أزمة النقد/ أزمة الوطن(9) صناعة الناقد الشاب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

لأننا نعاني من فراغ نقدي لا خلاف عليه، يتطلع المهتمون بالأمر إلى الشباب لصناعة أجيال قادرة على ملء الفراغ وسد العجز في ميزان النقد، ولأن الشباب (في كل زمان ومكان) نتاج عصر، و محصلة مشروع، ووسيلة تطور، ومظهر من مظاهر تقدم الأمم أو تراجعها.

لن أدخل القارئ في مقارنة بين شباب الأمس (البعيد أو القريب) وشباب اليوم لإثبات تقدم اللاحق أو تأخر السابق أو العكس، وإنما لنقف عند الأشياء وفق منطقها الخاص ذلك المرتبط بزمنها وبقوانين حدوثها.

فقط علينا مساءلة اللحظة وملابساتها، ومساءلة واقع نشكوه لأنفسنا ونضج به كأنه خلق نفسه فكان مسؤولا عن خيباتنا وضعف مستوى النقد والنقاد دون التفكير في الأسباب أو المظاهر وكيفية تجاوزها فنغالط أنفسنا حين نرتكن لأوهام تفضي إلى غير ما نتوقع أو نحلم إن كنا مازلنا نفعل ذلك، وفاتنا أن الناقد أصبح صناعة تماما كصناعة المهندس أو الطبيب أو المفكر، وأن العلم الآن فرض قوانينه وتطبيقاته على كل أنشطة الإنسان غير أننا ننشغل بما هو سطحي على حساب ماهو أعمق وليس أدل على ذلك أننا لا نفكر في كيفية صناعة الناقد، ويكتفي البعض بالاعتقاد اليقيني فيما هو وهم واضح، فعلى سبيل المثال يعتقد بعض الباحثين القاهريين ( الذين يقيمون في القاهرة أو يفدون إليها ) أن البقاء أطول وقت ممكن على أحد مقاهي المثقفين ( زهرة البستان نموذجا ) سيمنحهم صك المرور إلى عالم النقد، فيما يعتقد الآخرون أن ارتياد الندوات والصالونات والتعرف على أكبر قدر من الأدباء والمبدعين والتردد على مجالسهم سيفتح له أبواب النعيم النقدي ويؤهله للحكم على النصوص

باستثناءات ضعيفة جدا يعاني الباحثون الشباب في النقد من ضعف المستوى الذي يتبدى أول ما يتبدى في مجموعة من المظاهر، وكتلة من العوامل المؤدية إلى الضعف، منها :

  • افتقاد الثقافة العامة أو ما يتسبب فيما يمكن الاصطلاح عليه بالأنيميا الثقافية، سببها أن الكثيرين منهم يعتمدون على مصدر فكري واحد (يقرأ في نوع واحد أو في فن واحد دون سواه، وتكون قراءته قراءة لاهثة غير هاضمة ) آخذا من الأشياء بأطراف أصابعه ( هذا إن قدر له أن يأخذ ).
  • يتخصص الواحد منهم في نوع أدبي محدد فلا يمتلك مرجعية فيه (كيف لمتخصص في الرواية أن يكون باحثا متخصصا دون قراءة أساطين الرواية في العالم وهناك أسماء وروايات لا تعد نفسك متخصصا في أو حتى مهتما مالم تكن قرأتها على سبيل المثال (تولستوي- ديستوفسكي – فيكتور هيجو – هيمنجواي – ماركيز – كازنتزاكيس – ريبريانو – نجيب محفوظ وغيرهم الكثير) كما أن هناك روايات بعينها تأخذ الوضعية نفسها، وهو مظهر ممتد من الأساتذة فكثير منهم ينطبق عليه الحكم نفسه حيث يتخصصون في السرد ولم يعرفوا ولو القليل من الأدب العالمي .
  • انعدام الطموح إلى تشكيل وعي نقدي يليق بالذات في احترامها لنفسها قبل أن يليق بالعالم أو باللحظة التاريخية عملا بمبدأ أؤمن به كثيرا يبلور سعي الإنسان للتميز: ما كان بإمكان غيرك أن يفعله لا تفعله، إن سقف الطموح المنعدم لدى كثير من الشباب يجعلهم يقفون عند الحد الأدنى من عوامل التميز.
  • افتقاد القدوة في كثير من الأحيان (علينا الاعتراف بمصطلح الكثير) فكثير من الشباب صنيعة أساتذة كان البحث العلمي (ومازال بالنسبة لهم) مجرد وظيفة يؤدونها وقت الفراغ بطريقة موظف الحكومة الذي يؤمن بأن راتبه مضمون سواء عمل أم لم يعمل وهو ما يسرب الكثير من المفاهيم المغلوطة لدى كثير من شباب الباحثين.
  • إلحاقا بالمظهر الرابع الكارثة الكبرى أعني تفشي ظاهرة السرقات العلمية بين الكبار وهو ما ينعكس بكل سلبياته على الأجيال التالية، والظاهرة تتحمل مسؤوليتها كل الجامعات التي شهدت وقائع شبيهة والتزمت الصمت، وهي وقائع انتشرت حتى أصبحت قاعدة لم تسلم منها معظم الجامعات ( كتبت عن كثير منها حتى ضقت بالكتابة فلا أحد يهتم بمساءلة السارق ورؤساء الجامعات الذين توجه إليهم المسروق منهم بشكاوى التزموا إزاءها الصمت المريب ) وهناك عشرات الوقائع التي لم يكلف فيها مسؤول نفسه بمساءلة السارق أو اتخاذ أي إجراء ضده وهو ما شجع صغار الباحثين على السير في الاتجاه نفسه دون خوف، وقد طور بعضهم منهج أساتذتهم في السرقة (السرقة من رسائل سجلت في جامعات خارج مصر توسيعا لدائرة السرقة وتطويرا لمنهج السابقين الذين اشتغلوا على الجامعات المحلية ) .
  • التعامل مع المناهج النقدية بطريقة التعامل مع الموضة وهو ما ظهر واضحا في الدراسات الأسلوبية أو التي تدعي الدراسة الأسلوبية حيث عشرات الرسائل التي تضمن عنوانها إشارات لأسلوبيتها وهي لا تمت بصلة للأسلوبية ولا يعرف أصحابها شيئا من قواعد الدراسة الأسلوبية.
  • التعامل بسطحية مع النصوص محل الدراسة وكأن البحث العلمي لم يتطور خلال عقود، كان من المنطقي أن الأجيال السابقة تقيم رسائلها العلمية على كم كبير من النصوص الروائية مثلا أو عدد كبير من دواوين الشاعر محل الدراسة وهي أجيال انتشرت بينها المناهج الموضوعية ( التاريخي – النفسي – الاجتماعي وغيرها من المناهج) فإن التطور الطبيعي يجعل جيل الشباب أقرب للمناهج النصية ( البنيوية – الأسلوبية – التفكيكية – السيميائية – التلقي وغيرها )، وهو ما يجعل منهجا واحدا قادرا على قراءة النص بعمق، كما يجعل من المنطقي أن تقوم دراسة علمية على نص واحد وأن تقوم عدة دراسات على نص واحد أيضا ، وهناك مناهج نادرة الاستخدام بين الباحثين مخالفة لمنطق التطور إذ هي مناهج أقرب لروح العصر ولتكوين الأجيال الجديدة.
  • بدعة المنهج التكاملي القائم على إنتاج كوكتيل من المناهج كان من الممكن قبولها منذ عقود غير أن التطور الطبيعي للعلوم الإنسانية جعل الفكر النقدي يتجاوزها لصالح مناهج أكثر تعمقا في قراءة النص والوقوف على جمالياته ورصد العلاقات القائمة بين عناصره، ولكن غير المفهوم أن يظل الباحثون الشباب على وفاء أساتذة أساتذتهم لمناهج عفا عليها الزمن وهو ما يؤكد التراجع عن مكتسبات العصر.

وللحديث بقية.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)