«أزمة النقد»: حفريات تاريخية – بدايات جديدة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

وائل النجمي

النقد العربي أحد الروافد الثقافية الأساسية للهوية العربية؛ فهو دال على حال العرب وتختزل فيه ترجمة أفكارهم، ويعكس كد وجهد قرائحهم – خاصة بعدما ورث النقد الفلسفة مع النظرية الأدبية المعاصرة. ومن ثم فإن النقد - باعتباره أداة للتطوير، عندما نتحدث عن أزمة فيه يستوجب الأمر اهتماما خاصا. وتثبت الملاحظة شيوع النظرة للنقد العربي باعتباره مأزوم؛ دون أن يكون هناك تحديد دقيق لأزمته؛ لذا سأحاول هنا على نحو «اجرائي – تاريخي» تشخيص أزمة النقد العربي بتقديم حفرياتها الأولى ثم العودة للمشهد الراهن، الذي يبدو من وجهة نظري أنه ينطلق نحو أزمة جديدة.

1-1 مفهوم الأزمة:

تُعَرِّف القواميس اللغوية لفظة “الأزمة” بالشدة والقحط والضيق والاطباق[[1]]، لكن معانيها السياسية والاقتصادية تشير إلى تغيرات تحدث فجأة تؤدي إلى خلخلة وعدم استقرار في الأركان الرئيسة للمنظومة مما يهدد بقائها، ويُوجِد وضعا خطيرا يمثل نقطة عدم اتزان، تجعل الوضع القائم وضع تحول يتعلق بالمصير، وترتبط غالبا بنقص في المعلومات، أما لو كانت الظروف الطارئة أقل حدة بحيث لا تصل لتهديد البقاء فإنها مشكلة، أو فاجعة أو غيرها من المسميات الأقل حدة في الخطورة، وجدير بالذكر أن مصطلح الأزمة (Crisis) مشتق أصلًا من الكلمة اليونانية (KIPVEW) بمعنى لتقرر (To decide)، وهي لفتة دالة إلى أن الأزمة تحتاج دائما إلى حلول سريعة وتدخلات حتى نستطيع الوصول إلى اتزان المنظومة، وضمان تحولها إلى أقرب نقطة استقرار بأقل خسائر ممكنة.[[2]]

ولا نجد في المصطلحات الأدبية والنقدية تعريفا أو تأريخا لمصطلح “أزمة” (Crisis) – في حدود اطلاعي؛ وإنما هناك عصور قوة وعصور ضعف، مراحل تطور وتقدم. ما الذي يجعل مصطلحا متعلقا بعلم الإدارة والسياسة أو الاقتصاد يشيع في ثقافتنا العربية للتعبير عن ممارسة أدبية- نقدية لا يوجد في داخلها تعريف للمصطلح؟ ويبدو أنه سؤال جوهري يرتبط بمجمل الأوضاع المتردية التي تعيشها الأمة العربية، فكأن المصطلح انعكاس لأزمات أخرى أكثر حدة، وأكثر تجاهلا مثل أزمات المصير والوجود والحرية والتقدم، وصراع الحضارات وصراع الأجيال وغيرها من الصراعات في هذا العالم المتغير.

سنحاول إذن أن نُقرِّب المصطلح إلى أقرب مفهوم ثقافي/فلسفي يمكننا الاستفادة منه، وإذا كانت جلَّ تعريفات “الأزمة” تشير إلى حدوث خلل والنظر للأزمة باعتبارها نقطة تحول من شيء إلى شيء آخر، فإن المصطلح الأقرب من المجال العلمي والفلسفي هو “القطيعة المعرفية” لـ((جاستون بشلار))، والذي يقوم على فكرة أن العلم يطور ذاته عبر انقلابه على مفاهيمه القديمة وتأسيسه مفاهيم جديدة، فهو لا ينمو بالتراكم كما قد نظن، فالنظرية النسبية هي انقلاب على المفاهيم القديمة، وبالتالي هي قطيعة مع كل ما كان يُعْرَف سابقا من مفاهيم علمية فيزيائية، وهي قطيعة تتم عبر البناء على المفاهيم القديمة من ناحية، وصياغة مفاهيم جديدة من ناحية أخرى. وقد نقل الدكتور ((محمد عابد الجابري)) المصطلح للثقافة العربية، لكنه أكسبه بعدا أخر خاصة مع دراسته للقطيعة مع التراث، فهنا لا يعني الحال الانفصال تماما عن التراث، وإنما يعني فهمه بشكل مغاير، بشكل غير تراثي، بشكل يتناسب مع ما بين أيدينا من متغيرات من ناحية، ويستلهم ما في التراث من جوانب لا يمكن المضي للمستقبل بدونها من ناحية أخرى[[3]]، وليس هنا مجال التوسع في مناقشة ذلك.

لكنني أوضح أن ما أطرحه هنا محاولة فهم أزمة النقد العربي، منذ ثمانينات القرن الماضي، على أنها إشكالية “قطيعة معرفية” غير مكتملة، بدأت مع بدايات عدم استقرار المنظومة النقدية بمحاولات تحديثها بروافد أكثر عصرية من النقد الاجتماعي، ثم استمرت إلى الآن؛ بل – كما سأجادل تتشكل الأن أزمة جديدة مضاعفة ومتراكمة. مما يجعل المفاهيم النقدية التي بين أيدينا الآن في حالة عدم استقرار، فهي مختلفة عن المفاهيم السائدة قبل فترة من الآن – ربما أكثر وضوحا، لكنها ليست مستقرة على النحو المطلوب، فعلى ما يبدو لا تؤسس وعيا عميقا يصلح لأن يُكَوِّن عتبة استقرار للانطلاق نحو مرحلة تالية نلمس فيها تجاوز أزمة الأولى، واستقرار الممارسة النقدية/الثقافية بشكل عام.

1-2 تشخيص الأزمة:

لعل التجلي الأكثر بروزا لمظاهر عدم استقرار المنظومة النقدية – الثقافية العربية، وجود ممارسة نقدية: نظرية وتطبيقية – عريضة لا تجد من يفهمها من القراء العرب، بل ((نجيب محفوظ)) نفسه أعلن من قبل أنه لم يستطع فهم شيء من النقد البنيوي الذي قدمته الدكتورة ((هدى وصفي)) عنه في مجلة فصول النقدية في عددها الثاني الذي صدر في يناير (1981م)[[4]]؛ وذلك لا شك مؤشر لعدم الاستقرار، وإذا ما أضفنا لذلك تعليقات العديد من القراء والأدباء في مختلف البلدان العربية، والتي تعكس ضعف تجاوبهم مع الرسومات والشروحات البيانية حول الأعمال الأدبية التي يتم نقدها باستخدام منظومة النقد المعاصر، فإننا يمكن وضع أيدينا على تشخيص وتعريف واضح للأزمة في مجال النقد العربي.

إذن فلنقل أن بلورة الأزمة: وجود ممارسة نقدية لا تلق تجاوبا جماهيريا، ولا سندا من المبدعين أنفسهم، فالمتلقي لهذ النقد لا يشعر أنه يخرج بفائدة أو قيمة منه تُيَسِّر له عملية تأويل العمل الأدبي، أو تمكن المبدع من تطوير ذاته والوقوف على أوجه الضعف والقوة في أدبه، وفي الوقت ذاته لم تعد الممارسة النقدية التقليدية مثل التي كانت موجودة قبل هذه المرحلة تلق قبولا أو اهتماما؛ لذا هو وضع متوتر يمثل حالة صراع مستمرة بين النقد الحديث الذي لا يجد من يتجاوب معه أو يفهمه من عامة المتلقين، وبين النقد القديم الذي يختفي ولا يستجيب لتطور الأدب ذاته، وفي القلب من ذلك تقف قضية العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، والعلاقة بين التراث والحداثة، والتقليدية والمعاصرة، كأطر محفزة ومنشطة لاستمرار حالة عدم الاستقرار، ولتكريس “الأزمة”.

1-3 الأسباب:

إذا كان أديب بقيمة ((نجيب محفوظ)) لم يتجاوب مع مثل هذا النقد فإلى من إذن يتوجه النقاد بكتاباتهم؟ وما الداعي لوجود نقد مختلف من حيث الآلية والأسلوب عما كان سائدا في السابق؟ لتحديد الإجابة عن هذه الأسئلة فإنه من الأهمية بمكان تحديد نقطة البداية في عدم استقرار المنظومة النقدية، وهي التي تبدأ من المفارقة الناشئة عن حالة ما لاقاه النقد الاجتماعي منذ عشرينات القرن الماضي من صدى وتجاوب وتفاعل، حتى وصل أوجه في الستينات لتتواجد ممارسة نقدية اجتماعية على أيدي نقاد مثل: ((محمد مندور)) – في مرحلته المتأخرة، و((محمود أمين العالم))، و((عبد العظيم أنيس))، و((لويس عوض))، و((حسين مُروة))، و((محمد مفيد الشوباشي))، و((رجاء النقاش))، وغيرهم، وقد استمرت هذه الممارسة حتى مع الهزة العنيفة لهزيمة 67- وإن كان بشكل بدأ يخفت تدريجيا-، استمرت في الوجود بدون منافس تقريبا على الساحة النقدية، إلى أن جاءت التحولات الاقتصادية مع الانفتاح الاقتصادي في (1974م)، فحدث إطلاق قانون الاستثمار والمناطق الحرة، والتحول الاجتماعي نحو الرأسمالية، وما صاحب ذلك من إعطاء الضوء الأخضر لمهاجمة المرحلة الناصرية، ومهاجمة التوجهات الاجتماعية، وفي ظل ذلك واجه النقاد واقعا صعبا؛ إذ عُزِل الكثير منهم، واضطر بعضهم إلي السفر، سواء إلي أوربا أو إلي البلاد العربية، ومن لم يسافر عكف علي ذاته أو هاجر إليها ــ بتعبير الدكتور ((سيد البحراوي))[[5]] – وهو ما أوجد حالة من الفراغ في الممارسة النقدية، وبالتالي أوجد حالة من عدم الاستقرار في المنظومة النقدية بتفريغها من نقادها، في الوقت الذي كانت فيه النزعة العلمية والمشكلات المنهجية تُطرح بشدة في الساحة العربية كرد فعل لحالة عدم الفهم السائدة للموقف العربي بعد حرب اكتوبر (1973م)، فالمفاوضات أربكت الرؤية المنتصرة على العدو الصهيوني.

لكن الحال لم يكن مشابها علي المستوى الابداعي في الأدب؛ إذ كان هناك طرح أدبي قوي، له سماته الخاصة، يقول الدكتور ((غالي شكري)): ((وكانت المفارقة طيلة السبعينات أن هناك أدبا جديدا في مصر ارتاده شباب الستينات، وأضافت إليه أجيال جديدة بعض الملامح، ولم يجد من التحليل والتقويم والمتابعة الدقيقة الصبورة ما يبلور اتجاهات نقدية واضحة.))[[6]]؛ إذن هناك فراغ نقدي في مواجهة طرح إبداعي جديد ذي ملامح مغايرة، فهناك مبدعون مثل: ((إدوار الخراط))، و((سليمان فياض))، و((صنع الله إبراهيم))، و((غالب هلسا))، و((جمال الغيطاني))، و((يحيى الطاهر عبد الله))، و((إبراهيم أصلان))، و((علاء الديب))، و((بهاء طاهر)). وهناك الموجة الإبداعية التالية التي تمت مع السبعينات، من أدباء أمثال: ((حلمي سالم))، و((رفعت سلام))، و((محمد فريد أبو سعدة))، و((حسن طلب))، وغيرهم في مجال الشعر. و((فتحي إمبابي))، و((نعمات البحيري))، و((هالة البدري))، و((يوسف أبو رية)) وغيرهم في مجال الرواية والقصة. وفي المقابل رحل وعُزِل وطُرِد وصمت أغلب النقاد الذين كانوا متصدرين الساحة النقدية من قبل؛ ولا شك أن هذا الوضع كفيل بخلق العديد من المشاكل أمام الممارسة النقدية، وأمام النقاد الذين اضطروا إلي التعامل مع التغييرات الأدبية فيما بعد.

ويبدو منطقيا في ظل هذه التغيرات أن يتوجه النقاد الجدد إلي نظريات نقدية أخرى غير التي كانت موجودة سابقا في مخزون الممارسة النقدية العربية؛ نظرا لطبيعة المشكلات الأدبية والإبداعية التي فرضت عليهم استجابة تجاهها، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة التغيرات السياسية- الاجتماعية التي مرت بها الأمة العربية – منذ الهزيمة العسكرية ومرورا بالصلح والتطبيع والانفتاح – من ناحية ثانية، ولِمَا انفتح عليه أفقهم من نظريات نقدية غربية، تعد بتحقيق العلمية، وبها من الإمكانات والصرامة المنهجية ما يوائم مشكلات الأدب الجديد – حتى إن كان منظرو هذه النظريات الغربية الأصليين قد تجاوزوها -، ويفي بالمقتضيات التخصصية الأكاديمية لهؤلاء النقاد من ناحية ثالثة، جاء رد الفعل تجاه ذلك متبلورا في توجه النقد العربي إلي “البنيوية”[[7]] في ثمانينات القرن الماضي.

ومن خلال تأمل هذه الأوضاع فإنه من الممكن فهم سبب عدم انتشار “النقد البنيوي” علي نحو واسع في “النقد العربي” في فترة سابقة عن حقبة الثمانينات رغم معرفة النقاد به. فالممارسة النقدية العربية لم تكن بحاجة إلي نظريات جديدة قبل هذه التغيرات التي أثرت عليها، بل العكس من ذلك هو الصحيح. إذ كانت هذه الممارسة مكتفية وممتلئة بالنقاد ذوي التوجه الاجتماعي؛ وفي ظل هذا الوضع المُسْـتَقِر ليست هناك حاجة إلي توجهات جديدة، فشرط المثاقفة هنا لم يتحقق بعد؛ لذا فإن مما له دلالته في تلك الفترة أن ((محمود أمين العالم)) كان قد نشر في عام (1966م) مقالا عنوانه: ((نقد جديد أم خدعة جديدة؟)) في مجلة ((المصور))[[8]]، قدم فيه “البنيوية” من منظور معادي لها، ينطلق من وجهة نظر ((ريمون بيكار)) في مقاله الذي هاجم فيه ((رولان بارت))، والذي جاء بعنوان ((نقد جديد أم دجل جديد))، وهو العنوان الذي استلهمه ((أمين العالم)) هنا، وبرغم أن “البنيوية” كانت تُعَدُّ النظرية النقدية الأساسية في فرنسا في ذلك التوقيت، وبرغم ما أثارته من جدل ونقاش واسع، إلا أن ((العالم)) لم يتابع التعليق عليها أو تقديمها، مكتفيا بمهاجمتها في مقاله هذا.

إذن التوجه إلى “النقد البنيوي” في النقد العربي كان محكوما بالظروف التي أدت إليه، وليس محكوما بمجرد رغبة التحديث أو النقل أو الاستعارة أو الاقتباس من الآخر الغربي كما قد يتوهم البعض، ومما يؤكد صحة ذلك أنه في الفترة نفسها التي تم التوجه إلي “البنيوية” في النقد العربي، كان هناك نظريات أخرى جاءت بعدها وتعد أحدث منها في خط التطور الزمني في العالم الغربي، وبرغم ذلك لم يتجه النقاد إلي هذه النظريات، ولو كانت القضية مجرد اقتباس ونقل؛ لكان الأولَي أن يتم التوجه إلي الأحدث، لكن هذا لا يمكن حدوثه علي الصعيد الثقافي؛ لكون التلقي محكوم بطبيعة ما تفرضه اللحظة التطورية، وليس خاضعا لمجرد الرغبة في المتابعة والمسايرة؛ لذا لا أوافق النظرة التي يطرحها الكثيرون بوجود مؤامرة على الثقافة العربية عملت على الادخال القصري لمثل هذه النظريات لإخراج الثقافة العربية من هويتها، بل يصل الأمر عند البعض باتهام جهات مخابراتية بالوقوف وراء مثل هذا النوع الثقافي كما هو الحال عند الدكتور ((عبد العزيز حمودة))، ورغم أني لا استبعد وجود رغبة بعض الثقافات في سيادة مفاهيمها وهيمنتها على ثقافات أخرى كعلامة للغزو والظفر الثقافي، ولا استبعد أن تتخذ في ذلك كل السبل بما فيها السبل المخابراتية، إلا أن الشاهد يؤكد أنه يستحيل لثقافة ما أن تقبل في داخلها عناصر غير متوافقة مع احتياجاتها ومتطلباتها، وأنه مهما كانت هناك محاولات قصرية إلا أن الاحتياج الثقافي هو ما يفرض نفسه على المسيرة التطورية في النهاية.

ومن ناحية أخرى، هناك بُعْدٌ يجب أخذه بعين الاعتبار. ففي بداية الستينات من القرن الماضي ذهب الكثيرون من شباب أساتذة الجامعات المصريين إلي أوروبا وأمريكا لدراسة اللغويات، وكان يتوقع منهم بعد عودتهم أن يسهموا في دفع وتطوير اللغويات العربية، لكن للأسف – وكما يقول الدكتور ((عبد العزيز حمودة)) أيضا – لم يستطيعوا القيام بذلك علي النحو المطلوب[[9]]، وهو ما جعل الناقد العربي الذي يحاول أن يتفاعل مع النظريات النقدية الحديثة، ونظرا لطبيعتها الخاصة في اعتمادها علي أصول “الألسنية” و”علم اللغة”، مفتقدا لرصيد هام من تطبيقات “الألسنية” و”علم اللغة” في “اللغة العربية” ذاتها، وهو ما كان له تأثير سلبي من ناحيتين: فأولا: علي الناقد أن يحاول تفادي هذا النقص، وعليه أن يحاول الاستفادة من “الألسنية” في تحليل لغويات النصوص التي سينقدها دون وجود مساعدة من علماء لغة وألسنيين عرب، وذلك وحده ألقي من الثقل علي النقاد ما ألقاه، وثانيا: توجه النقاد إلي قارئ عربي ليس لديه أدني فكرة عن “الألسنية” و”علم اللغة”، فكيف يمكن لهذا القارئ أن يتواصل مع الطرح العربي “للبنيوية” وهو لم يرَ “للألسنية” إنجازاتٍ في مجال اللغة ذاتها، وكيف له أن يفهم حُلم العلمية والمنهجية الكامن في النظريات الأدبية المعاصرة، وهو لم ير ذلك يتحقق علي مستوى البحث اللغوي الذي تستعير “البنيوية” أصولَها منه، وكما يقول الدكتور ((محمد ولد بوعليبة)) فإنه من الصعب وجود ((بارت)) عربي قبل وجود سابق ((لدي سوسير)) عربي[[10]]، فما بالك بقارئ لا يعرف شيئا عن كليهما، أو يرى مثليهما في النقد العربي.

وبهذا الوضع من حالة فراغ نقدية، وقصور في الإسهام الألسني واللغوي من علماء اللغة العرب، ورغبة تعجل شديدة، بدأ طرح “البنيوية” وما بعدها من نظريات نقدية بشكل قوي وعلي نحو واسع في ثمانينات القرن الماضي في مجلة ((فصول)) النقدية، وهذا الطرح نفسه في هذه المجلة تأثر بروح الأكاديمية التي بها الكثير من السلبيات كما يرى الدكتور ((البحراوي))، يواصل قائلا: «وأيا كان مصدر التوجه فقد تم تقديم معرفة واسعة بالنقد الأدبي في العالم الغربي كما سبق القول. غير أن هذا التقديم، قد اتسم هو الآخر بطابع الأكاديمية، بكل مشكلاتها في مصر. فسواء كان هذا التقديم ترجمة لمقال أو عرضا لكتاب أو دورية، أو كتابة عن منهج أو نظرية، فإن الطابع الغالب عليه، كان التبسيط المخل من ناحية، والغموض من ناحية أخرى، وعدم فهم الأصول في كل الأحوال. فمن خلل وتضارب في ترجمة المصطلحات إلي تناقض في الجزئيات، والسياق الذي تنبع منه النظريات وتجيب عن أسئلته، سواء كان سياقا ثقافيا أو سياسيا أو اجتماعيا. وكل هذا أوقع القارئ العربي الذي لا يجيد الاطلاع علي اللغات الأصلية المنقولة عنها والذي أخذته الدهشة والانبهار، في حالة من الصنمية إزاء المقَّدم الذي لا يفهمه.»[[11]].

لذا فقدت “البنيوية” منذ البداية تواصلها مع القارئ العربي، ولا أدل على ذلك من أن كاتبا بقيمة ((نجيب محفوظ)) لم يستطع فهم شيء من النقد الذي قُدِّم عنه في هذه المجلة وفقا لما قاله الدكتور ((عز الدين إسماعيل)) كما أشرت.

ونظرا لكون أغلب من قدموا “للبنيوية” وتبنوها في “النقد العربي” قد تَعَرَّفُوا عليها في سفرهم إلي الدول الغربية في لغاتها الأصلية، وهو ما لم يكن متاحا لباقي المثقفين في الداخل العربي؛ فقد حدث نوع من الانقطاع في التواصل مع “البنيوية”، سواء علي مستوي القراء العاديين، أو علي مستوى المثقفين أنفسهم، تأمل مقولة الدكتور ((حمودة)) التالية: «كان ذلك الانبهار، كما قلت، خالطه طوال الوقت شعور عميق – لم أفصح عنه حتى اليوم – بالعجز: العجز عن التعامل مع هذه الدراسات البنيوية، وفهم أهدافها، بل فهم وظيفة النقد ذاته في ظل المصطلحات النقدية المترجمة والمنقولة والمنحوتة والمحرفة التي أغرقونا فيها لسنوات»[[12]]، وهذا هو حال أستاذ أكاديمي له من الثقل والوزن والمعرفة باللغات الأجنبية ما له، فما بالك بحال القارئ العادي والمثقف أو المبدع الذي لا تتيسر له سبل الاطلاع على المصادر الأصلية.

ولا شك أن كل هذا أثَّر سلبا علي الممارسة النقدية الجديدة التي تصدرت المشهد الثقافي منذ نهاية حقبة النقد الاجتماعي، فأوجد مواقف متباينة تجاهها، وصلت إلي حد التوثين والتكفير وفقا لأسس دينية[[13]] باتهام هذا النوع من النقد بالكفر، وإلي إيجاد رغبة في محاولة إنشاء نظريات علي غرارها، ذات طابع وطني قومي – وربما إيماني![[14]]، وغير ذلك من المواقف التي تناولتها بالتفصيل في مواضع أخرى، لكن الملاحظ أنه حتى في المواقف الرافضة “للبنيوية” كان التأثر بها – بنحو أو بآخر – موجودا وحاضرا، وهو ما يثبت أن التعامل مع الوافد الثقافي يتم بطريقة تفاعلية، وليس بطريقة آلية حتى في حالة رفضه الواعي العمدي المقصود علي ما يبدو، وبالتالي فإني أرى هنا أن في اختلاف المواقف وتباينها من النظريات الجديدة، وفي اختلاف وجهات النظر التي قُدِّمَت حولها من نقادنا، دليلا علي التفاعل، ولا يمكن في هذا الصدد الحكم علي هذه المواقف من منظور الصحة أو الخطأ، وإنما يَجْدُر تحليل هذه المواقف باعتبارها روافد جديدة لمحاولة استقرار منظومة النقد.

فالطريف أنه لم يطلب أيا من هؤلاء النقاد بعودة النقد إلى ما كان عليه في الستينات أو الاربعينات، مما يعزز مفهوم أننا في حالة “قطيعة معرفية” لم تكتمل، ومن ثم فإنني أحدد أسباب أزمة النقد العربي بوجود حالة فراغ نقدية بعد رحيل نقاد الاتجاه الاجتماعي، وتطوير أدباء الستينات والسبعينات لتقنياتهم اللغوية والابداعية بما لم يعد يمكن للنقد القديم احتوائه في أسلوبه التقليدي، وتعرف النقاد الأكاديميون الجدد على الممارسة النقدية الحديثة في الجامعات والأكاديميات الغربية وعدم قدرة المثقف العربي التواصل مع هذه النظريات لعدم توفر مراجعها الأصلية وعدم الأمانة في النقل، وعدم قيام اللغويين العرب بدورهم المنوط بهم في تحقيق طفرة لغوية تحقق المراد، أضف إلى ذلك جرح الكرامة العربية مع العولمة وصراع الحضارات مما جعل البعض يتعامل بمبدأ الريبة مع أية تحركات ثقافية أو اجتماعية تنفتح على الآخر الغربي.

1-4 أزمة جديدة:

قد يكون المتوقع أن أعمد إلى تقديم مقترحات للتعامل مع الأزمة بعدما عرضت لها ولأسبابها، لكن الحقيقة أني أقدم رؤية نقدية تعتمد على رصد الممارسة السائدة في الواقع، وليس على رؤية فلسفية مثالية؛ والرصد الواقعي يشير إلى بداية استقرار المنظومة النقدية في الفترة الأخيرة، فالمصطلحات التي كانت تمثل حجر عثرة في التواصل مع النقد الجديد مثل: “البنية” – “الشفرة” – “التغريب” – “الحبكة” – “التحفيز” – “الدلالة” – “العلامة” – “الاعتباطية” – “السياقات الدالة” – “عتبات النص” – “التبئير” – “المنظور” “التناص” – وغيرها بدأت في الاستقرار والوضوح في أذهان المتلقيين، وبدأت في الاستقرار في الكتابات النقدية والدراسات الأكاديمية، وهو ما يَعِدُ بتحقيق “القطيعة المعرفية” بشكل ناضج وواعي، لكن الآن تتبلور على الساحة النقدية العربية في أرض الممارسة بوادر أزمة جديدة تهدد بعدم دخول مرحلة الاستقرار، تهدد بخسران ما تم اكتسابه من استقرار للمنظومة النقدية-الثقافية، وجذور هذه الأزمة تتمثل في المنتديات الالكترونية وعالم الانترنت.

فالآن يتاح لكل من يشاء وفي أي وقت يشاء نشر أي شيء باعتباره أدبا، وفي المقابل يتاح بالقدر نفسه التعليق والتعقيب على تلك الأعمال المنشورة الكترونيا، وهو ما يوجِد توسعا في قاعدة الممارسة النقدية بشكل لا يمكن حصره ولا يمكن السيطرة عليه، وإذا كانت ثمرة النقد الأدبي أن يمارسه نقاد أصحاب خبرة ودراسة وذوق؛ فإن هذا الوضع يوجد براحا يصعب معه معرفة صاحب الكتابة والتعليق، فثقافة المنتديات ثقافة شعبية وليست نخبوية، ثقافة تخلو من المرجعية، ومع سوء المناهج التعليمية، وضعف القدرة على الاطلاع على الثقافة الغربية – رغم تيسر سبلها في ظل عالم التكنولوجيا – وفي ظل انكفاء حركة النقد العربي على نفسها، فهي لا تحاور الآداب الأخرى، ولا تحاور النقد أو الثقافات الأخرى، وتبخل على نفسها أن تتوجه للقارئ العربي، فهي حركة تخاطب نفسها ولنفسها فقط في الغالب، وهو ما لم يعد موجودا في الثقافات غير العربية، ويكفي أن نذكر أسماء مثل ((امبرتو أيكو)) ((جاك دريدا)) ((رولان بارت)) ((بول ريكور)) ((جوليا كريستيفا)) وغيرهم لنعرف إلى أي مقدار أصبح الأمر الآن عالميا وكونيا أكثر منه محليا، كما أن عدم تقبل الأدباء العرب للنقد، وعدم ترحيب الكثير من الدوريات والجرائد بإفراد مساحات للنقد، وإهمال الاعلام للحاسة النقدية وللدور النقدي، كل ذلك يعد بأننا على أبواب أزمة جديدة أشد تفاقما من الأولى وأكثر ضراوة، فالباب الآن مفتوحا أمام وجود ممارسات نقدية تسير بشكل أكثر سرعة في طريق الانفصال والتقوقع على ذاتها، ولا مناص لمواجهة ذلك إلا بوجود حركة نقدية حقيقية تجعل همها الأساسي التواصل مع الجمهور أكثر من اثبات نخبوية أصحابها، حركة تعمد إلى التطبيق بالتوازي مع التنظير، وتستطيع أن تقدم للقارئ ما يمكنه من تأويل النص، وللمبدع ما يستفيد منه في تطوير نفسه، بعدها يمكن للنقد أن يمض نحو استقلالية ذاته كنص خاص بنفسه، كإبداع ثان موازي للإبداع الأول، وإلا فإننا بإزاء موجة من التنكر لجل هذه الممارسة النقدية تنظيرا وتطبيقا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]-) راجع: لسان العرب مادة: أزم، والقاموس المحيط، ومقاييس اللغة المادة نفسها، والعباب الزاخر مادة لمس.

 -[2] محمد صدام جبر: ” المعلومات وأهميتها في إدارة الأزمات “، المجلة العربية للمعلومات، 1998، تونس، ص66. وأنظر أيضا:  Random.h.(1969) .Random House Dictionary Of English Language, New York, Random House, P.491.

[3]- د.محمد عابد الجابري: نحن والتراث،  ط6، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، أبريل 1993م، صـ9-18.

[4]- د.عز الدين إسماعيل: أما قبل، فصول مجلة النقد الأدبي، المجلد الأول، العدد الثالث، القاهرة، أبريل 1981م، صـ5.

[5]- أنظر: د.سيد البحراوي: البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث، دار شرقيات، القاهرة، 1993م، ، صـ106-107.

[6]- د.غالي شكري: برج بابل: النقد والحداثة الشريدة، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1994م، صـ119.

[7]- قدمت في كتابي : تلقي البنيوية في النقد العربي: نقد السرديات نموذجا، الصادر عن دار العلم والايمان بكفر الشيخ، 2009م، شرحا وافيا عن البنيوية في الفصل الأول صـ15-90.

[8]- أنظر: د.جابر عصفور: نظريات معاصرة، مكتبة الأسرة، [الهيئة المصرية العامة للكتاب]، القاهرة، 1998م، صـ85.

[9]- د.عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة: من البنيوية إلي التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، [عدد (232)]، الكويت، 1998م، صـ143.

[10]- د.محمد ولد بوعليبة: النقد الغربي والنقد العربي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002م، صـ141.

[11]- د.سيد البحراوي: البحث عن المنهج في النقد العربي الحديث، مرجع سابق، صـ107.

[12]- د.عبد العزيز حمودة: المرايا المحدبة: من البنيوية إلي التفكيك، مرجع سابق، صـ13.

([13]-) أنظر: عبد الحميد إبراهيم: نقاد الحداثة وموت القارئ، مطبوعات نادي القصيم الأدبي، ،بريدة، 1415هـ، صـ38.

 

([14]-) أنظر: د.مصطفي ناصف: النقد العربي: نحو نظرية ثانية، سلسلة عالم المعرفة، [عدد (255)]، الكويت، 2000م، صـ9.

 

مقالات من نفس القسم