أشباح نجيب سرور في رواية طلال فيصل

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قراءة: محمد عبد النبي

ما هي رواية السيرة؟ هل لهذا النمط الأدبي موضع في عالمنا العربي الذي يميلُ إلى تقديس الموتى وتنزيه سير الشخصيات العامة؟ ما حدود الحرية المتاحة للروائي عند تناوله لسيرة علمٍ من الأعلام، أهي مُطلقة كما في الروايات التي تعتمد الخيال تماماً، أم تقيّدها المعلومات والتواريخ والوقائع والوثائق؟

 

النماذج العربية المتاحة قليلة، وأغلبها يتناول شخصيات تاريخية مثل الحاكم بأمر الله عند سالم حميش في روايته مجنون الحكم، أو حتى أشدّ نأياً عن حاضرنا المعاضر مثل اخناتون عند نجيب محفوظ في روايته العائش في الحقيقة، بالطبع إلى جانب آخرين من قبلهما تناولوا سير شخصيات دينية أو سياسية على نحوٍ يُمجّد وينزّه ويرسم صورة أقرب للخرافات والأساطير فوق الواقعية لأبطالهم. لكن ماذا لو أنّ الشخصية التي تتناولها الرواية قريبة العهد من حاضرنا، ولها صورها وتسجيلاتها ووثائقها المتاحة؟ هل يزيد هذا من تعقيد التناول أم ييسره؟ وماذا لو كانت شخصية مثار جدالٍ لم ينتهِ حتى وقتنا الراهن مثل نجيب سرور؟

كل تلك الأسئلة وغيرها قد ترافق القارئ في رحلته الممتعة واليسيرة مع رواية سرور لطلال فيصل، الكاتب والمترجم شديد النشاط والاجتهاد. الرواية تستلهم عموماً حياة الشاعر المصري الراحل، وعلى الخصوص تلك الفترات التي قضاها في مستشفيات الصحة العقلية والنفسية، وقد صدرت مؤخراً في القاهرة عن دار نشر الكتب خان.

إنها الرواية الثانية لطلال بعد عمله الأول الرشيق والخفيف: سيرة مولع بالهوانم… وثمّة خيوط تمتد ما بين هذين العملين، على اختلاف طموحهما وإنجازهما، من تلك الخيوط الحرص البالغ على اعتماد لغة بسيطة وأساليب سردية سلسة، وخفّة ظل طفولية حتى مع تناول أثقل الحالات وطأة.

ويبدو كأنّ طلال فيصل مُولع بالظهور في رواياته – كما كان يميل لذلك بعض المخرجين السينمائيين، يوسف شاهين وهيتشكوك أشهر الأمثلة ـ لكنه يفضّل أن يمنح اسمه للراوي على سبيل التقنّع والإيهام بأجواء للسيرة الذاتية، ففي الروايتين يظهر طلال فيصل باعتباره الراوي الذي يصحبنا في رحلة الحكاية محطةً بعد أخرى، ولكنه في الأولى طبيب يدرس ويتخرج ويعمل ويبحث عن الجميلات، وفي الثانية صحافي لديه طموحات كتابية تتوّج – مؤخراً وهو على مشارف الأربعين – بكتابه عن نجيب سرور بعد رحلة بحث وزيجة تنتهي بالطلاق. في الحالتين طلال فيصل الذي يظهر على السطور هو أقرب إلى قناع، مجرد حيلة سردية، إنه مرشد سياحي بلا وجه خاصٍ به حتى وإن كانت له حكاية سهلة وبلا أبعاد ذات قيمة.

خيط أخير ويهمنا هنا يمتد ما بين العملين وهو التناص الذكي مع أعمال نجيب محفوظ. في سيرة مولع بالهوانم يتناص طلال (الكاتب هنا وليس الشخصية) مع إحدى حكايات كتاب حكايات حارتنا، حيث شدّ نسيجه العصري الساخر على النول المحفوظي الجليل، بعد أن جرّدها بطبيعة الحال من بُعدها الرمزي، وأضفى عليها لمسة خفة الظل والطرافة التي اكتنفت الكتاب ككل.

في رواية سرور نجد محفوظ هنا ككاتب وأيضاً كشخصية من شخصيات الرواية. أولاً ككاتب حيث ينسج طلال على منوال بورتريهات رواية المرايا، بورتريهاً لنجيب سرور بافتراض سردي مفاده أن محفوظ كتبه عند نشر الرواية أولاً مسلسلة ثم حذفه عند نشرها كتاباً. ما يثير الإعجاب اجتهاد طلال في محاكاة النبرة المحفوظية بدمغتها الأسلوبية شديدة الجزالة والأناقة، لكن البورتريه يستغرق في شخصية نجيب سرور دون أن يربطها بالنسيج المعقد والمكثف والثري لمتاهة المرايا.

ثم يظهر محفوظ كشخصية من شخصيات رواية سرور، عند زيارته للمسرح في العرض الأول لمسرحية سرور المستلهمة من روايته ميرامار، ولقائه العابر بزوجة سرور الممثلة الشابة، هذا اللقاء الذي يجعل منه سرور (المريض النفسي والمشكوك في قدراته العقلية فيما بعد) محوراً لشكوكه وتضخيمه للأمور فيكاد يجزم بأنه شاهدهما معاً في وضع جنسي فاضح. ومن جديد يذهب محفوظ لزيارة سرور في مستشفى العباسية فيهاجمه سرور بينما يحاول محفوظ . من جانبه .  إعادته إلى الواقع والعمل والحياة.

لعلّ العلاقة بين النجيبين تتسم بالتعقيد الشديد، ولعلّها بحاجة وحدها إلى دراسة أو رواية مستقلة. فمن بين أفضل ما كُتب عن نجيب محفوظ في النقد هو كتاب نجيب سرور رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ الذي أعيد نشره مؤخراً، وسرور نفسه الذي اقتبس رواية ميرامار للمسرح، ولكنه هو سرور نفسه الذي يعلن نقمته على محفوظ ويسبه علناً في قصيدته الفاضحة التي اشتهر بها للأسف.

في المشهد الذي جمع النجيبين في رواية سرور نجدنا إزاء موقفين من الوجود وليس أمام شخصين حقيقيين. على طرف هناك سرور الذي لا يساوم ويعلن كلمة الحق . أو أوهامه الخاصة .  في وجه العالم كله حتى ولو مات جوعاً وتشرداً ودفنت موهبته وطمس ذكره، وعلى الطرف الأقصى يقف محفوظ الذي يتقي الشبهات ويمحو الرائي لصالح صفاء الرؤية، ويقدّس العمل بدأب نملة موظفة عند الوجود بكامله. هذا الاختزال يضعنا أمام صعوبة أخرى لدى تلقينا مثل هذا النوع من الأعمال الروائية، يكرر علينا من جديد سؤال المسافة الواجبة بين ما يُسمى بالصورة وما يسمى بالواقع.

حين قرّر نجيب محفوظ أن يكتب عن اخناتون لم يتبن وجهة نظر واحدة ووحيدة، بل تبنى الرحلة، رحلة البحث والتساؤل، وألقى بالكرة في ملعب القارئ ليحكم هو – إن كان ولا بدّ أن يحكم – بما يراه. في روايته العائش في الحقيقة يقدّم محفوظ العديد من وجهات النظر المختلفة حول اخناتون، وشخصيته وحكايته، وعلى درب محفوظ في هذا التناول سار طلال فيصل هنا أيضاً مع نجيب سرور، حيث حاول تقديم وجهات نظر متعددة ومتنوعة لسرور، بادئاً بزوجته الروسية ساشا، ثم بأخيه ثروت، ثم بزوجته المصرية “مشيرة محسن”، وفي الأجزاء التالية قدّم بورتريه نجيب محفوظ وأوراق سرور نفسه، وقد أشار في هوامش تلك الأجزاء إلى أنها بخط يد سرور شخصياً، وإن كنتُ أظنها مجرد حيلة سردية أخرى للإيهام بالواقع، إن لم يكن قد وقع طلال فيصل على كنز حقيقي. ثم بالطبع هناك رؤية طلال فيصل، الراوي وصاحب الرحلة والذي يتشابه بالاسم مصادفةً مع الروائي المكتوب اسمه على غلاف الرواية. هذه ليست أصوات روائية نستطيع أن نلمس لكلٍ منها نبرته الخاصة وهمومه وخصوصية خبرته الحسية والإنسانية، بل هي مجرد زوايا متعددة لرؤية وجه وتجربة نجيب سرور. وإن حاول طلال أن يطعّم كل جزء بموتيفات نصية تخصه، ظلت مجرد لقاءات في ريبورتاج طويل، شهودٌ يعتلون خشبة المسرح للإدلاء بشهاداتهم حول الراحل الأسطوري.

ليس لهذا علاقة – في ظني – بالخشية من التورّط في قراءة أحادية لشخصية نجيب سرور، بقدر ما يتعلق بتفضيل المرور السريع والخفيف على الأشياء، فالاشتغال على أصوات الرواية بروية وعمق ما كان له بالضرورة أن يوقعها في الانحياز لهذا الجانب دون الآخر. تقدّم الرواية بالفعل حزمة من الإجابات على سؤال من هو نجيب سرور. ولا يوجد تناقض كبير بين بعض تلك الإجابات، بل إن سرور نفسه يتطوع في أحد المشاهد قرب نهاية الرواية لكشف اللغز أمام طبيبه النفسي بمنتهى البساطة، متحدثاً إليه عن الفارق المصطنع والوهمي بين الخيال والحقيقة. من ناحية فالحقيقة وجهة نظر، ومن ناحية أخرى امتلاك أي يقين زائف قد ينزلق بنا إلى المسلمات الساذجة والمسبقات العقيمة. هذا الاختلاف – وربما التناقض – في وجهات النظر المختلفة انعكس حتى على تشخيص الأطباء المختلفين لحالة نجيب سرور، بين الفصام أو جنون السُكْر أو الاضطراب ثنائي القطبين، وبين أحوال الفنانين المبدعين المعتادة في ظروف استثنائية خلال فترة ما بعد النكسة. غير أن مسألة انعدام اليقين بدرجة أو بأخرى في الطب النفسي لم تتوسع فيها الرواية، مخلصة لعقيدتها الأساسية في المرور خطفاً والحرص على متعة القارئ ووقته.

رغم هذا لم تتردد رواية سرور – وكاتبها بالطبع – في إنفاق صفحات كثيرة بغير حاجة، ومنها الصفحات المخصصة لرواينا المتخيّل طلال فيصل، والمحاولات المضنية لخلف توازٍ بين حياة نجيب سرور وتجاربه وحياة باحثنا الخاصة وخلفيته ورحلته في البحث عن سرور. الاستغناء عن هذا الجزء برمته ما كان ليضير الرواية في شيء، في ظني، وربما كان أتاح الفرصة لمزيد من التركيز على محور العمل وهو شخصية نجيب سرور، بما أن راوينا طلال فيصل (كشخصية في الرواية) ظلّ مجرد قائم بعمل الباحث عن الحقيقة والحالم بالخروج من دوامّات حياته الشخصية المضجرة، دون أن يشكّل مساهمة فعّالة في الرؤية. يمكننا أن نضيف إلى تلك الصفحات مطمئنين المسرحية الصغيرة التي كتبها نجيب سرور في مصحة الإسكندرية، بصرف النظر عمّا إذا كانت من كتابة سرور بالفعل أم من ابتكار الروائي وإحدى حيله السردية، فهي لم تضف شيئاً لطبيعة علاقة سرور بزوجته الممثلة التي اتهمها بالسقوط. ولولا هذا ولولا بعض الأخطاء المطبعية والإملائية التي تتناثر على طول العمل، كان من الممكن لهذا المشروع الطموح أن يخرج بلا شائبة تقريباً.

من يبحث في هذه الرواية عن إجابة لسؤال من هو نجيب سرور فلن يجد إجابة شافية، وسيكون عليه هو تكوين حُكمه الخاص بعد الإنصات لأقوال الشهود، وربما تسهم هذه الرواية سهلة القراءة بلغتها السلسة وإيقاعها الرشيق في توجيه بعض القرّاء نحو البحث عن الشاعر الراحل واستعادة أعماله، بعيداً عن قصيدته الشهيرة التي كتبها في ظروفٍ سيئة أوضحتها الرواية تماماً.

أمام كل من يتصدى لكتابة رواية عن شخصية عامة أو تاريخية مجهود مضاعف، فهو إلى جانب مجهود البحث والإطلاع وجمع الوثائق والصور، عليه أن يقدّم لنا كشفاً جديداً بخصوص تلك الشخصية، لمسة الرسّام الخاصة التي تجعل من البورتريه شيئاً آخر غير الشخص نفسه، وبالطبع غير الصور الفوتوغرافية الصالحة للأعمال التوثيقية أو المصالح الحكومية. ولا شكّ عندي أن طلال فيصل قد كدح واجتهد على مادته وعلى مصادره حتى يرسم هذا البورتريه البانورامي لنجيب سرور، فأخذ من الواقع ما أخذ وأضاف من مخيلته ما أضاف، ليطرح في نهاية الأمر أسئلة روايته، مواربةً أو صراحة: ما الحقيقة؟ هل لها وجود؟ ألا نكون جميعاً إلا مجموعة أشباح، صور متناثرة وعشوائية، أو ربما هو شبح واحد، صورة واحدة يغشاها الضباب وغير واضحة المعالم تماماً مثل صورة نجيب سرور على غلاف هذه الرواية. 

مقالات من نفس القسم