب التي تحمل أفكارا متمردة والتي اعتبرها البعض خطيرة على العقول لأنها تقوم بهدم الأفكار السائدة في المجتمع في ذلك الوقت. كما أنها شخصية تحب التملُّك وتتعامل مع ابنها على أنه شيئا تملكه، خصوصا بعد أن فقدت الكثير في حياتها مما أدى لشعورها بعدم الأمان.

كذلك القس ماندرز الذي تقدمه لنا الرواية في البدايةعلى أنه شخص وَرِع، لكنه ما يلبث في النهاية أن يؤثر مصلحته الشخصية على الاعتراف بالحق عند تعرُّض سمعته للخطر، فينثني تحت الضرورة. فهو مشغول بالمظاهر الاجتماعية ويظهر ذلك في ردة فعله لكل المواقف التي يواجهها ويتصرف فيها بتقليدية شديدية. فهو يرفض التأمين على الملجأ ليس بدافع ديني ولكن لخوفه من نقد الآخرين الذين قد يتشككوا في مدى إيمانه.

بينما أوزوالد فهو فنان بوهيمي، مهووس بمرضه. يتطور على مدار الرواية من حالة عادية طبيعية إلى الجنون. يسعى لنشر أفكاره التحررية الصاخبة التى تبناها منذ أن كان في باريس مما يؤدي لاستياء القس من تلك الأفكار، بينما يتبين بعد صمت أمه المتواطيء أثناء طرح تلك الأفكار أنها لا تقل تحرراً عن ابنها في بعض أفكارها. كما تبدو رجينا فتاة قوية وذكية، وانجستراند محتال بارع وماهر في حبك الأكاذيب.

هنريك إبسن

ولد هنريك إبسن، الكاتب المسرحي والشاعر النرويجي عام 1828 في مدينة شكين، ورحل عام 1906 . كان والده تاجر أخشاب ثري إلى أن أشهر أفلاسه 1836، ولقد تبددت صور هذا الإفلاس والصعوبات المترتبة عليه في كثير من مسرحياته. كتب نحو 25 مسرحية خلال 55 عاماً، وهو يعد رائد المسرح الأوروبي الواقعي.

تقع الأشباح في المرحلة الثالثة من تطور إبسن الفني، حين كان يستمد مادته الدرامية من الحياة الواقعية، بعيدا عن الشعر والمواضيع الأسطورية. جاءت (الأشباح) بعد مسرحية (بيت الدمية) التي كتبها عام 1879 والتي أحدثت ضجة كبيرة أيضا.

مقالات من نفس القسم